مركز لغتنا (كتاب الله)، ولانحتاج إلى حركة رومانسية

د. ريم سليمان الخش | سوريا – فرنسا

 

طلب مني الدكتور زياد العوف أن أتعمق بشرح  تعليق أوردته في منشورسابق عن (الشعر العمودي) وكان التالي: (عندما يتحرر الفكر من المطلق [أي المركز]) يتعوم كل شيء فيفقد كل شيء معناه.. فنتخبط بالمفاهيم النسبية إلى ان نصل إلى العدمية  ( وقد وصل لها الغرب إلى حد ما)…عندما تحررت العولمة من (الله) بعد قتله (كما ذكر: على لسان نيتشه)… تحررت من المطلق وغدا كل شيء نسبي (حتى المبادئ والأخلاق  [والأدب])..عندها بدأنا بالتخبط  وانزياح الدال عن المدلول وتمييع المفاهيم …حذف المطلق للشعر (وهو الشعر العمودي) لا يجر الا للخراب وتمييع الحضارة …للأسف العالم كله في مرحلة الميوعة تلك (فقدان العنصر الذكري) وتمكن الأنثوية  الضبابية من الصدارة… إنها الحقبة التي ستستدعي طوفانا آخر كطوفان نوح …فهل انتبهتم إلى خطورة اللحظة!

أقول:

إنّ العقل الإنساني ذو طبيعة لغوية فمن خلال الكلمات والأفكار يعبر عن العالم …وعندما تتغير نظرته للعالم تتغير لغته …وعندما تحرر العقل الغربي من (الإله – الميتافيزيقي) أي أصبح لفظ الإله دال من غير مدلول واصبحت الطبيعة (المادة) هي الأصل ودخل الإنسان في حالة الصيرورة الطبيعية (أي التغييرالمتطور بلا حدود و دون غاية!  لتجرده من البعد الميتافيزيقي المطلق.. كل شيء نسبي .. و اللايقين هو اليقين الوحيد )

سبب فقد المركز المتجاوز (الإله) انفصال الدوال عن مدلولاتها ودخلت اللغة في حالة سيولة  (أنثوية الصفات  ناتجة عن تفكيك المركز فالقيم) لأن الذكورة حالة صلبة مرتبطة بالمركز  (الإله).

وكنتيجة طبيعة أصبح الإنسان كائنا ماديا أحادي الأبعاد (انتزع منه بعده الميتافيزيقي والأخلاقي) وعُرّف عن طريق حاجاته الجسدية (إشباع غرائز – استهلاك)  أي أنه أصبح أيضا دالة دون مدلول إنساني عميق، و تحطمت  القيم  المجردة الأخرى لتصبح دوال دون مدلولات مطلقة  ( فعبارات كالأخلاق والإخلاص والإحساس الديني عبارات دون معنى مطلق) كل شيء نسبي بما في ذلك الخير والشر.

إرادة القوة هي من يتحكم بالإنسان وطبعا البقاء للأفضل مع التطهير العرقي.. جسد الإنسان هو مركز القوة والرغبة ورغبة الإنسان  تنتج واقعه وهدف الإنسان من المعرفة ينبع من (إرادة القوة واللعب والرغبة في المعرفة!) ..وأصبح العالم سوق اقتصادية فيه تسلّع الإنسان، وتجاوز استهلاك السلع إلى استهلاك العواطف والعلاقات بين البشر التي أصبحت  علاقات نفعية آنية تفتقد للأمان والاستقرار.

كل فرد يواجه الحياة بمفرده.. التجمعات فيها سطحية تخلو من الصدق(كعلاقات التواصل الإجتماعي!) وبالتالي أصبحت حياته أيضا دالة دون مدلول حقيقي (السيولة هي الصلابة الوحيدة واللايقين هو اليقين الوحيد (حسب عالم الإجتماع ريغمونت باومان).

أيضا اللغة أصبحت سائلة (هلامية تفتقد للمركز) حسب جاك ديريدا: لغة للعب تشبه غواية  انثى لعوب بلا هدف ولا إشباع ولاتفسير (فقط جوع دائم!)

ويقول ميشيل فوكو أن  (مشاكل اللغة تحاصر الإنسان في عالم دائم التغير بلا حدود ولا غاية!)؛ بل لقد وصلت اللغة الى العبثية (عند كامو وكافكا…)

ظهرت الحركة الأدبية الرومانسية كرد فعل على الرأسمالية وتشيئ الإنسان..فكان الأدب عموما، والشعر خاصة  بلغة ذاتية داخلية مبهمة يستصعب في الكثير من الأحيان فهمها إلا من مبدعها ! بمعنى أنها لاتمتلك بناء واضح:  (بل ينفصل الدال عن المدلول!).

وهذا ماعبر عنه الشاعر القروي رحمه الله بـ (كلمتني فلم أفهم عليها…كأنّ كلامها الشعر الحديث!)

 ثم جاءت بعدها البنيوية كثورة أخرى على الرومانسية والرأسمالية اهتمت بالبنى الهندسية المجردة (كالفن المجرد مثلا) عبرت عن القدرة التوليدية  للعقل واتهمها الماديون على أنها ملوثة بالميتافيزيقا (أي حافظت بشكل ما على ارتباط الدال بالمدلول).

ثم جاء حلفاء (ما بعد البنيوية) كجاك دريدا صاحب النظرية التفكيكية ووسعوا المسافة بين الدالة والمدلول إلى أن فصلوا بينهما حيث أصبحت اللغة تحتوي فائضا من الدلالات (أي كل نص يقود إلى نص آخر في سلسلة من التأويلات غير المنتهية بمعنى ان المعنى النهائي تم إرجاؤه وتعليقه إلى مالانهاية! (لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!)، وبهذا دخلت اللغة حالة من الميوعة الأنثوية فالنص القابل للتأويل (وفق دريدا) يشبه جسد المرأة.

والتناص هو حركة أنثوية.. والمجاز هو لعب للغة يشبه إغواء جنسي للعوب بلا هدف! ولم يعد النص الأدبي يعكس وعي المؤلف بل هو انعكاس للذة جنسية..النص هو الأنثى والنقد الصحيح هو الإستسلام لغواية النص ولما فيه من إيحاءات تفقده عقله!

أصاب انفصال الدوال عن مدلولاتها الكثير من المفاهيم الإجتماعية (شرح د. عبد الوهاب المسيري فقال): الأسرة = علاقة بين عدد من البشر ( ذكر -ذكر/أنثى-ذكر/أنثى-أنثى)، وطفل غير شرعي= طفل طبيعي، الجنس= تعاطي الحب ( الحب فقد مركزه)، والبغي=عاملة جنس، والإنتماء الديني= تفضيل ديني، والفائض البشري= الأعراق الأدنى ، والحل النهائي= تطهير عرقي ، والمستعمر= وصي على العرق الأدنى، والإستيطان = أرض الميعاد، والغزو والنهب= اتفاقيات اقتصادية، وتأديب الشعوب= احترام حقوق الإنسان، ومقاوم احتلال = إرهابي

وأضيف هنا بالقياس: تقسيم الوطن العربي= الشرق الأوسط ودول الخليج ، والتطبيع = إسرائيل الكبرى.. إلخ !!!….

ملخص ما أردت أن أقول:

 يتم الهجوم على الأمة عن طريق الهجوم على لغتها.. واللغة هي نظام من العلاقات؛ فإن اختلت التوازنات بين ثنائياتها (دوال/مدلولات) فقدت هويتها وبالتالي فقدت هوية الأمة…وشن الهجوم إما مباشر: فرض لغة المستعمر المهيمن أو غير مباشر: عن طريق تفكيك مركز اللغة!

مركز اللغة العربية هو(كلام الله) ومركز شعر العرب (الذي هو صلب ذكوري) هو الشعر العمودي الأصيل ..

نحن أمة موحدة (ليست الطبيعة إلها لنا!!) ولانحتاج للتقليد الأعمى (تحت مبدأ مهزوم يتبع المنتصر!- (إرادة الغالب تكون المهيمنة)، ولسنا مهزومين مادام مركز لغتنا (كتاب الله)، ولانحتاج إلى حركة رومانسية (ناتجة عن الصيرورة الطبيعية ولا للحركة البنيوية ووو)

ماحصل من أخطاء بحق الشعر العربي الأصيل كان في حقبة العجز العربي وبالتالي تأثر وبشكل أعمى بالحركة الأدبية الغربية دون دراسة معمقة لها ولا لسبب نشأتها (التعيس)، ومنه كل ما ألم من انزياحات شعرية هي انزياحات أنثوية مائعة ومبتذلة …وعليه:

كل ما خرج عن العمودي القديم هو طاقة شعرية ضائعة لا قيمة لها… اللهم إلا إذا صنفت في مجال أدبي آخر. وأتعجب ممن يشجع استمرار (مرحلة الضعف الحضاري العربي) والتي تتجسد بالشعر الحر، ويبارك استمراره المخزي دون أن يوصد الباب بوجهه….لابد من  النهضة الفكرية   العربية

اللهم قد بلغت اللهم فاشهد .

ملاحظة: أما عن ربطي له بالطوفان العظيم لعلمي أن العصر السابق لسيدنا نوح كان عصر أنثوي بامتياز أي كانت الأنثى هي المهيمنة وبدأ عصر النبوة منذ عصر نوح (ولعل السيولة الفكرية والأخلاقية  والإباحية هي التي اقتضت الطوفان العظيم!) والله أعلم …

المراجع:

زيغمونت باومان: الحداثة السائلة /الثقافة السائلة

عبد الوهاب المسيري: سلسلة من الكتب متوفرة على الأنترنت

فلسفة اللغة (دراسات عن : دريدا -فوكو – دي سوسير – فوكو – تشومسكي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى