وقهوة خيمتي تحكي

حسن قنطار | سوريا

ولأني غداة فراق بعيد، توارت خلفه آمال العودة إلى دافئات الوطن .. غدوت أقتبس لنفسي الذكريات الآفلة ، والتي أجدها تارة في رائحة قهوة الصباح اللاجئة مع لجوئي الحائر لأجدني قد سلوت بعبقها عن آهاتٍ حرّى، وآلامٍ جمّاء.

في كل صباح تشرق فيه شمس الأمل على خيمتي الرؤوم يدور فنجانٌ من القهوة فوق وسادتي لتداعب أنفي نسائمُه الزكية، فأفتح عيني على روائحها الراقصة مع نغماتٍ فيروزية جديدة، بيد أنها قست ألحانها بعد لينٍ كان يؤنسنا، ورهفٍ كان يسعدنا عند سماعها .

أرشف مع كلمة (صباح الخير) من زوجةٍ راضية شيئاً من قهوتها السعيدة ، وتساورني مع هذه اللحظات هواجسُ عجيبة ، وخواطر ملونةٌ بين سعادةٍ تائهة وشقاوةٍ قابعة وآمالٍ تكاد أن تكون باسمة …

كل شيء غدا – يازوجتي – ممثلاً بارعاً ، حتى قهوة الصباح قد أتقنت فن التمثيل، وأبدعت في تسويق نفسها لدراما الحياة ، وهي الآن تصعد على خشبة المسرح لتتلوى أمامي مخمورة تحاول إغوائي، وتسرق دور قهوة بلادي التي أعشقها وهي تروي حكاياتها .

” أتذكرُ صباحاتٍ تركناها وراءنا؟ ، كانت خيوط قهوتَكَ تداعب أنفك وتغازل عينيك وتأخذك من سجن رقادك إلى رحابة يومك المليء عملاً ونشاطاً هنا وهناك ” ..
تقول عمتي القهوة

وتخرج إلى المدرسة مزهواً وأكاليل الهمة تزدان بها، وعلى شرفات الطريق صداقاتٌ مرحبة ومعارف مُسلِّمة ،وتحية عن ذات اليمين وأخرى عن ذات الشمال إلى أن تصل إلى مدرستك التي لا تحلو إلا بالجمع الطيب والزمالة البهية ، وصفٌ: (صباح الخير) فيه ثورة طفولية ناهضة، وأنشودة يرددها التلاميذ على مسمعيك … تروي عمتي عن جدتي القهوة .

وعودةٌ في مساء الوطن إلى البيت الذي ينتظرك أهله، ويرقبك سمّاره عن طيب سجية وبهاء طلة ولذيذ طعام وجميل شراب ، ليطوف عليك أخلة وأصحاب أو تطوف عليهم في بعض ليل …
قالت جدتي القهوة رحمها الله .

تضحك زوجتي عندما أقرأ عليها هذه الحكاية وأنا أراها في نسائم القهوة البارعة …

لا تعجبي فأنا لا أقرأ الفنجان لأتكهن أو أتصيد الرؤى كما يفعل الدجالون …

أنا الآن وكلّ آن أحدّث برواية المتصل عن عمتي قهوة الخيمة عن أمها ( قهوتي السورية ) جدتي .

لست مجنونا أو أصابني مسّ – معاذ الله – لكنها شهوة اليراع تواقة إلى حكايا حارتنا، وأخبار جارتنا، وشوارع قريتنا، وحدائق بلدتنا ، وهزائز الأغصان وحمائم الأبراج وجداول الأنهار ونسائم الأسحار ومجالس السمار ومطالع الأقمار ، وطقطوقة الأفراح ودموع الأتراح ، وصبيةٍ تلعب وظبيةٍ تشرب وبسمة تسامر وعبسة تربي ، وشهيق الصباح وزفير المساء، وحنان الصيف وهمة الشتاء، وحافلة تروح وأخرى تغدو، وتلد المدارس أشبالها وتضع الجامعات أبطالها و .. و .. و .. وأنى للواوات أن تنقضي .

كلّ ذلك _وكلَّ صباح_ تحدثني عمتي القهوة حديثها المحبور بالسند المخمور عن أمها الكَحول (جدتي القهوة) .

حسن قنطار . سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى