قراءة في نص” المطلق” للشاعرة ثناء حاج صالح

فائزة القادري | شاعرة وناقدة من سوريا

 

مع خشيتي من الغرق في بحر شاعرة لها أفق يربط روحها بالسماء …أطلق رسن قاربي وأخوض كبحارة فلسفة الشعر والحب والمطلق في نص الشاعرة ثناء .

ولأنها كانت هناك قبل أن تعلّم نوارسَها هذه الترانيم ..تقرأ البحر وأمواجه وصخوره ورمال شواطئه وتجيّرهم وتستفز عناصر الطبيعة ليندمجوا في قافلة حجيج إلى عنوانها الرهيب الرحيب الجليل ..

المطلق ..

حيث المطلق هو الكامل التام المتعرى عن كل قيد أو حصر أو استثناء أو شرط..  هو الحد الذي لايمكن تجاوزه ..الحُر ..والخالص من كل تعيين أو تحديد والذي لا ينسب لغيره ..

الموجود في ذاته وبذاته ..

واجب الوجود ..

المتجاوز الزمان والمكان ..حتى وإن تجلى فيهما .

اختيار العنوان محنة الشاعر الأخيرة

وبارع من يكون منطقيا ودقيقا في استلهامه ..

وقد اختارت ثناء ثناءََ على حبها أو المقصد الذي غلفته بالأبيات مفردة “المطلق ” فهل هو كما خصصته للحب ” حبنا ٲو كل مابيننا مطلق ” أم أرادت به مجمل المقصد في النص برمته ؟

أم نتيجة متصوَّرة للقارئ بعد خروجه من النص ؟

تحيلنا الشاعرة بهذه المقدرة إلى رموز الفلسفة لنتزود بأدواتنا قبل قراءة وقبل غوص مفترض .

لقد أقرّ هيغل بأن المطلق هو الروح المطلقة التي تعبّر عن اللحظة النهائية لانتشار الفكرة التي تحقق نفسها على ثلاث مراحل من خلال الفن والدين والمعرفة الفلسفية وأنه كيان ونتيجة ..كيان يتعارض مع أي كيان نسبي .

إذن العنوان بذاته ولذاته كيان ونتيجة .

وسيتخيل قارئه عِظَم المعاني التي ستكون طي جناحيه .

وأي خافق يحمل ..

تقول الشاعرة في البيت الأول :

“كل الذي ما بيننا مطلق” ولايسعنا إلا أن نهتف :

يا إلهي .

من وصف حبه قبل ثناء بالمطلق ؟

من غيرها رائد ؟

خلع على حبه أعظم تعريف .

“كل الذي ما بيننا مطلق ” بكل تجلياته: الكمال والنقاء واتحاد الأضداد والانسجام بينها .

“كل الذي ما بيننا مطلق ” أي حبنا بذاته لا بصفاته ..ال بدون خطيئة ..الذي لايمكن تجاوزه ولايمكن أن ينسب  لغيره .

بحرف القاف قوي الحضور القادم من قرار عميق في سقف الحلق تبني ثناء  رويها وقافيتها ..

وتدرك الشاعرة مكان هذا المطلق .

أين ؟

فتفاجئنا أنه في مطلق مسترسل أزرق ..

أعتقد أنها عنت بذلك البحر .

لكن ما أجمل استثمار كلمة مسترسل هنا ..

مطلق يعيش في مطلق ولايتسعه غير هذا المفهوم .

ويدلنا أن مكان مكنونه هو البحر

بيتها الثاني :

حيث تقول :

إن ضفته منذورة للموج

تنذر الضفة نفسها للموج

أي دليل سيأخذنا إلى هذا المعنى ؟

هنا

موج وضفة ورمال وصخر وفعل سحق ونذور ..

تدور هنا معارك البحر والضفاف .

يراودنا سؤال هل هي تتحدث عن معارك مابينهما أم معارك الأزرق ؟

تكمل الشاعرة رحلتها فتقول :

لا سابحا لا طائرا ..

هو اللانهاية واللا بعد فكيف يجرؤ سابح أو طائر أن يخترقانه ..

لا عجب لأن المطلق كما وصفه كانط مستحيل المنال وفي الفلسفة الشرقية هو المجهول بالنسبة للعقل البشري ولايمكن تصوره والظلام أو الفراغ الأبدي .

ثم تكمل شاعرتي ..

ياسائلي :

هناك من يسألها

السؤال الذي يخطر في ساحتها

“هل شفني وله “

استخدمت وله الدرجة الأعلى في العشق .. واستخدمت شفني ببراعة ونحت جميل للغة .

لترد على السائل :

لاينبغي للفصل أن يعشق .

أي فصل أنت أيتها الجميلة .

قلت ذات مرة ..

بأن العشق هو الفصل الخامس .

فكيف لايعشق الفصل ؟

تقول

فصل أنا ميقاته سنة .

تمر السنة على الغصن فيورق ..

السنة ميقات له انتهاء ..

العشق دوام ..

لكن الفصل وافد ومرتحل ومترجل عن حقله المرهق ..

وأُرهقت الأدلة يا ثناء .

لماذا أنت الفصل ولماذا أنت آتية وترحلين ولماذا تترجلين وأنت ربة كل هذه المعارك ؟

ثم مسير الفصل في مبتدئه ومنتهاه قلق وأقلق ..ما أجمل هذا البيت

مسيره ..مصيره

قلق …أقلق .

المبتدا …المنتهى .

بلاغة لغوية معتادة من شاعرتنا .

 شاعرتي

أنت فصل

وأنت من انتدبتَّ زهور دمها لمجالس البلور والزنبق

الانتداب .. الوصاية ..

يالجمال مفردة البلور والزنبق !

ياللعبارات التي تشتق من دمائنا مهما كان هدفها !

وتضيف شاعرتنا .. أنها من تنشغل بجمع الصحو من بؤبؤ ودمع ..

تبعد النوم أم تهيئ له مرتعا ؟

ثم…

هي موجة في هذا الخضم لكنها مرسلة.. ولن تغرق

شطر بديع ومتوج بحكمة يقول

“ماموجة في بحرها تغرق “

الله على المعنى ..

تخرج سالمة يا ترى ؟

ثم تثري المعنى بمعنى مشابه لتقول

“هل نحلة في شهدها تعلق ” في سؤال لها

هنا أيضا نجت ولم تعتلق دبق الهوى..

في البيت التالي تشرح أن وقتها كان مستغرقا في روعة الملكوت

مستغرَق اسم مفعول ..

واستغرقته ..وقرب الألفاظ من كلمة الغرق ..

وروعة الملكوت ..

تجذبنا ٳيحاءات هذه الكلمة وطقوسها .

ودلها …ذات الوقع الكبير ..

دله ..في أعلى مراحل العشق .

تتساءل الشاعرة سؤالا يخص الغيمات ومواضعها ..

كانت جزءا من البحر وصارت في السماء وماهو قرارها ؟

تتساءل :

هل تصب العطر بزجاجة أضيق من روضه حتى وإن ضاق بذلك ؟

هي اختارت له أن يبقى في روضه

وتقرر بأنها لن تحرم الريحان ضوعته ..

رائع أن لانكتم أنفاس العبير فينا

تختم النص ب

كل الذي بيننا مطلق

لانهائي العطاء والفوح .

تعرض الشاعرة فلسفة عميقة في المنع والحرمان والعطاء لأجل إثبات حقيقة كائنة بذاتها .

فلا تقبل إلا أن تثبت أحقية هذا المفهوم

رحلة جميلة ممتعة في عالم ثناء البهي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى