المرأة العنكبوتية.. داخل الغرف المغلقة

 رحاب يوسف| فلسطين 

أكثرُ احتياجاتِ الإنسان أن يكون مع امرأةٍ، امرأةٍ تكون المَلاذَ لتَعَبِه، الدواءَ لمَرَضِه، الارتواءَ لعَطَشِه، عُكّازَ شيخوخَتِه ، شاطِئَ أمانِه، وطَنَهُ في المنفى، نبضُ قَلبِها كأمواج البَحر يَعلو ويَهبِطُ باسمِه، حضنهُ في الوَحشة، وأُنسهُ في الوحدة، مَخزن أسراره، مقبرة أوجاعِه، تسيرُ معه حيث يسير، مَوقِدهُ في الشتاء، تُحِسُّ به كما يُحِسُّ الشاعرُ بأفكاره، تُغَلِّفُه بعيونها، طَيفه لا يُفارِقُها، ذِكرُه على شفتيها، تَحكي له الحكايات كحكاياتِ أمٍّ لطفلِها قبلَ النوم، خَمرَة كأسِه المملوء بالعواطف.
الحياةُ كالبحر، والزوجُ والزوجةُ يسبَحان في بحرِ الحياة، والزوجةُ الداخلةُ الى بحرِ حياةِ زَوجِها إما أن تكونَ طَوقَ نجاةٍ له، كالسيدة خديجة – رضي الله عنها – لما جاءها الرسولُ يقول: “زمِّلوني”، قالت: واللهِ لن يُخزِيَكَ اللهُ أبدا , يستشعرُ الزوجُ أنَّ لهُ مَن يَتَلَقَّفهُ في الشدائد، هيَ وسيلةُ إنقاذٍ له على الدهر لا عليه، هي غذاؤهُ ودواؤه، وإما أن تكونَ أكياسَ رِمالٍ مَربوطةٍ بقدَمَيه، يَسبَحُ ليَصِلَ إلى الشاطئ ولا يستطيعُ؛ لأنّها مُثقَلَةٌ عليه، دائما مُقَطِّبَة الحاجبين، منّانّة تَمُنُّ عليه بأخيها، وأبيها، وعمّها، وزنّانة دائِمَة الشكوى، تَتَذَمَّرُ مهما قَدَّمَ لها.
هناك المرأةُ العَنكَبوتيّةُ في السلوك، تَفضَحُ زَوجَها لأهلِها وصديقاتِها، لا تَستُرُهُ، تُشبِهُ أنثى العَنكَبوت، تَظُنُّ أنَّ بَيتَها مستورٌ، وما هوَ إلا على الملأ، بعد أن تُزَفَّ أُنثى العنكبوت إلى ذَكَرِها تُقَطِّعُهُ إِرَباً، ففي عِلمِ الحَشَرات عندما يَتَزَوَّجُ ذَكَرُ العنكبوت يُقَدِّمُ لزَوجَتِه هَدِيَّةً، وهي عبارةٌ عن حَشَرَةٍ مَلفوفَةٍ ؛ ليحمي نَفسَهُ، لكنها تَقتُلُه، والله وَصَفَ بيتَ العنكبوت بأوهَن البيوت، فمُجتَمَعُ العَناكِب قائمٌ على الكراهية، يَقتُلُ القِيَمَ والإيجابيّات، عالَمٌ فَقيرٌ، يَفضَحُ ولا يَستُر.
بَعضُ النساء يَكفُرنَ بالعشير، فترى الزوجَ يُنفِقُ ويَفعَلُ ما يَفعَلُ، لكنَّهُ لا يَلقى “جزاكَ اللهُ خيراً”، والمَرأَةُ راعِيَةٌ في بيت زَوجِها، تَصونُ أولادَهُ، ومالَهُ وعِرضَهُ، لا لفّافَة، تَلُفُّ البيوتَ، والحارات، وتخرُجُ دون إذنِه، وإنْ سأَلَها: أين تذهبين؟ تقولُ له: لا شأنَ لكَ، ولا تدري أنَّ بصَنيعِها هذا تَدخُلُ النارَ، كلّما زادَ ثمَنُ الجواهِرِ كانت بعيدةً عن الأعيُن – كما الدُّرَرُ في قاع الخِلجان – نرى اليومَ كيف يَعلو صُراخُ المَرأةِ في البيت، والشارع، والأسواق، بطريقةٍ حادَّةٍ عنيفةٍ، فالحياءُ شُعبَةٌ من شُعَبِ الإيمان.
لقد وصَلَ حَدُّ الجُرأةِ بامرأةٍ رأيتُها تُرضِعُ ابنَها أمامَ بيتِها على مرأى المارَّةِ، وأُخرَياتٍ يَشرَبنَ (الأرجيلةَ) في المطاعم، وبعضُهُنَّ يَعرِضنَ صُوَراً خادِشَةً على صَفَحاتِهِنَّ في مواقع التواصل الاجتماعي.
المرأة القاسيةُ المُستَرجِلَةُ تُسَيِّرُ الجميعَ برأيِها، وتَتَفَرَّدُ بالقرار، ظانَّةً أنّها بلقيسُ – مَلِكَةُ سَبَأ – مع أنَّ بلقيسَ كانت تستَشيرُ المَلأ، قال تعالى على لسانها: “قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ” النمل (23)، فالمَرأَةُ قاسيَةُ القلبِ، تستعبِدُ زَوجَها، وكأنَّها اشتَرَتهُ من سوقِ النخّاسين، تَسحَقُ رُجولَتَهُ بجَبَروتِها، تُبيدُه، فيَتَهاوى في نَظَرِ أهلِه، فتراهُ مُنكَسِراً ذليلاً شاحِباً.
لقد كان أسوأُ ما رأتهُ عَيني عندما قال أحدُهم لأهلِه إرضاءً لزوجَتِه: “أنا حِمارُ زوجتي”، تريدُ أن تعيشَ راحَتَها وسعادَتَها على حِسابِ تَعَبِه، تُقَيِّدُه بمُتَطَلَّباتِها ومَلَذَّاتِها، لا تُصغي إلاّ إلى صوتِ تَجَبُّرِها، حتى تُحَوِّلُه إلى هَيكَلٍ من أحزانٍ، فيصبحُ لا شيءَ، عندما سَلَبَتهُ أفكارَهُ وعواطِفَهُ تجاهَ أهلِه، يَستَرِقُ لحظَةً في المساء ليُهاتِفَ أمَّهُ، وإن التقى بأختِه لا يستطيعُ أن يَرُدَّ عليها السلام، يَتَخَيَّلُ زوجَتَهُ شَبَحاً مُرعِباً في كلِّ مكانٍ، وإن أراد أن يَبعَثَ لأمِّهِ مَبلغاً من النقود يُرسِلُه مع أحد الأشخاص، وكأنَّ أمَّهُ نُقطَةٌ سَوداءُ لا يستطيع ذِكرَها أمامها، تَشتُمُ والدَيه، وتُزَمجِرُ كزَمجَرَةِ أَسَدٍ ،فتتمزَّق رُوحُهُ أمامَ أبنائِه، وتَهدِمُه في لحظاتٍ.
السنين.
لا تَظُنِّي أنَّكِ إنْ تَجَبَّرتِ، وظَلَمتِ، وعَلَّمتِ أبناءَكِ كُرهَ أهلِ الزوج ستَفلِتين من قَبضَة الجبَّار وغَضَبِه، وقد يدفعُ الأبناء ثَمَنَ ما ارتكَبَهُ الآباءُ، وإن طال الزمَنُ، وتأخَّرَ العِقابُ، رُبّما يُمَهِّدُ لهم، حتى إذا أسقَطَهُم يكون سُقوطُهُم مُدَوِّياً.
كنتُ أتساءَلُ دائماً: هل الأبناءُ الذين يتَخَرَّجون من تحت يَدِ زوجَةٍ تحمِلُ السوطَ لزَوجِها أسوياءُ؟ أم أنَّهم بائسون مفرغون من الشجاعة؛ لأنَّهم سيستسلمون عندما تَتَبَدَّلُ الأدوارُ، ويَقَعون بين مَطرَقَةِ وسِندان زوجاتِهم؟
جاءتني وليَّةُ أمرِ طالبةٍ، ابنَتُها في الثانوية العامّة، وتريدُني إقناعَ ابنَتِها بتأدِيَةِ الامتحانات، بعد رَفضِها الذهابَ إلى القاعة؛ ويبدو أنَّها دَخَلَت في حالَةِ اكتئابٍ – وهي في رَبيعِ عُمرِها – بسبب الخِلافات العائلية، تَوَسَّلتُ إليها ألاّ تقضي على أحلامِها وأحلامِ والِدَيها، فوَجَدتُها مُمَزَّقَةً في أعماقِ زاوِيَةٍ، في ظُلمَةِ الليل على سَطحِ بَيتها، وَجهُها مُلَطَّخٌ بالدموع التي تَلمَعُ أَثَرَ انعكاسِ أشِعَّةِ الكواكِبِ والنجوم، حاولتُ مَعَها أن تَتَكَلَّمَ، وأنْ تفكِّرَ أنَّ القادِمَ أجمَلَ – كان قلبي يَذوبُ عليها – وبعد محاولاتٍ أقنَعتُها بكلامي، فأدَّت الامتحان، وحَصَلَتْ على مُعَدَّلٍ عالٍ، ثم أنهَت الدراسةَ الجامعيّة وتعيَّنَتْ في مجال التدريس، إلا أنّها عادت إلى أحزانِها التي تُلاحِقُها؛ لأنَّها لم تَجِدْ مَن يُصغي إليها من أهلٍ، وزميلاتٍ، ومجتمعٍ، فالكلُّ تآمَرَ – مع الكآبة التي تأكلها من الداخل – عَلَيها، أُغلِقَتْ في وَجهِها جميعُ الأبواب – حتى أقرَب الناس إليها – بعدها تَرَكَت التدريسَ!
رأيتُها من جديدٍ، ليتَني لم أرَها صباح ذلك اليوم، بَدَتْ كأنَّها كائِنٌ لا يُشبِهُ البشَر، تَتَكَلَّمُ من تحت لِثامٍ يُغَطِّي وَجهَها خوفاً من الناس، وَجهُها المُصفَرُّ مُرَصَّعٌ بالحُزن، بالخَوف، بالأوجاع، بالبؤس، بالتِيه، بالمَتاعِبِ، تَخافُ التَّحَدُّثَ خَوفاً من زَلّاتِها، تَشعُرُ كأنَّها مُقَيَّدَةٌ بماضيها، لا شيءَ يَظهَرُ من وَجهِها سوى عينيها الغارِقَتَين بجَفنَين هَجَرَهما الرُّقادُ، حَدَقَتاها تدوران على غيرِ هُدىً، هائمتان في فَضاءٍ ضَبابيٍّ، تَرى كُلَّ ما في الوجودِ أشباحاً، تُحاوِلُ الهُروبَ إلى داخِلِها مِن عالَمٍ يُشبِهُ الوَحشَ الذي يَبتَلِعُ الضعيفَ؟ مَن المَسؤول الأوَّلُ عن كأسِ المَرارة التي شَرِبَتها؟ أهُوَ التفَسُّخُ العائليُّ؟ أم تَنَمُّرُ المُجتَمَعِ وزميلاتِها في العَمَل؟
المَرأةُ وإنْ كانت حَسناءَ، لكنَّها قليلةُ الدِّينِ والمَعارِفِ هِيَ جاهلَةٌ، مِن أجمل ما سَمِعتُهُ لنزار قبّاني حِوارٌ عن المرأة، يقول فيه: “حياتي مَراحِلُ، فلا يُمكِنُ أنْ يكونَ ديوانُ (طُفولَةُ نَهدٍ)، والذي نَظَمتُهُ في مَرحَلَةِ الشباب يُمَثِّلُني الآنَ، حتى أُحِبَّ المَرأةَ يَجِبُ أنْ يَكونَ مِكياجُها مِكياجاً ثقافيّاً، فلا أستطيعُ احتمالَ امرأةٍ جَميلَةٍ وغبِيَّةٍ، وقد تَرى امرأةً بكلّ مقاييس الجَمالِ، لكنَّ عَقلَها خَمسة سنتمتر”، بعد أنْ تَقَدَّمَ العُمرُ بنزار لم يَعُدْ يرى المَرأةَ جَسَداً فقط، أصبحَ فِكرُ المَرأةِ يَعنيه أكثر، وأصبحتْ في نَظَرِه حواراً ثقافيّاً وسياسيّاً، يقول: “حَمَلتُ المَرأةَ خَمسين عاماً على أكتافي، وأنا أُدافِعُ عنها، لكنَّها في عِزِّ المَعرَكَةِ تَرَكَتني وذهبتْ إلى ” الكوافير” , يَزدادُ جمالُ المَرأةِ بنُضجِ فِكرِها، وثَقافَتِها، فلا تَشعُرُ بالاشمئزازِ أثناءَ الحَديثِ مَعَها، أنا كامرأةٍ مُثَقَّفَةٍ لا أستطيعُ أن أندَمِجَ في الحديثِ مع شَخصٍ غير مُثَقَّفٍ، وربّما هذا الأمرُ عَزَلَني، ووَقَفَ عائِقاً في طريقي في كثير من الأمور.
المرأةُ قَبيحَةٌ بقَهرِها لزَوجِها، تُرضِعُ أبناءَها كُرهَ الأعمام والعَمّات، وكأنَّهُم ألدُّ الأعداء، لا أنسى ما حَدَّثَتني به إحدى النساء: عَلَّمتُ أولادي على حُبِّ الأخوال وكُرهِ الأعمام، وعندما كَبَروا لم يَجِدوا الأخوالَ بجانبهم، فعادوا إلى حضنِ أعمامهم، وكأنَّهم غُرَباءُ، تقول: كان ابني شابّاً، حَصَل على درجة (الماجستير) في المُحاسَبَةِ، يبكي كما تبكي البناتُ، بسبب التشَرَذُم العائليّ, و قالت لي أخرى : “عندما جِئتُ إلى كراجاتِ قريَتي، وركبتُ في الحافلة، رَفَضَ شابٌّ أن يقوم لي؛ لأجلِسَ في الكُرسِيِّ الأمامي، فالمَقاعِدُ الخَلفيّةُ مُمتَلِئَةٌ بالرجال، كان يَبتَسِمُ أمام الجميع بكُلِّ دياثَةٍ وفُجورٍ، وإذ به ابنُ أخي! فأنا – تقريباً لا أميِّزُ أبناءَ أخي الأكبر، رَغمَ قُربِ بَيتِه، فهُم لا يَزورونني، ولا يعرفونني بسبب التربية التي شَبُّوا عليها، ومنهم مَن أصبح الطبيبَ والمحامي والمُهَندِس، تقول: لقد عَلِمَتْ زَوجَةُ أخي بحُبِّ أخي الكبير لي، فأرادَتْ بترَها من البداية، فأخَذَتْ تُشَوِّهُ صورتي أمامهُ، وهو يُصَدِّقُ ما تقوله.
هناك المَرأةُ المُستَكينةُ التي رَضِيَتْ أن تَتَزَوَّجَ من أجل أن تَحمِلَ وتَلِدَ فقط، خوفاً على نفسِها من الوحدَةِ في المُستقبل، وعندما يَتَقَدَّمُ بها السنُّ تَجِدُ مَن ضَحَّتْ لأجلهِ قد ألقاها في دار المُسِنِّين، فالأمُّ قد تُنجِبُ عشرةَ أبناءَ، ولا يبقى معَها منهم إلا اثنين أو ثلاثة!
قد تَتَحَمَّلُ الزوجَةُ كُلَّ وسائِلِ العُنفِ من قِبَلِ زَوجِها، ولأجلِ أبنائها، فإحداهن تَزَوَّجَ عليها زَوجُها سِرّاً – وهو ابنُ عَمِّها – ومَرَّت الأيّامُ، ويبدو أنَّها عَرَفَتْ أمرَهُ، فطلبتْ منه أن يَترُكَ الزوجةَ الجديدةَ، وتحت ضغط عائِلَتِها لهُ تَرَكَها، والغريبُ أنني كُنتُ أرى في وجهِها كُلَّ يومٍ آثارَ كَدَماتِ وضَرَباتِ زَوجِها، كُنتُ أتساءَلُ كيف يُمكِنُ أن تَعود الحياةُ بين الزوجَين إذا كانت قائِمَةً على الضَربِ والعُنف، من الممكن أنْ يَضرِبَ الزوجُ زَوجَتَهُ إن قامت باستفزازِه، لكن ينبغي ألّا يَعتادَ الزوجُ ضربَها دائماً، وعلى مَرأى ومسمَع الأبناء؛ لأنّهُ سيُؤدِّي إلى إنشاءِ أُسرَةٍ مَهزوزَةٍ!
راسَلَتني صديقة تشكو لي أنَّ زَوجَها تَدَهوَرَ وَضعُهُ النفسيُّ، تقول: زَوجي يَفقِدُ أعصابَهُ لحظَةَ دُخولِه البيتَ، فأصبح الأبناءُ يعتَكِفون في غُرَفِهم خوفاً من صُراخِه، راسَلَتني لأنّني حَضِرتُ موقِفاً لهما في مكانٍ عام، كان يُعَنِّفُها، ويَصرخُ بها كالمجنون، قلتُ لها: أنتِ امرأةٌ جَبَّارَةٌ، كيف تتحملين ذلك؟!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى