قواعد العمل البنائي من مسيرة الشّيخ إبراهيم بيّوض!!

د. محمد بن قاسم ناصر بوحجام | شاعر وناقد وأكاديمي جزائري

 

بمناسبة حلول الذّكرى الأربعين لوفاة إمامنا الشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض (كانت وفاته يوم الأربعاء: 08 من ربيع الأوّل 1401ه/ 14 من يناير 1981م) نقدّم للقرّاء الكرام بعض ما يذكّرنا بمسيرته الجهاديّة في سبيل الإصلاح والتّربية والعمل البنائي والجهاد الوطني، زفي الوقت نفسه نُوجِّه رسالة خاصّة لشبابنا، ليهتمّوا بسير كبار النّفوس؛ بأخلاقهم وأعمالهم وإنجازاتهم..؛ لينهلوا منها ما يعينهم على بناء نفوسهم، ومعرفة طرق العمل في الحياة بعد وعي رسالتهم في الوجود..

اخترت هذه المرّة نشر ما كتبته جوابًا لأحد الشّباب، سألني عن جوانب من سيرة أستاذنا وقدوتنا الشّيخ إبراهيم بيّوض – رحمه الله – كان ذلك قبل ثمانٍية عشر عامًا، لـمّا كنت مدرّسا في كليّة التّربية  بولاية  “نزوى ” (سلطنة عمان ). أرسل إليّ رسالة، عرض فيها مجموعة من الأسئلة أجبته عليها. اخترتُ في هذا المقال ثلاثة أجوبة لها علاقة بشخصيّة الشّيخ إبراهيم بيّوض، أقدّمها للقرّاء الكرام تحيّة لهم، وإحياء لذكرى شيخنا ومربّينا الفاضل رحمة الله عليه.

الشّاب هو عبد الله بن  علي بعوشي، أرسل إليّ الرّسالة  من عمّان، كان آنذاك طالبًا في الجامعة الهاشميّة الأردنيّة ( هو اليوم دكتور. منخرط في العمل الاجتماعي  في بلدته بريّان ولاية غرداية، الجزائر. مثابر في الأعمال العلميّة، وفّقه الله وسدّد خطاه ). هذا جزء من الرّسالة التي أرسلتها له جوابا على أسئلته  المهمّة الهادفة:

أخي الفاضل عبد الله بن علي بعوشي، حفظكم الله ورعاكم وسدّد خطاكم، ووفّقكم في دراستكم، وفي كلّ أعمالكم ومشروعاتكم. السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى كافّة إخوان الصّفا وخلاّن الوفا، ومن اتّبع نهج المصطفى، وسيرة السّلف الشّرفا.

قرأت رسالتكم الرّفيعة، المفعمة بالوفاء والإخلاص، الفيّاضة بالمشاعر، الحاملة للبشائر، النّاطقة بصدق ما في السّرائر، وما يعتمل في الضّمائر. شكرا أخي على الأوصاف التي خلعتها عليّ، عذرا على الإطراء الذي أضفيته عليّ، في الحقيقة، إنّ ما كتبته أقبله؛ لأنّه يدخل في باب حسن الظّنّ، ويندرج ضمن المسؤوليّة التي تريد أن نضطلع بها جميعا، ونعمل على القيام بها مجتمعين؛ ( لأنّ من مدحك وشكرك فقد حمّلك المسؤوليّة فيما أثنى فيه عليك). من هذه الزّاوية أقبل منك ما قلت، وأقول: اللّهم اجعلني فوق ما يظنّون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون. وأعنّي على تحقيق ما يصبون إلى تحقيقه بواسطة شخصي الضّعيف.

إنّ رسالتكم حرّكت الشّجون، وأقضّت الجفون، وأثارت الذّهون. عبّرت عمّا يختلج في الصّدور، وأبانت عمّا بين السّطور، وكشفت عن المستور. إنّ ما سألتم عنه هو عين ما يستفسر عنه كلّ من يملك ذرّة من الغيرة على نفسه، وعلى مستقبله، وعلى أمّته. ويبحث عن إجابات مقنعة عمّا يدور في داخله،  وعند كلّ من يشعر أنّ له مسؤولية، ويحمل أمانة؛ تطبيقا لقول الله تبارك وتعالى: } إنّ الله يامركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها… {  ولقول الشّاعر العربي:

إذَا ائْتُمِنْتَ عَلَى الأَمَانَةِ فارْعَهَا   إنّ الكَريـمَ عَلَى  الأمَانَةِ   رَاعِي

واستجابة لنداء الضّمير والواجب. وتحقيقا لتوجيه أستاذنا الشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض للشّباب: ” أريد من كلّ واحد منكم أن يكون له أثر في المركز الذي يشغله. لا أريد أن بكون كميّة مهملة، تمرّ الشّهور والأعوام، ولا يحسّ له أثر، ولا يسمع له صوت, ولا يظهر له عمل…”  ما سألتم عنه مهمّ جدّا، نحاول الإجابة عنه بما نملك من معرفة ودراية وكفاية، اللّهم يسّر تيسيرا، وهوّن ما كان عسيرا، سبحانك  لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم.

س1 – لماذا نقص الاهتمام بالأدب العربي؟ وقلّت العناية به؟ وخلت السّاحة من الأدباء، خلا بعضا يحسبون على الجيل القديم؟ وكيف السّبيل إلى عودة الأدب الرّفيع، والشّعر الرّصين، واللّغة القويّة السّليمة؟

ج1 – إنّ ما أثرته يدخل ضمن النّهج الذي سلكه من لم يفهم دوره في الحياة، ولم يَعِ حقيقة ما هو منوط به، ولم يعرف حقيقة الانتماء الذي يتحدّث عنه، ولم يتبيّن أصله وإنيّته. ولم يكتشف المبادئ التي تحكمه، والأهداف التي تربطه؛ ليتحرّك بين هاتين النّقطتين، في خطّ مستقيم؛ التزاما بقوله تعالى:} وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلّكم تتّقون{، فيكون من بين ما يضمن البقاء في الخطّ المستقيم، وتحقيق الانتماء، وتثبيت الهويّة… الاهتمام باللّسان الذي يحمل هذا الفكر، ويصون هذه العقيدة. إنّها اللّغة العربيّة، التي تحتاج بدورها إلى ما يحفظها، وينقلها إلى الأجيال ويطوّرها. الذي يقوم بذلك هو الأدب بكلّ فروعه وأنواعه، فإذا ازدهر الأدب ازدهرت اللّغة، وإذا ضعف ضعفت اللّغة.

الزّهد في الأدب يرجع – إلى جانب ذلك – إلى طغيان التّفكير المادي، واكتساح موجة التّكنولوجيا السّاحة والحياة، وقصور نظر النّاس إلى مستقبل حياتهم، وعدم معرفة ما يصلح لحالهم ومآلهم. ويعود إلى تحييد العلوم الإنسانيّة من السّاحة؛ اعتقادا من النّاس أنّ لا مقام لها في الحياة، ولا جدوى منها في المعاش. وقصدُ المغرضين قتل الرّوح في النّفوس، وإفقار الحياة من المعنويات.

الحلّ هو القضاء على الأسباب المعرقلة، وتهيئة الظّروف المعينة على ردّ الاعتبار للأدب، وإقناع النّاس بضرورة الاهتمام بالعلوم الإنسانيّة، والعناية بالأدب، الذي هو الأساس في حياة الأمم؛ إذ أنّ كلّ النّهضات التي قامت في العالم، أو التي استرجعت مكانتها، اهتمّت بالأدب؛. بِصِفَتِهِ  الرّكيزة في بناء الحضارات، إذا فهمنا الأدب حقّ الفهم. وقديما قال ابن قتيبة: من أراد أن يكون عالما فليدرس علما واحدا، ومن أراد أن يكون أديبا فليتوسّع في الفنون.

لكي ننشر الفضائل بين النّاس، ولكي نوجّه المجتمع نحو القيم التي يجب أن تسوده، ولكي ننمّي روح الانتماء في النّفوس، ولكي نبعث الحماسة في القلوب إلى ما يشدّ الأمّة، ويربط المجتمع… علينا بتقوية الرّوابط مع الأدب؛ إنّه الذّاكرة، وهو السّجلّ، هو الموجّه. هو الحامل للفكر، وهو الحامي للأصول، وهو الحاوي للتّاريخ، وهو المستشرف للمستقبل… يجب الاهتمام بكلّ فنونه: شعرا وقصّة ورواية ومسرحيّة ومقالة… ؛ لأنّ الأدب لا ينهض إلاّ بهذه الفنون مجتمعة. ولكي نحقّق ذلك ونردّ للأدب مكانته، علينا أن نربّي ملكة التّذوّق في النّفوس، وننمّي حاسة الاستمتاع في النّاس؛ وذلك بتقديم الأدب الأصيل، والتّعريف به تعريفا سليما، وإسناد هذه المهمّة إلى من له القدرة على ذلك؛ حتّى لا يسئ إلى العمليّة، ويجني على الأدب نفسه.

س2 – بصفتكم رجلا عايش الإمام الشّيخ بيّوض، وعمل مصلحا في مجتمعه، وعاصرتم أيضا التّغيّرات الحاصلة في المجتمع، ونحن في هذا الوقت وأمام هذه التّغيّرات نحاول أن نتلمّس مواضع أقدامنا، ونعيد سيرة السّلف فينا. السّؤال باختصار: كيف نستطيع أن نصلح، أو أن نكون مصلحين في مجتمعنا؟ مصلحين معنى ورسما؟

ج2 – الأوصاف التي خلعتها عليّ ليست حقيقيّة؛ إذ أنّ تجربتي في المجال المذكور محدودة، لا تعدو محاولات بسيطة، وأعمالا لا تحسب في مضمار الإصلاح، بالمفهوم الحقيقي له، وبالمعنى الدّقيق للعمل الاجتماعي. كما أنّني لم أعايش الإمام الشّيخ بيّوض – رحمه الله – إلاّ قليلا. وقد أدركته في أخريات حياته. حظينا بلقاءات معه في بيته، ونحن طلبة في معهد الحياة، وجلسات ونحن طلبة في الجامعة، وكان لنا الشّرف أن يمنحنا شيخنا من وقته الثّمين ما أفادنا كثيرا في إطار الأسابيع الثّقافيّة لطلبة الجامعة القراريّين. كما جلست إليه شخصيّا في بعض الموضوعات الخاصّة. وحضرت دروسه في مسجد القرارة، وفي معهد الحياة… وقد أفدتُ من كلّ ذلك كثيرا في مجال العمل الاجتماعي والتّربوي والإصلاحي..

اعلم أخي أنّ الإصلاح يبدأ من النّفس، أصلح نفسك وادعُ غيرك. لا يستطيع الفرد أن يصلح غيره حتّى يصلح نفسه. إنّ ما ذكرته من التّغيّرات الحاصلة في المحيط الذي يتحرّك فيه الإنسان شيء ملموس وملاحَظ، وهو طَبَعي. إنّه هو الذي يضمن تطوّر الحياة، ويبعث فيها الدّيناميكيّة والحيويّة. الحكيم هو الذي يعرف كيف يفيد من هذا التطوّر وهذا التّغيّر، ويوظّف كفايته العلميّة والتّربويّة في توجيه الحياة وَفق ما تقتضيه المصلحة، وتدعو إليه الحياة. ويكيّف المتغيّرات بحسب ما تطلب المبادئ، وتنشد الأهداف، وينادِي به العصر. هنا يظهر المصلح الكفء، والمربّي الحاذق، والموجّه الماهر، والرّائد الذي لا يكذب أهله.

إنّ ذلك يُطْلَبُ من الشّخص الذي يرى نفسَه مُهيَّأ، أو مُبتلًى بالسّير في هذا المضمار، أو تَحمُّلِ المسؤوليّة في هذا الميدان…أن يعدّ عدّته؛ بأن يحدّد رسالته في الحياة منذ البداية، ويجتهد في إعداد نفسه لهذه الرّسالة منذ الصّغر. فهذا الشّيخ إبراهيم بيّوض بقول عن نفسه في بداية مشواره في ميدان الإصلاح، وقد آنس منها القدرة والقوّة للسّير في هذه السّبيل:  “إنّني وقف لديني وأمّتي ووطني، إنّ الآمال الكبيرة الكثيرة التي تملأ نفسي لوطني، وأضطرم شوقا إليها، لا يعلمها إلاّ الله.

إذا مِتُّ ولم تكن القرارةُ كعبةَ التّربية والعلم بحقّ، ولم أترك في جامعنا الذي يجب أن ينتقل إليه التّعليم ثلاثين حلقة في جميع العلوم الحيّة النّافعة الضّروريّة لنا، لا ثلاثة فقط، كما هو في معهدي الآن، لا أكون قد عملت شيئا يستحقّ الذّكر.”..

 هذا ما يجب أن يستشعره من يريد السّير في هذه الطّريق، ويعاهد نفسه على بذل جهده، من دوم توانٍ في هذه السّبيل.

 بداية هذا الاستعداد التّكوّن العلمي الصّحيح والسّليم في مختلف المعارف. والمشاركة في الأنشطة المختلفة التي يقوم بها المجتمع. ومنها الاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع؛ ليتعرّف عليها السّائر في هذه الطّريق عن كثب، ويفهمها جيّدا: في سيرها وسلوكها، وطلباتها واحتياجاتها، وميولها ونزعاتها، وهمومها واهتماماتها وانشغالاتها…وأن لا يبعد كثيرا عن مجتمعه، ليعرف ماذا يدور فيه، وليقف على التّطوّر الذي يحصل فيه. ويحاول الملاءمة بين ما يقرؤه في الكتب من النّظريّات وما يدور وينتشر في المجتمع الذي ينتمي إليه، والذي سينشط فيه، أي يلائم ببن النّظري والتّطبيقي.

إنّ ذلك يعينه على فهم المجتمع فهما جيّدا، ومعرفة حقيقة التّحرّكات التي تحصل فيه، ويعي العمق الذي تحمله حركات أفراده. فلا يكون ضحيّة أفكار يكوّنها عن هذا المجتمع؛ ممّا ينقله إليه من لا يريد خيرا لهذا المجتمع. أو ممّا يسمعه من غِرٍّ لا يفقه شيئا, أو لا يستوعب ما يَنقُل، ولا يكون فريسةَ مغرض يريد بالمجتمع سوءا، فيستمع إلى ما يقول، وينخدع بما يدلي به. أو يكون ضحيّة أفكار ونظرات يحملها عن مجتمعه، تكوّنت لديه بسبب عوامل وظروف خاصّة..

كلّ هذه العائقات والمشكلات يمكن التّغلّب عليها، حين تكو ن النيّة حسنة، والاحتكاك متوافرا، والاقتراب من المجتمع حاصلا باستمرار، والاستعداد الجيّد لخوض معترك الحياة بصدق وثقة وكفاية. والدّخول بقوّة وعمق داخل المجتمع..

حتّى يكون الإصلاح مجديا لابدّ من التّمتّع بالصّلابة في المبادئ والمرونة في التّحرّك. والتّمتّع بالكفاية في التّربية والتّوجيه، وتحديد الأولويات في هذا العمل، وعدم استعجال النّتائج، والصّبر وعدم التّأذّي بما يحصل في هذه السّبيل. قال الشّيخ إبراهيم بيّوض ستة 1944م: ” نرجو من المولى عزّ وجلّ أن يزيل الحواجز إلى الأبد، فتنشط الأيدي للعمل، والعقول للتّفكير، وتفتح صدور المجالس للذين يتصدّرونها بحقّ. نرجو من الله التّأييد حتّى لا نقول إلاّ حقّا، فتكون دعوتنا من دعوة الله…”

وقال بعد أن بدأ برى ثمرة غرسه، ونتيجة جهاده: ” …إنّها أمّة كريمة منجب، ففي كلّ عصر تنجب أجيالا صالحة كهذه التي أرى أمامي الآن، وقادة أبطالا مخلصين يرفعون لواء الجهاد والعمل لله. إنّها لن تموت وهؤلاء الذين أراهم أمامي. هذه الجموع المثقّفة العاملة أبناؤها، ولن تهتك حرمة عرين، هؤلاء أشباله، ولن تنكس رايةٌ، هؤلاء حَـمَلتُها. لن ينال العدوّ منّا ما يريد، ولنا أمثال هؤلاء الجنود المدجّجين بالعلم الصّحيح والخلق الإسلاميّ العظيم، والفكر النّاضج والتّدبير المحكم إن شاء الله…”

تأمّل أخي الكريم، في هذا القول وهذه الشّهادة، وانظر ماذا كان ينشده الشّيخ بيّوض في عمله، وماذا كان يهدف إليه في تربيته، لتعرف كيف تكون مصلحا معنى ورسما.

س3 – نريد أن نعرف معالم خطّة الشّيخ بيّوض في تكوين الإطارات. أقصد في إيجاد الكفاءات العلميّة المتخصّصة، وفي المجال يرد سؤال حول نظرة الشّيخ للبعض الذين أرسلهم طالبين للعلم، فعادوا بأفكار غريبة، ونظرته – رحمه الله – إلى الجامعة ؟ ثمّ أين المتخصّصون في الشّريعة الإسلاميّة؟ أليس الملاحظ أنّ الكلّ توجّهوا إلى الأدب، أو تحوّلوا بعد عمر طويل من الأدب إلى الشّريعة؟ وأصلا لماذا تحوّل – رحمه الله – من دروسه المتخصّصة في المعهد من تفسير وحديث وفقه… إلى العمل الاجتماعي الذي ربّما أقول سيخلفه فيه غيره من الطّلبة، والعمل السّياسي المتعب المليء بالنّكبات؟ فلم بخلّف لنا سوى تفسير مسموع وكثير من دروس الوعظ والإرشاد؟

ج3 – الشّيخ بيّوض لم يضع خطّة دقيقة لعمله الإصلاحي التّصحيحي التّغييري؛ بسبب أنّه اقتحم الميدان، من دون أن يهيّئ نفسه التّهيئة الكاملة، التي يتطلّبها المنصب الذي تبوّأه بعد ذلك، إلاّ أنّه لـمّا رأى الميدان فارغا، بعد وفاة شيخه الحاج عمر بن يحي الأمليكي ( ت 1339هـ/1921م) وأحسّ أنّ القرارة في حاجة إلى رائد وقائد ومرشد ينقذها من أن ينالها اندحار في مسيرة الإصلاح، وتصيبها انتكاسة في النّهضة العلميّة… تقدّم لإنقاذ الموقف, فتجرّأ على حمل الرّاية، وتسلّم الرّيادة، وأخذ القيادة؛ اعتمادا على ما أَنِسه من نفسه من القدرة على تحمّل المسؤوليّة، وبدافع من حمل الأمانة. فكان موقفه شبيها بموقف خالد بن الوليد في موقعة مؤتة.

من هذا المنظور ولهذا السّبب فإنّ الشّيخ بيّوض لم يعدّ خطّة دقيقة لعمله، بالمفهوم العميق للكلمة، وبالمنهج المتّبع عند الزّعماء والمصلحين. نحن بدورنا – طلبة الجامعة في السّبعينيّات – عقدنا معه جلسة في منزله بالقرارة سنة 1976م، سألناه عن خطّته في العمل الإصلاحي وبرنامجه، وعن عدّته العلميّة؛ بصفته رجلا مصلحا، وزعيم أمّة… حتّى نفيد منه، على أساس أنّنا مقبلون على هذا الميدان، وطامحون للسّير في هذا النّهج…أجابنا بأنّه لم يضع لنفسه برنامجا، ولا أعدّ خطّة يسير عليها. إنّما وضع نصب عينيه خدمة أمّته، ومواصلة عمل مشايخه، والمضيّ في الإصلاح. وقال لنا تكوَّنْتُ عبر الزّمن ، ومن المواقف التي تعترضني. كنت أجتهد في حلّ المشاكل التي تحدث، وأسير بأمّتي إلى وجهة الصّلاح والفلاح؛ بحسب ما يوفّقني الله إلى ذلك. معرفتي ووسائلي وخطّتي تكون رهنَ الظّروف والأحوال. لكنّه كما قال عن نفسه: ” …إنّني أعلم ما عليه نفسي من إخلاص وصدق، وما أسأت قطّ ظنّا بربّي ولا بنفسي، إنّني أعمل لإنهاض أمّتي، لإخراجها من الظّلمات إلى النّور، وأوقن كلّ اليقين أنّ عملي هذا لن يضيع، وأنّ ربّي سيعلّم جاهلَهم، ويرشد ضالَّـهم، وينير الطّريق للمحتارين…”

هذا ما سار عليه الشّيخ بيّوض، فقد كانت الخطط َتقترِح أو تَفرضِ نفسها عنده حسب ما يمليه الظّرف، وترشد إليه الضّرورة. ومع ذلك تستطيع أن تتلمّس أو نستنتج معالم  عمل الشّيخ بيّوض من خلال نشاطه، ومن أقواله ومواقفه، ومن دروسه وخطبه ومقالاته ومذكّراته ومراسلاته… فإنّ هذه المعالم تتلخّص في كون الشّيخ يؤمن أنّ الإصلاح يجب أن يكون شاملا لكلّ المجالات، من دون استثناء. وأن يكون للمسجد الدّور الأوّل في توجيه المجتمع، وأن يربط النّاس به، وأن يكون هو محور نشاطهم وحركتهم، وأن يظلّ له دور الهيمنة على كلّ مؤسّسات المجتمع، والمرجع في تنظيم حياة النّاس. وأنّ ميدان تكوين الأجيال هو المدارس والنّوادي والمؤسّسات التّربوية والثّقافيّة والاجتماعيّة، وأن تُقتحَم كلُّ الميادين والمجالات؛ حتّى تضمن الأمّةُ لأمورها السّيرَ الحسن، وتلبّى كلّ مطالب الأمّة، وحتّى لا يتولّى غيرُها تسيير شؤونها. وقد كانت مرتكزاته في العمل هي الاهتمام بالشّباب، والصّلابة في المبادئ والمرونة في التّحرّك، والجمع بين الإعداد الرّوحي والمادّي، ومراعاة الأولويات في العمل والتّغيير، وتقدير الظّروف في عرض فكرة جديدة، أو تصحيح أخرى. مع عدم التّهاون والتّأخر في ذلك إذا كان الأمر لا يقبل التّأجيل، والحرص على الوَحدة والتّماسك، وعدم التّفريط في العمل المؤسّساتي، والمحافظة على الهيئات التّربويّة والاجتماعيّة.

 لمزيد من الوقوف على هذه المعالم أحيلك أخي عبد الله، إلى الخطبة التي ألقاها الشّيخ بيّوض في ختام الملتقى الذي انعقد في القرارة لتأسيس جمعية قدماء التّلاميذ سنة 1948م. انظر الشّيخ محمد عليّ دبوز، نهضة الجزائر الحديثة وثورتها المباركة ج3، ص: 196 – 208. وكتابَي الشّيخ بيّوض: المجتمع المسجدي، وحديث الشّيخ الإمام. وبحث الأستاذ نور الدّين سوكحال : الشّيخ إبراهيم بيّوض ومنهجه في الإصلاح وغيرها..

أمّا نظرة الشّيخ إلى الجامعة فيمكن أن تقرأها في نظرته إلى العلم، كما ورد في الفقرة الآتية: ” …وما أظنّ بكم حاجة إلى بيان خطر العلم وقيمته في تشييد ركن الدّين، فإنّه من البديهيّات. هذا في علم الدّين وما يخدمه من علوم اللّسان. وأمّا إذا نظرنا إلى علوم الطّبيعة والكيمياء والتّعدين وحرث الأرض والهندسة في مختلف أنواعها، وما إلى ذلك عند الأمم المتأهّلة لها، فإنّ الأمر أعظم من ذلك، فلا عاقل في مشرق الأرض أو مغربها يستطيع أن يقول اليوم إنّ بناء حصن، وتشييد قلعة أنفع لأيّة أمّة أو دولة من بناء مدرسة، وتشييد مختبر، وما عمّرت القلاع، ولا دجّج الجنود إلاّ بمبتكرات العلماء. فثلّة من العلماء المنزوين في زوايا مخابرهم أنفع لأيّة أمّة أو دولة من ملايين الجنود، تحشد في القلاع، أو تساق إلى الثّغور.”  لك أن تجيب نفسك أخي عبد الله من خلال هذا القول.

أمّا عن الطّلبة الذين رجعوا بأفكار غريبة بعد دراستهم في بعض الجامعات، ونظرة الشّيخ بيّوض إليهم، وكيف عاملهم. فإنّ المقام لا يتّسع لشرح ذلك وتوضيحه، ربّما سنحت فرصة أخرى للحديث في الموضوع.

أمّا عن سبب تحوّل الشّيخ بيّوض عن دروسه المتخصّصة في المعهد من فقه وتفسير وحديث إلى العمل الاجتماعي والعمل السّياسي، الذي ربّما سيخلفه فيه غيره من الطّلبة.. فجوابي هو الآتي:

في الحقيقة ، إنّ تقدير عمل الشّيخ بيّوض، ومعرفة منهجه في الحركة والنّشاط، يتطلّب معرفة الظّروف التي كان يتحرّك فيها، على المستوى المحلّي والوطني والعالمي. مع ذلك لا يمكن أن نقول: إنّ الشّيخ تحوّل عن ميدان إلى ميدان أبدا، لقد كان عمله شاملا وعامًّا ومتكاملا، فيه الدّيني والاجتماعي والتّربوي والثّقافي والسّياسي…- إذا أمكن الفصل بين هذه الميادين في مجال الحديث عن المنجزات؛ انطلاقا من مفهومه للإصلاح الذي يجب أن يكون شاملا. قال:” نصلح كلّ مجلس، وندخل كلّ محكمة، ونتبوّأ كلّ منصب، ونقضي على كلّ فساد، فيعمّ الإصلاح جميع الهيئات والمؤسّسات…”

ما تراه  أخي عبد الله.. تحوّلا أو شغلا لمجال، يمكن أن يتركه لغيره، هو ما كان يقوم به، وهو ما أشرتَ إليه في سؤالك. فهو كان ينشط في الميدان الذي يراه فارغا، فإذا وجد من يقوم مقامه تركه له، وضاعف جهده في ما يرى نفسه أهلا له، كما فعل حين تخلّى عن التّدريس في معهد الحياة؛ إذ لـمّا كثرت مشاغله، واتّسع مجال تحرّكه، ورأى ضرورة شغل ذلك المجال، ووجد من عضده الأيمن أستاذنا الشّيخ عدّون بن بالحاج شريفي  ومن كان معه خير من يقوم بشؤون المعهد، تخلّى عن إدارته، وانقطع عن التّدريس فيه، إلاّ في أوقات محدودة. كما ترك شؤون عشيرته لغيره، وأسند مهمّة تسيير بعض الهيئات والمؤسّسات إلى طلبته وأبنائه…

أمّا عن دخوله مجال السّياسة فهو مندرج ضمن الاستراتيجيّة والخطّ الذي رسمه لنفسه، وهو التقدّم إلى كلّ ميدان يرى نفسه أهلا له، وأنّه سينفع به أمّته، وأنّه يحقّق الإصلاح الذي ينشده، وبخاصّة حين يرى الميدان فارغا. قال الشيخ وهو يشرح الظّروف التي دفعته إلى التّرشّح للمجلس الجزائري سنة 1948م، ودخوله معمعة السّياسة، وبخاصّة لـمّا أثيرت قضيّة فصل الصّحراء الجزائريّة عن الشّمال:” …وفي تلك الظّروف قرّرت أن أرشّح نفسي لذلك المجلس بدافع وطني، وبتحريض من أغلبيّة سكّان وادي ميزاب، الذين أعلنوا أنّهم لا يريدون العزلة والانفصال ، وأنّهم يرتبطون بالشّمال.”

ثمّ قال لأبنائه بعد ذلك في ملتقى تأسيس جمعية قدماء التّلاميذ: ” ليس للقب النّائب عندي قيمة، إلاّ بقدر ما أجلب لقومي من خير، وأدفع عنهم من ضرّ، لا يهمّني أن أبرز في المجلس في غير ما يتّصل بقومي ووطني الجزائر، وأنّي لأنفع أمّتي بهذا اللّقب خارج المجلس كذلك. فإنّ الحامل للقب النّائب تفتح في وجهه أبواب كانت موصدة، وتصغي إليه آذان كانت تتصامم. إنّي أعدكم أنّني لا أنتفع بهذا اللّقب لشخصي، إلاّ بقدر ما يعينني على أداء مهمّتي. فما تقبّلت النّيابة لغرض شخصي، ولا لنفع مادّي. إنّني وقفت حياتي فيما مضى على أمّتي ، وإنّني أقف عليها ما بقي من أيّامي، والله حسبي.”

إذن إنّ الشّيخ بيّوض لم يتحوّل عن وجهته، ولم يحد عن نهجه، ولم يتخلّ عن مبادئه، إنّما كان يلبس لكلّ حادثة لبوسها، ويسلك مع كلّ مرحلة ما يليق بها، ويغيّر من وسيلة النّضال والجهاد كلّما دعت الضّرورة. ويتكيّف مع الأحوال والمقتضيات…هذا ما نتعلّمه من دروس في سياسة الأمور، وإدارة شؤون النّاس، وتنفيذ المخطّطات، وإنجاز المشروعات.

عن مخلّفات الشّيخ بيّوض من الآثار المكتوبة، صحيح هي قليلة؛ لأنّه كان مهتمّا بتكوين الرّجال وإعدادهم . إلاّ أنّنا لا نقرّ بأنّ الشّيخ لم يترك إلاّ تفسيرا ودروسا كثيرة في موضوعات مختلفة. إنّ له خطبا كثيرة، ومقالات عديدة، ورسائل علميّة متعدّدة، وفتاوِيَ, ومحاضرات، ومؤلّفات مخطوطة ومذكّرات…أحيلك إلى الدّليل الذي أعددناه عن الشّبخ بيّوض بعنوان: “بيبليوغرافيا عن الشّيخ بيّوض( ما كتبه وما كتب عنه).

على أنّنا نعدّ ما تركه من دروس ومحاضرات في الأشرطة تراثا غنيّا، وزادا معرفيّا، يحمد لشيخنا. على أسرته وأبنائه أن يعملوا على إخراجه، وعلى طلبة العلم والباحثين تقديم هذه الكنوز إلى من يفيد منها.

أمّا عن سؤالك أين المتخصّصون في الشّريعة الإسلاميّة. فهذا همّ يقضّ مضجعنا جميعا، نحن بدورنا نناشد الأمّة التّفكير في وسيلة لتكوين هؤلاء تكوينا علميّا صحيحا، وتهيئة الظّروف الملائمة: الماديّة والمعنويّة. إلاّ أنّني أقول – والحمد لله – بدأنا نرى بدورا من الطّلبة والأساتذة وخرّيجي المعاهد والجامعات، يقتحمون الميدان، سيكونون قريبا إن شاء الله أهلّة يضيئون سماءنا، وسُرُجا ينيرون دروبنا؛ بشرط أن يُهتَمّ بهم، ويُعرَف لـهم قدرهم، ويُفَسح لهم الـمجال في الـمحيط الذي يتحرّكون فيه، ويُؤخذ بأيديهم بالتي هي أحسن، وبالخطّة الأمكن.

أمّا الاتّجاه إلى الأدب، فهذا ليس صحيحا، فإنّ الأدب نفسه يشكو هجران مجاله، والتّنكّر لهويّته، والانقطاع عنه، ويتذمّر من اتّهامه بأنّه لم يعد له دور في الحياة. أمّا عن تحوّل الأدباء إلى متخصّصين في الشّريعة، فإنّني أرى ذلك خطوة سليمة؛ إذ أنّ المتخصّص في الشّريعة يحتاج إلى باع طويل في مجال اللّغة والأدب وعلوم الآلة، ليفهم الشّريعة كما ينبغي، وليقوم بدوره أحسن قيام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى