بين فلسفة العربية وأخلاق أهلها

رضا راشد | باحث في البلاغة واللغة والأدب – الأزهر الشريف

 

كنت وما زلت على يقين من أن العربية تحمل في قواعدها النحوية والصرفية والمعجمية قيما أخلاقية هي نابعة من أخلاق أهلها من سلف العرب ، وأن الخلف لو تدبروا هذه القواعد لكان لهم منها دستور أخلاق محكم القواعد .

وهذا أمر لو تدبرته ورحت تتلمس شرحه في كل قاعدة لاتسع المجال وتراحب . ومن أبرز ما هو كائن فيه أخلاق العربية قواعد الصرف في الإعلال والإبدال .

يقول د/ محمود توفيق سعد :”المتبصر بحال تلاقي الأصوات الصائتة (الحركات) والصامتة (الحروف) في بنية الكلمة العربية سيجد أمرا جديرا بالالتفات يتمثل في حسن العلاقات بين هذه الأصوات ،فهي تتراحب فتترابح وتجد الأصوات مؤثرة فيما صاحبها ومتأثرة بها..وتجد في قضايا الإعلال والإبدال أصولا جد جواد لو تبصرها الناس واتخذوا منها دروسا عملية في علاقة بعضهم ببعض لوجدت الحياة فيما بيننا قد اتسمت بالاتساق والانسجام “[البلاغة القرآنية في سورة تبت يدا أبي لهب ص٦٠و٦١ مكنبة وهبة ط ١]

قلت :

مثالا على ذلك، تأمل أبواب الإعلال تجد تقارضا بين حروف العربية: فحين يستعصي الإبقاء على حرف من حروف العلة يقلب همزة؛ لأنه أقرب الحروف لحروف العلة،وكما تبدل حروف العلة همزة في مواضع ، تبدل الهمزة حرفا من حروف العلة في مواضع أخرى ،والغنم بالغرم .

إقراض واقتراض

هو أساس العلاقة بين الحروف المكونة للكلمة، والمعيارُ في ذلك هو التخفيف على اللسان وتيسير النطق ،ففي (ميزان) وأصله (مِوْزان) لأنه اسم آلة من (وزن) يعسر قراءة الواو ساكنة إثر الهمزة فتبدل -راضية- ياء، فتصير (ميزان).
وكما أبدلت الواو ياء إثر الكسرة تبدل الياء واوا إثر الضمة في مثل(موقن) وأصله (مُيْقِن) اسم فاعل من (أيقن).

وإذا تأملت تاء الافتعال حين تبدل طاء إذا كان فاؤها صادا أو ضادا أو طاء أو ظاء ،تبدى لك حكمة العربية في الموازنة بين العدل والتيسير معا .
أما التيسير: فتمثل في تلافي العسر الذي يلقاه اللسان من نطق التاء المهموسة (تاء الافتعال) بعد حرف من حروف الاستعلاء والإطباق (ص،ض،ط،ظ) =وأما العدل: فتجلى في أن كان الحرف المبدل من التاء هو أقرب الحروف الأربعة إلى التاء مخرجا والأمس بها رحما وهو الطاء، فقلبت التاء طاء دون أي حرف من الثلاثة الأخرى (ص،ض، ظ) ،وكأنه لما كان تجاوز التاء أمرا محتما تيسيرا للنطق روعي خاطرها وخفف مصابها؛ بأن كان المبدل أخاها الطاء …فهل يحدث ذلك في أمور الناس عندما يستلزم الأمر ضررا يلحق بأحد يراعى خاطره تخفيفا لمصابه؟! .. هذا عن تجاور الحروف 

فأما عن تجاور الحركات: فمعلوم أن بين الحركات من التقارب والتباعد ما بين الناس ،فالفتحة بخفتها تلائم الجميع ،وكذا السكون لأنه انعدام حركة ،أما التنافر فبين الكسرة والضمة ، ولذلك ما أثقل كلمة على اللسان تحصر فيها ضمة بين كسرتين أو كسرة بين ضمتين وحاول نطق قوله تعالى: (..ملعونين أينما ثُقٍفُوا أُخِذُوا )،(ولو ترى إذ وُقِفُوا على ربهم )ستجد مكابدة من اللسان في الانتقال من الضمة إلى الكسرة ثم إلى الضمة من جديد ،ولو لم يحترس لربما نطق الكسرة بين الضمتين ضمة أو كسر الضمة الأولى .

تأمل ذلك وانظر مثلا في أوزان الاسم الثلاثي المجرد تجد أن الصرفيين استقصوا له اثني عشر وزنا كلها في مادة(ف ع ل) هي محصول ضرب الفاء المثلثة (رفعا ونصبا وجرا) في العين مرفوعة أو مفتوحة أو مكسورة أو ساكنة . ستجدها عشرة أوزان منها خفيفة؛ لأن فيها تتجاور الكسرة والفتحة، أو الكسرة والسكون، أو الضمة والفتحة، أو الضمة والسكون ما عدا وزنين فقط أحدهما قليل هو( فُعِل) بضم فكسر ، والثاني شاذ هو (فٍعُل) بكسر فضم .

وهذا (أعنى استنباط ما في قواعد العرب من اخلاق اجتماعية تدل على أخلاق واضعي هذه العربية الشريفة وأخلاقهم) أمر جدير بدراسة مفصلة تأملا في قواعد النحو والصرف.ولكن مجاله- لو كان- في غير هذا المقام .

ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى