قراءة أولى في مجموعة: “نهارات بلا تجاعيد” للشاعر عبد الرزاق الربيعي

حيدر عبد الرضا | العراق

شعرية المؤول ومرثية الذات الواصفة

توطئة:
أن أسفار قراءتنا في عوالم شعرية الشاعر الكبير عبد الرزاق الربيعي، ومنذ صدور كتابنا الأول عن تجربته في (مرجعيات الشعرية) لا يزال لحد الآن يشكل فينا ذلك الهاجس المتوقد في البحث عن أسرار تجربته الشعرية الثمينة في نسق وأنساق المرجعية الشعرية . واليوم نجد بين أيدينا أثمن تجربة شعرية من خزين هذا الشاعر الكبير، والتي تتكون في حقيقتها المحتملة من علاقات أولية سببية ورابطة ما بين (جهات موضوعة المرجع / بؤرة الفاعل المحوري) وعند النظر المعمق في مجموعة هذه القصائد، نجدها عبارة عن سياقات محفوفة بلغة بواطن التخييل المتصل بين (مرجعية المكان ـ مرثية الذات) وامتدادا لها نحو موضوعات كيفية ومتنوعة تصب في أقصى ثريا العنونة المركزية الموسومة ب(نهارات بلا تجاعيد) وعلى هذا الحال من هذه العنونة المركزية جاءتنا نزوعات وأساليب قصائد الشاعر، كاستدلالات منبثقة في محاورها المنعكسة من مواطن قابليات خاصة من العلاقة المكانية والزمانية والذاتية معا .

ومن هنا بدءا سوف نتعامل مع قصيدة (طريق جازان) على أنها مرحلة شعرية مختصة بدلالات مرجعية المكان وذائقة المكان الاسترجاعية عبر الذاكرة الشعرية:
بعض من الضوء
من شمس “جازان” يكفي
ليزهر حقلُ الرياحِ
و ينبت وردُ الحياة بكفّي
و “جازان” مشتى الطيورِ
البعيدة
مسرى رياح القصيدة
مرسى احتضارات صيفي .
المعادلة الشعرية المعتمدة في نمو وظيفة هذه العلاقات الأولية من متن النص، بدت كموضوعة استرجاعية ـ إيحائية، في بث حالات أكثر حسية وواصلات (المكان ـ الذات ـ مرجعية الدال) للوصول منها نحو إمكانية سياحية مفترضة في وصف اللحظات المعاشة من أفق المكان، ومن أفق ذلك المعطى الأيقوني من النص (بعض من الضوء ـ من شمس جازان يكفي .. ليزهر حقل الرياح) وعلى هذا النحو من مخصوصية دال (الضوء) يمكننا تأسيس الفاعلية التصديرية الخالقة لماهية العلاقة القائمة ما بين الشمس والمد المجازي في جملة (ليزهر حقل الرياح) اقترانا مسوغا بعلاقة المعادلة الافتراضية المؤشرة في جملة (وينبت ورد الحياة بكفي) وطبيعة هذه الرؤية المتناوبة ما بين الجملة الأولى والثانية (ليزهر حقل الرياح = وينبت ورد الحياة بكفي) بمثابة الرؤية التشكيلية في روح فضاء المستعار من ذاكرة (التأثير ـ لغة المعادل ـ المعطى التمثيلي) وصولا إلى استقصاء البعد اللحظوي والظرفي في جملة (و جازان مشتى الطيور البعيدة) وتعتبر مماثلة فاعل علاقة الحال بالجمل، كوسيلة علاقة مرسل أو كموجه أولي في محكيات مرجعيات المكان الموصوفة في الحدود الملاءمة والمتماثلة من الملفوظ الدوالي وهذا الأمر ما ينطبق على جملة (مسرى رياح القصيدة) وجملة (مرسى أحتضارات صيفي) ويمكننا فهم العلاقة المرجعية القائمة ما بين ثنائية (جهة المكان ـ جهة الذات) كمضاعفة إجرائية في مساحة الزمن الملفوظ، وبذلك تبرز لنا المسافة الكينونية الواقعة  بين شعرية مقاصد البوح وجمالية الاستجابة النوعية، كحالات علائقية منسجمة في أحوال النص الشعري .
ـ مرثية الذات وحداد مرجعية الرؤية الشعرية .
و نود هنا أن نلتفت إلى حال قصيدة (على قارعة السحاب) المهداة إلى روح شقيق الشاعر، والتي هي صياغة رثائية فاجعة في دائرة الأنموذج الشعري المستحدث، والأهم من كل هذا أنها جاءتنا كحالة تماثلية ـ معادلة، لحيوات أكثر تصويرية وحلمية في غاية بواطن المدهش وغير المسبوق في تداعيات أحوال الملفوظ الشعري في القصيدة:
إذ يعصفُ الظلام
بطائرٍ
ألقى جناحيه الطويلينِ
على قارعةِ السحاب
ثم غاب
تاركا إيّاي
بين زحمة الأرواح
و الجراح
و الحداد
أشقّ دربي .
ولاشك أن هذا التماثل في لحظة التوحد الممكنة والتي هي مستوطنة داخل طرقات من الوحشة والفقدان، من شأنها شعرنة الغياب بفقد المحبوب، نحو تجسيد إمكانية مجازية خاصة مصدرها عتبة الفقدان ذاته، والذي قاد بالشاعر ـ الفاعل المنفذ ـ نحو مخاطبة الأحوال والالتصاق بأجلى مواطن تشكيلات المعادلة الفاجعة والمتمثلة بدلالة جمل (إذ يعصف الظلام، بطائر .. ألقى جناحيه الطويلين .. على قارعة السحاب)و تصعد منسوبية التوغل الزمني نحو مصارعة وحشة دال الظلام، فيما تبقى دلالة جملة (قارعة السحاب) بمثابة العلامة المحالة نحو مقصدية ما تكمن ما وراء العوالم العينية من زمن الغياب . وتأتلف جملة (ثم غاب .. تاركا إياي .. بين زحمة الأرواح) عبر المساحة المضاعفة من عمق الفقدان المصور من طرف الفاعل، إذ تستقيم في ذاتها مع تمثيلات (إنتاج حالة) وتارة تتشظى وحدود القادم من دوال جملة (الجراح / الحداد / دربي) وتشتغل إحالات البحث لدى الفاعل الشعري في منطقة رؤيا (الميتافيزيقيا التصورية) إي نحو ذلك الإلتحام في رؤيا الفضاء الآخر من أحاسيس ورؤى الفاعل المنفذ:
باحثا
في (وادي السلام)
عن وجهك المضيء
في الأحلامِ
في العيون
وواجهات العرض
عن لقطةٍ قريبةٍ
لمشهدٍ جديد .
وتنطوي موجهات المشاهد الشعرية هنا، عبر ذلك الموصوف من مساحة العرض الدوالي، استكمالا له لملخصات دال (باحثا) واقترانا له بكاميرا تسخير الداخل والخارج من كثافة الدلالة القيامية في حلقات الجمل (وادي السلام / وجهك المضيء / الأحلام / العيون / واجهات العرض / لقطة قريبة / مشهد جديد) وتنتهي اللقطات المشهدية في لائحة العرض، ليبدأ ذلك السفر للروح والمعراج للشاعر في جولاته الحواسية وعبر تمظهراتها الدوالية المقيمة في جوهر الداخل من إحالة العوالم البرزخية المتصورة في ملفوظات علائق الرؤية:
وعند باب العالم السفليّ
يسقط الضياءُ
من عينيك
يصعدُ العويلُ
سائلا مدائن السكون:
ـ من يمسح الوحشةَ
عن وجهك يا أخاه ؟
أن حيز أفتراضات الفاعل الشعري هنا من السعة والتخصيص، في مستوى مواقف شاعرية الاحساس بذلك الشقيق الراحل نحو عوالم قيامته، لذا نجد أن مرجعية محددات ذلك الآخر أكثر اتساعا وتفصيلا في مهاد مخيلة الشاعر، بل يجعل منه ذلك الاقتران بأسباب المكان والزمان وماهيته القيامية المؤولة شعرا: (وعند باب العالم السفلي .. يسقط الضياء .. من عينيك .. يصعد العويل) وما يجعل آلية الواصف الشعرية أكثر تأثيرا، هو قدرتها على خلق واصلة تواصلية من الحلم البرزخي الواصف لمؤثثات داخلية مقرونة بتلك الاستجابة الخاصة من أداة الشاعر وخلفيته المرجعية الخالدة .. فالمواقف في جملتها المتخيلة في سياقات الملفوظ لدى المقاطع الأخيرة، بدت كموقعية مهتاجة في استنطاق مقترحات دليل الفاعل الشعري عبر جملته الاستفهامية المعللة: (ـ من يمسح الوحشة عن وجهك يا أخاه ؟) فهذه الصورة التساؤلية في ضمير المخاطب هي بحد ذاتها دليلا على أن خطوات الشاعر المتخيلة في عوالم رقاد شقيقه البرزخية، تجسيدا فاعلا نحو الانفتاح على مناطق مرتهنة بأقصى الحسية الأدائية المشعرنة في ذروة القول الواصف، وبذلك يمكننا القول أن فاعلية شعرية الرثاء لدى الشاعر، تتجاوز ثقافة (التأبين) التقليدية، خصوصا وأنها جاءتنا ـ أي قصيدة الشاعر ـ منظومة دلالية كاشفة لأهم مرجعيات وعتبات المكان في اللامكان والزمان في اللازمان:
من يبلغ الإله
أن يعجّل القيامة
ليخرج المنفيّ
من منفاه؟
فيمسحُ المسيحُ
عن كاهلهِ آلامه
من يحملُ الصليبَ
عن ظهري يا أخاه؟
فالأسى
ألقى على حشاشتي أساه .
فخاصية الاستقدام في المقاطع (من يبلغ الإله) أو جملة (يعجل القيامة) توغلا نحو أكثر دلالات الاستفهام تساؤلا، وعلى النحو الذي جعل من دلالة المسكون بالغياب، أكثر اقترانا وحدود الصرخة الظرفية للشاعر والمتصلة في حدود استثمارات مرجعية خاصة من صورة المسيح وصليب المسيح، وهذا الأمر ما جعل صليب الفاعل الشعري، بذلك التنوع المعبر عن مدى فداحة موقفه الغارق بالفقد والفقدان (من يحمل الصليب عن ظهري يا أخاه .. فالأسى، ألقى على حشاشتي أساه) الشاعر هنا يعكس أسمى طاقته بالحس المأساوي، فهو لا يتوانى عن ترديد الشكاية بكثافة المدلول الشجني الذي ألم به لحظة الفقد، بمعنى ما أن المدى التصوري عبر مكونات أداة الشاعر، أصبحت مرتهنة بين صيغة الفقد وانخلاع الذات الشعرية عن حياتها المطمئنة الأولى، لذا بدت لنا بوصفها ذلك المتأرجح بين حساسية الفقد ووحشة انتظار ملتقى ذلك الراحل العزيز:
لكنّنا
سنلتقي
ذات صلاة
خلف ساحلِ الضياء
في عُلاه
ـ تعليق القراءة:
لاشك أننا حاولنا في مجال قراءتنا لمجموعة قصائد (نهارات بلا تجاعيد) تقديم تلك المقاربة الأولى، التي تتلخص في مجال (شعرية المؤول) والتي تتمثل في مرجعية المفترض المكاني في قصيدة (طريق جازان) أما ما اعتمدناه في قصيدة (على قارعة السحاب) فيتمثل بمفهوم المحتمل النقدي منا (مرثية الذات) والقابلية على استنطاق عوالم القيامة البرزخية عبر أشكالها الدلالية المفترضة حصرا، وبهذا الحال الأخير نلاحظ بأن عوالم هذه القصيدة تحديدا أخذت تتلفظ بذاتها ولذاتها طاقة مرجعية زمكانية خاصة تؤهلها إلى التحليق إلى غاية الصورة النموذجية الفاعلة من دوال فضاء التخييل وصناعة المعنى في أبعاد غيرية من البدائل المحتملة وغير المحتملة في أفق الماقبل والمابعد من بؤرة شعرية القصيدة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى