الموت.. قصة قصيرة

د. السيد الزرقاني | أديب وناقد مصري

وحدي أترجل،في شوارع مظلمة، الحزن يغطي تلك النوافذ المغلقة، خلفها أرواح  يائسة، روائح الموت تطل برأسها عبر الطرقات، كان مشهد الأمس صادما، الكل يهرول هربا من الموت، يخافون من لحظة الفراق، الكل أسير تلك العناوين في الصفحات الأولى بالصحف، شغوف بسماع المذياع لمتابعة أخبار الموتي، الكل يحمل بيده سجادة صلاة، يتضرع تقربا، ويختلس المال اذا أتاحت له الفرصة ، أو يسرق حلم الأخرين، أحاول أن  اتجاهل تلك المشاهد المخزية، أدهش من تلك العربة المسرعة بجواري، تكاد أن تصدمني، أرمق السائق بنظرة عاتبة، يتجاهل وجودي، شتان مابين مترجل يغوص في وحل الطريق، وذاك الطائر في سماء سيارة، ربما نهب ثمنها متي كانت الفرصة  سانحة للنهب، تتساقط تلك المتناقضات علي الرصيف المقابل،عليه تتلاشى الأشياء فلا يبقى لها معنى،يغلفني صمت، سمع صوت واهن ياتيني من خلف الظلام الدامس، لطفلة تسألني عن وجهتي، أشير إليها،  لا أعلم، تحذرني ألا أكمل،  فالموت في انتظاري، تسالني لماذا لاترتدي تلك الكمامات التي تزين بها هؤلاء الموتى قبل رحيلهم؟!

–  ولماذا لاترتدينها انت؟؟

 – لأنها لم تحميهم من الموت الجسدي، فقد ماتت قلوبهم وضمائرهم من عقود مضت

سالتهم الحماية من البرد في عز قسوة الشتاء وانا أقبع  أسفل تلك الكباري ألتحف بورق الجرائد القديمة، فأشاحوا جميعهم بأعينهم عني، كان الجوع يعتصرني، وبطونهم تنتفخ من تلك الشحوم والدهون، فأنظر إليهم و أرمقهم بعتابي، رأيتهم بالأمس يهرولون، خوفا وفزعا من الكائن الخفي والوباء فجلست أضحك عليهم، اضحك وأضحك …

–  ألم تخافي مثلهم  ؟!

– نعم لا أخاف .. ليس بغريب عني !

و إنسحبت خلف تلك البنايات العتيقة المرصوصة في صفوف طولية، كانت تتزين لساكنيها، حاولت اللحاق بها لكنها توارت، ومازال صوتها يجلجل في أرجاء الشوارع المظلمة، أسرعت الخطى، لأهرب من تلك الصور القاتمة، التي تحف بالمكان، الجثث تحاصرني من كل اتجاه، اتفحص تلك العيون الشاخصة نحو السماء، اتحسس موضع قدمي، لم يعد هناك موضع قدم، علي أن  أمارس الطيران من فوقها حتي لا تتالم ..

– هل يتالم الموتي مثلنا ؟!

– لا اعتقد انهم يتالمون، تلك اجساد بلا روح مثلهم مثل تلك التماثيل الواقفة في بهو المعابد الفرعونية، او المومياوات المحنطة في الصناديق الزجاجية التي نطالعها في المتاحف المغلفة بالحراسات، أفرد ذراعي كجناحي طائر محبط، أحاول ان أتفادى  تلك الأذرع  الممتدة نحو السماء، فأرتفع إلي أعلي لكنها تطول وتتمدد خلفي… فأهرب من تلك الكمائن المحصنة، فهنا لافته كتبت بعناية وخط واضح لكل مار بتلك المواقع المتناثرة في بقاع عديدة من الأرض، أصرخ واصرخ فيختلط صراخي بضحكات ضمير الطفلة في فضاء شاسع لايسعنا سويا، أصعد   رأسيا فوق السحاب، تتلاشي الأشياء شيئا فشيئا، أعود إلى حيث كانت البدايات الأولي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى