تأمّلات في ديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد ” للشاعر العُماني سعيد الصقلاوي (1)

د. محمد بن قاسم ناصر بو حجام | الجزائر 

سعيد بن محمد الصّقلاوي شاعر له حضوره المتميّز بالكلمة الشّاعرة في السّاحة الأدبيّة داخل سلطة عمان وخارجها، ووله بصماته الواضحة في (الكتابة) الشّعريّة؛ بما قدّمه من ألوان التّصوير الفنّي بالكلمة والجملة والصّورة واللّوحة الفنيّة.. وبما تناوله من موضوعات مختلفة، عبّر فيها عن ذاته ووطنه عمان، وعن القضايا الإنسانيّة الكبرى، وعن عوالم الطّبيعة والوجدان.. وبما توفّر عليه شعره من التّجديد في بناء القصيدة العمانيّة بخاصّة، لغة وموسيقى وصورة ورمزًا.. وبما أوجده من جديد خرج به عن المألوف في الكتابة، خاصّة في الوزن والإيقاع..

لكلّ ذلك استحقّ أن يحتلّ مكانه في المنظومة الشّعريّة العمانيّة بكلّ جدارة، وأن يكون معلمًا من معالم تطوّر الشّعر العماني.

أصدر ستّة دواوين – في حدود علمي – هي: ” ترنيمة الأمل”.. ” أنتِ لي قدر”.. ” نشيد الماء”.. ” أجنحة النّهار”.. ” وصايا قيد الأرض”.. ” ما تبقّى من صحف الوجد”..

في هذه الدّراسة اجتهدنا في تقديم بعض النّظرات وتسجيل بعض المعالم في ديوانه: ” ما تبقّى من صحف الوجد “. حاولنا إبراز بعض الخصائص التي ظهر بها شعره المتطوّر، هذا الدّيوان – في نظري – يمثّل محطّة متقدّمة مهمّة في شعريّة سعيد الصّقلاوي.

حاولنا الإبانة عن بعض مكوّناته، في العرض والتّحليل والمناقشة..

استوقفتني في الدّيوان ظواهر ومظاهر عديدة، ولفتت نظري عناصر مختلفة في بناء العمليّة الشّعريّة وأساليب متنوّعة في صياغة أسطر قصائد الدّيوان، واسترعى انتباهي الجانب الموسيقي فيه، خاصّة الإيقاع والمعجم الشّعري الذي يحمل دلالات خاصّة.. وغير ذلك من العناصر التي تحتاج إلى وقفات متأنّية وتحليلات مستفيضة ونقد عميق.. هذا العمل لا يمكن لي القيام به في هذه الدّراسة العجلى غير المعمّقة.. وقد اكتفيت بتناول بعض هذه العناصر، وتسجيلها ظواهرَ تميّز الدّيوان.. الهدف من ذلك هو تقديم وجه من وجوه الشّعريّة العمانيّة المعاصرة المتميّزة. متمثّلة في شعر سعيد بن محمّد الصّقلاوي.. لذا أسميت الدّراسة: ” تأمّلات في ديوان ما تبقّى من صحف الوجد “.

اخترت لها هذا العنوان؛ لأنّني لم أتعمّق الدّراسة في الدّيوان بتتبّع كلّ ما ورد فيه، ولم أقم بالتّحليل المستفيض والنّقد المعمّق، ولم أتناول كلّ ما سجّله الشّاعر من عواطف وخواطر وموضوعات في الدّيوان، اقتصرت على الجانب الفنّي فلم أعالج المضمون والمحتوى، واكتفيت بإشارات عابرة إلى بعض موضوعاته، بما تجرّ إليه الحاجة أو الرّغبة في التّوضيح والتّفسير والرّبط بين ما تناولته في الدّراسة..

تركت بعض العناصر لم أحلّلها، وعرضتها على شكل أسئلة للنّظر فيها فيما بعد، وربّما يقوم بذلك بعض الدّارسين المتمرّسين المتخصّصين.. وأثرت بعض الإشكالات في العمليّة الشّعريّة في الدّيوان؛ لأنّها في حاجة إلى ميد تأمّل ونظر وتفحّص ونفاذ في التّجربة التي أبداها الصّقلاوي أو خاضها في بعض الجوانب..

تناولت دلالة عنوان الدّيوان واللّغة والصّورة والموسيقى والرّمز والطّبيعة، ووقفت في بعض القصائد لتسجيل بعض التّعليقات التي تسهم في التّعريف بشعريّة الصّقلاوي، وذلك بتحليل بعض القصائد، وإجراء مقارنة بين قصيدة للصّقلاوي وأخرى لعلي محمود طه؛ نموذجًا للشّعر الوجداني، الذي لم يخلُ منه ديوان ” ما تبقّى من صحف” الوجد، كما قدّمت ملاحظات على بعض أشعار الدّيوان، تبرز بعض مميّزاتها.

عمدت إلى بعض المقاربات بين أشعار سعيد الصّقلاوي ونماذج من أشعار الشّعراء الوجدانيّين للوقوف على ما توفّر في شعره من خصائص الاتّجاه الوجداني..

عسى أن تقدّم هذه العناصر صورة عن أشعار الدّيوان، وتقرّب القارئ من خصائصه، وعساها تفي ببعض الوفاء لمن قدّم الكثير في التّجربة الشّعريّة العمانيّة المعاصرة.

العنوان وعلاقته بمضمون الدّيوان

العنوان يعلن ويفصح عمّا يحويه الدّيوان من ملامح وجدانيّة، وأحاسيس رومانسيّة، تترجم عمّا في قلب الشّاعر من مشاعر وعواطف وأفكار ونظرات إلى الحياة، بمختلف مكوّناتها، التّاريخيّة والآنيّة، والنّفسيّة والاجتماعيّة.. التي تكشف عن السّمات الفنّيّة والجمالية اللّتين تحكمان أسلوب الشّاعر في النّظم والتّعبير والتّصوير..

ماذا يعني عنوان الدّيوان: ” ما تبقّى من صحف الوجد” ؟ هل يعني أنّ الشّاعر فقد بعض وجدانيّاته؟ هل يعني أنّ ما سجّله هو المهمّ في حياته أو ذكرياته الوجدانيّة؟ هل يعني أنّ ما أثّر فيه وجدانيًّا هو ما دوّنه ونشره؟.. لا تهمّ الإجابة الدّقيقة، ولا يهمّ ما يُقترَح  أو يُقدَّم من إجابات.. بقدر ما يهمّ ما يحمله العنوان من إثارة القارئ وفضول المتلقّي لينجذبا لقراءة النّصوص الواردة في الدّيوان.. فهذه إحدى مميّزات الكتابة الفنيّة والكتابة الشّعريّة بالذّات.

بهذه الإطلالة أو هذا الاستهلال يضع سعيد الصّقلاوي المتلقّي في واجهة الالتفات إليه والانجذاب إلى ما يقدّمه له، ويرسم له خطّة ليسير في طريق متابعة مشاعره وخواطره وعواطفه..

قصائد الدّيوان اشتملت على كلمات وجمل ومقاطع تحمل طابع الوجدانيّة. وعناوين بعضها تضمّنت ما يوجّه المتلقّي إلى اكتشاف الوجدانيّة في الأبيات التي نظمها الشّاعر، ليسير معها بشوق وشغف ورغبة ليكتشف هذه الوجدانيّة، ويتأمّل فيها ويقوّمها.

الدّيوان ضمّ أربعًا وأربعين قصيدة وقطعة، عناوينها كلّها تحمل صفة وجدانيّة أو سمة وجدانيّة، هي: أقدار، أغنيتان إلى أمّي: 1 ــ  مراكب الأحلام، 2 ـــ سفر إلى الأعلى، صباح بحبّ الوطن، جرح، أمّنا الأرض، اقتراب، ليت، انبجاس، انجذاب، محبّة، منية، إطراق، ضمائر، يغنّي الملاك، ماذا تقول، روح الماء، غناء الحياة، نور وظلّ، مآلات، أراك في الكلام، ذاك شيء لا يضير، صديق، سطوع، صمت، مرآة، عشق، العارفون، تيه، المنى والغمام، انتظار، جمال هواك، حطام، مغاني، هوى أخضر، اختباء، صباح الخير يا وطني، قلب، فراغ، النّيروز، طواف، زمن..

إذا تأمّلنا في هذه العناوين، نجدها تنقل مشاعر، وتصف أحاسيس، وتقدّم عواطف، وتترجم عمّا في القلب، وتنظر إلى الحياة من منطلق وجداني.. ويمكن وضع كلّ ذلك، أي مضمون قصائد الدّيوان الوجداني في الكلمات والجمل الآتية: تأمّلات، تساؤلات، عرض الأحوال، تسجيل آمال، نقل أحلام، ارتباط بالوطن الولاء له، التّغنّي والتّعلّق بالحياة، فهمها والإفادة منها، التّفاؤل، الثّقة بالنّفس، التّمكّن من القوّة، وصف الجمال،   وصف الطّبيعة وتوظيفها، نجوى الفؤاد، همس النّفس، وجد القلب، وحي الجنان.. كلّ هذه المعاني التي تدلّ عليها أو تلخّصها الكلمات والجمل التي سجّلناها.. تنبع من الوجدان، وتتعلّق بالمجال الشّعوري.

معنى ذلك أنّ العنوان يدخل في صميم بناء القصيدة، بل يعدّ جزءًا من النّصّ الذي يبنيه أو يؤسّسه الشّاعر ليبلغ مأربه من الكتابة الشّعريّة، وبذلك تتحقّق شعريّة النّصّ، أو – على الأقلّ – تسهم هذه الصّفة في توفيرها. فما قدّمه الشّاعر الصّقلاوي في هذا السّياق ساعده على تحقيق هدفه في ربط المتلقّي بما نظم وكتب وحرّر وصوّر.

هذه الحقيقة أو النّتيجة تتأكّد – عندنا -؛ طبقًا لما سجّله هلال لبريدي بقوله: ” من الملاحظات التي ينبغي الانتباه لها أنّ العناوين الشّعريّة أصبحت جزءًا من النّصّ الشّعري، بل هي بوّابته الكبرى للدّخول في عوالمه، النّفسيّة والعاطفيّة والأسلوبيّة، وحتّى التّوجّه الأدبي. وهذا أحد منجزات التّواصل الفكري العماني مع مصادر الحداثة المختلفة (1)

(2) من القصائد التي تعكس مضمون عنوان الدّيوان بقوّة، والتي ترتبط به ارتباطًا شديدًا وعميقًا قصيدة: ” منية” تضمّنت هذه القصيدة  كلمات عديدة تحمل المعنى الوارد في عنوان الدّيوان. منها: مُناه، لقاك، روحي، يهيم، تنهل، الحلم، الحبّ، نفس، هواك، تجتويني، يذيبني، صفاك، نشوة، حسّي، فأزهو، سحرها، ملاك، يا حبيبي، اشتياق، رجاء، فيض…

وَفُؤَادِي   إِليْكَ  فيْضُ  وجْدٍ                 طَائِرُ الـحُلْمِ، لاَ يَرَى سِوَاكْ (3)

في عنوان قصيدة ” هوى أخضر” (4) نقرأ وجدانيّة، ناتجة من التّلوين الذي أعطاه الشّاعر للهوى، الذي صبغ حياته باللّون الأخضر المصوّر للحياة الجميلة، وهو ما جعل وجده بها جميلا ونضرًا نضارة اللّون الأخضر.. فمن خلال الكلمات التي بنى بها نصّه الوجداني نقف على هده الدّلالة التي تربط المتلقّي بعنوان الدّيوان انطلاقًا من هذه القصيدة..

من الأفعال الواردة في القصيدة: يعجب، ترغب، تطلب، يطرب، يوهب، تعذب، يسكب، تجذب، تعشب، أطنب، أنخب، أشتهي.. هي أفعال مضارعة، تعبّر عن الحال الرّاهنة والمستقبل، كما هو معروف عن هذا النّوع من الأفعال.

من الأسماء في النّصّ: وصالي، غنائي، ابتهاجي، حناني، إتقاني، قلبي، سمائي، يقيني، أحلامه، رجائي، روض السّنا، الهوى الأخضر الطّيّب..

أ ـــ الأسماء تحمل دلالة الثّبات والاستقرار، هكذا تبدو حياة الشّاعر مع هذه اللّحظات هنيئة وجدانيًّا.

ب ــــ الكلمات منتهية بياء المتكلّم،، بمعنى أنّها منسوبة إلى الشّاعر، مرتبطة به وجدانيًّا. أي هي ذاتية المشاعر.

جــ ــــ حملت الجملتان الأخيرتان الصّفة التي جاءت في عنوان القصيدة.

د ــــ ترتدّ هذه الأوصاف والوجدانيّات – في مجموعها – في هذه القصيدة بالمتلقّي إلى عنوان الدّيوان، وتحطّ به وتضعه في صورته ومضمونه..

ورد في قصيدة أخرى ما يحمل معنى قريب من دلالة العنوان، ” يتصارعُ الخفقانُ.. في صدري.. فَأُنْزَغُ.. من جمودي” (5) هذه النّماذج وغيرها تبيّن علاقة عنوان الدّيوان بما حوته قصائده من السّمات الوجدانيّة والملامح الشّعوريّة..

ما نسجّله عن عناوين قصائد الدّيوان ما يأتي:

 1 ـــ إنّ أغلب عناوينها تحمل الحسّ الوجداني، أو النّفس الرّومانسي.

2 ـــ  إنّ معظم هذه العناوين نشرت ظلالها وإيحاءاتها ودلالاتها على أبياتها.. فجاءت متناسقة مع مكوّنات تلك القصائد محتوى وشكلاً.. هذا العمل يبيّن ويفصح عن دور العنوان في البناء المحكم للنّصّ الشّعري.

3 ــ إنّ العناوين جاءت مختصرة ومكثّفة ومركّزة، متّسمة بالدّقة والملاءة لمحتويات القصائد، متناغمة مع الرّسائل التي تحملها للمتلقّي.

4 ــــ العناوين مثيرة وباعثة على قراءة القصائد بتأنّ وعمق ووعي..وبذلك تكون قد حقّقت ما هو مناط بالعنوان  من وظائف – كما يرى الدّارسون – وهي: الإغراء والإيحاء والدّلالة والتّعيين..(6) وليس بالضّرورة أن تكون هذه الوظائف متوفّرة في كلّ عناوين الدّيوان، يكفي أن تكون موجودة في مجموع عناوين قصائده..

اللّغة

   الأدب فنّ يعتمد أساسا على طريقة استخدام الألفاظ وتركيبها؛ للتّعبير عن الأفكار والإفصاح عن المشاعر ونقل التّجارب. إنّ لكلّ أديب طريقته في نحت معانيه وصوغ أفكاره. هذه الطّريقة تسمّى الأسلوب. فاللّغة مادة الأدب. لذا فإنّ الأديب يجتهد في استغلال ما في الألفاظ من قوّة تعبيريّة وطاقة تصويريّة؛ للإفصاح عن مكنونه من المشاعر، والإبانة عن مخزونه من الأفكار: ” والتّجربة الأدبيّة في حقيقتها تجربة ألفاظ، مستخدمة استخداما فنيّا، أي أنّنا يمكننا القول: إنّ الأدب هو الاستخدام الفنّي للطّاقات الحسيّة والعقليّة والنّفسيّة والصّوتيّة للألفاظ (7)

إن أوّل ما يميّز الأديب عن سائر النّاس قدرته على أن يستخرج من اللّفظة المعيّنة عددا من المعاني، يعجز عن استخراجه سائر النّاس. فالألفاظ تتفجّر في نفسه كأنّها القنبلة المشحونة، فتخرج كلّ ما تحتويه في جوفها من صور ومشاعر وتجارب(8)

إنّ للشّعر خصوصيّة لغويّة، تمكّنه أن يكون فنًّا ادبيًّا، كما يؤكّد هذا ” رولف كوليفر ” ويحصره في ثلاث خصائص:

” أوّلا: إنّ الشّعر يعدّ أكثر الأشكال الأدبيّة بعدًا عن لغة الواقع، أو اللّغة اليوميّة. وبتعبير آخر، إنّ الشّعر هروب من المألوف، بداية من تصدّر التّنظيم النّغمي لغة الشّعر.

ثانيا: تحويل الكلمات من دال ومدلول مصطلح عليهما، إلى دال ومدلول آخرين؛ فالشّعر يصنع نظامًا جديدًا من العلامات اللّغويّة من خلال المزج بينهما.

ثالثا: الإجراءان السّابقان يؤدّيان إلى إحالة الكلمة من مجرّد كونها علامة حتّى تصبح شيئًا مدركًا، بل واستخدام المستوى التّعبيري بطريقة انحرافية عن المعتاد، من خلال المجاز، أو إشباع التّعبير الشّعري للّغة العادية، من خلال تحميل اللّغة وظيفة إشاريّة جديدة.

أو كما يؤكّد كمال أبو ديب من أنّ استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجمّدة لا ينتج الشّعرية، بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الرّاسخة إلى طبيعة جديدة. وذلك في الحقيقة هو نفسه ما كان يلحّ عليه بعض القدماء – كحازم القرطاجنّي في نظريته النّقديّة – من أنّ اللّغة هي لبّ الأدبيّة، وهي حقيقتها، والإبداع يكمن في توظيف اللّغة توظيفًا جماليًّا، يقوم على مهارة الاختيار وإجادة التّأليف، ويلحّ كذلك على تثبيت الإغراب بوصفه ركنًا أساسيًّا من أركان الشّعريّة في الشّعر، قائم على كسر رتابة اللّغة، وخلق غرابة في علاقاتها، لتستعيد ديناميتها.” (9)

إنّ اللّغة هي اللّبنة التي يبني بها المبدع نصّه، وعليها يعتمد في الصّياغة والتّعبير والتّصوير ونقل الأفكار وبثّ المشاعر؛ لذا فهو يعتني بها عناية خاصّة؛ وذلك باختيار الألفاظ التي تبلغه مقصده، وتبلغ به إلى قلب المتلقّي وعقله، راغبًا وطامحًا أن تؤدّي عنه الأمانة بصدق ودقّة وفعالية، تُوجِد بينه وبين المتلقّين علاقة وجدانيّة ومعرفيّة وتعارفيّة وغيرها..

حاول سعيد الصّقلاوي أن يقدّم للمتلقّي وجدانيّاته بلغة دقيقة مركّزة معبّرة.. لذا فإنّنا نجد هذه اللّغة في ديوانه : ” ما تبقّى من صحف الوجد”، الذي سجّل في صحائفه مشاعره وأفكاره.. ما نثبته في البداية هو حسن اختيار الشّاعر لهذه اللّغة، التي ابتعد بها عن اللّغة المعجميّة، واللّغة المبتذلة العادية، وانتقل بها إلى مرافئ الانسيابيّة والإيحائيّة والرّمزيّة… فعمد إلى التّكثيف والتّركيز والدّلاليّة والتّلقائية في بعض الأحيان.. ما يسجّل له إيجابيّة هو التّعامل مع اللّغة بوعي ودراية وكفاية فنّيّة مقبولة في معظم استعمالاته وتوظيفه اللّغةَ الشّعريّة، وهو ما منح قصائد ديوانه صفة ” الشّعريّة ” المنشودة في الكتابة..

في قصيدة: ” جمال هواك ” (10) نلتقي مع لغة أو تستقبلنا لغة وجدانيّة انسيابيّة ذات طابع إيحائي، يتناسب ويتناغم مع مشاعر الشّاعر، التي يرغب في إطلاع المتلقّي عليها بدقّة وعمق..

ما يفهم من مضمون القصيدة أنّ الشّاعر يرغب أن يبثّ مشاعره نحو الوطن، ويريد من المتلقّي أن يفهم الرّسالة التي نثرها في طوايا القصيدة، الموجّهة لمعرفة علاقة الشّاعر بوطنه وجدانيًّا، وتعلّقه به، هذا التّعلّق  منطلقه تَضَمَّن ما يعرّف بالوطن تاريخًا مجيدًا، وإنتاجه رجالا كرامًا، ومبعثه حبّ وهيام به، ومقصده المحافظة على الوطن وسقيه  أو إمدادُه بما يبقيه حيًّا مخصبًا منتجا..

بداية من العنوان ” جمال هواك” وما يحمله من لغة إيحائيّة، نقف على علاقة المحتوى بعنوان الدّيوان.. هذا التّرابط يعطي دلالة على التّناسق والتّناغم بين مكوّناته. وإذا انتقلنا إلى التّعرّف على اللّغة المختارة في القصيدة فإنّنا نزداد يقينًا بهذه العلاقة، التي اختار لها الشّاعر كلمات تتميّز بالتّلقائيّة والسّلاسة والطّواعية لنقل وجده نحو الوطن..:

أ ــــ الكلمات (الأفعال): يملأ، فيزهر، ويختزن، يسطّر، يروي، وينشد، ويسكب، يستنهض…نلحظ أنّها كلمات بسيطة، تحمل في طيّاتها رغبات وطلبات وآمالاً، وتشتمل على دلالات من العطاءات والمنح.. كلّ هذه المعاني لها علاقة بالوجد.. ميزتها أنّها أفعال نحتها الشّاعر من مشاعره الفيّاضة الجيّاشة بطريقة طيّعة انسيابيّة منسجمة مع وجدانه.

ب ــــ الكلمات (الأسماء): الخصب، الأنهار، سحبًا، الأحلام.. كلّها تحمل الغنى والسّخاء والنّتاج والنّماء… جاءت هذه الأسماء أيضًا بشكل  طوعي، مستجيبة لما يجده الشّاعر في قلبه وفي نفسه من التّعلّق بدلالات تلك الأسماء..

جــ ــ  التّراكيب: جمال هواك، يملأ العين والقلبا، وينشد الأشجار، لحن خلوده، ويسكب في الأنهار، ميراث تاريخها، ويصحب تاريخًا، له النّجم موطنٌ، ويستنهض الأحلام، سلام على الأيّام، مخضرّة حبًّا، إذ أنت زهوه، ودمت على الأيّام..

بنيت هذه التّراكيب من كلمات بينها انجذاب وتماوج وتناسق وتناغم، كوّنت صورًا دقيقة وعميقة عن وجدان الشّاعر، وما يحسّ به في الآن، وما يطمح أن يحقّقه في المآل..ميزتها أنّها أتت في سياق ونمط من التّلقائيّة والعفويّة والسّلاسة والانسيابيّة.. وجاءت وفق ما تقتضيه وتنشده البلاغة، وهو مراعاة مقتضى الحال، والتّوفيق في بلوغ المعنى إلى المتلقّي، فيفقهه ويعيه ويتجاوب معه.

تردّدت بعض الكلمات بشكل لافت في الدّيوان. ما يعطي للمعجم الشّعري لسعيد الصّقلاوي في ديوانه سمات خاصة أو دلالات خاصّة ويقدّم للمتلقّي انطباعات خاصّة أيضًا. لها دلالة أو علاقة بعنوان الدّيوان(11)

ما يمكن تسجيله ملاحظة بارزة، لا تخفى على الدّارس المتأنّي النّافذ في أعماق الكلمات المختارة في الصّياغة، المتتبّع لورودها متجاورة مع بعضها في سياق متجانس.. هو أنّ هذه الكلمات مرتبطة بعنوان الدّيوان، أو مكوّنة لنسيج محكم معه.. نورد بعض النّماذج بعدد المرّات التي تكرّرت فيها الكلمات (12)

ـــــ المشاعر والوجدان

الحبّ:  48 مرّة. الأحلام: 11 مرّة. هوى: 10 مرّات. الأشواق: 10 مرّات. سلام: 9 مرّات. رحمة: 9 مرّات. الابتسام: 8 مرّات. فيض:8 مرّات. الحسن والإحسان: 7 مرّات. عشق: 5 مرّات.  الحنان: 5 مرّات. زهو: 5 مرّات.  مشاعر: 4 مرّات. ابتهاج: 3 مرّات. هيام: 3 مرّات. ضحك:  3 مرّات. ملاك: 3 مرّات. الوجدان: مرّتين.  الوجد: مرّتين. نبضاتي: مرّتين.  لهف: مرّتين. دمعات: مرّتين. خفقاتي: مرّتين. البسم: مرّتين. دفء: مرّة واحدة. صباباتي: مرّة واحدة. حبور: مرّة واحدة. رشفنا: مرّة واحدة. الشّجن: مرّة واحدة. نافحا: مرّة واحدة. فرحات: مرّة واحدة. نشوة: مرّة واحدة. قبلات: مرّة واحدة. دفق: مرّة واحدة.

هذه المظاهر العديدة المتكرّرة في مشاعر الشّاعر، التي عمد إلى تقديمها للمتلقّي في كلمات مختلفة متنوّعة المعنى والدّلالة.. تبيّن فورة الوجدان عنده.. وتكشف عن طبيعتها التي يغلب عليها طابع الأمل والتّفاؤل والحيويّة وحسن الحال.

ـــــ الزّمن

الزّمان والزّمن: 17 مرّة (13). الوقت: 13 مرّ. ( 14). الأيّام: 9 مرّات. صباح: 8 مرّات. العمر: 8 مرّات. الدّهر: 5 مرّات. الفجر: 5 مرّات.  صبح: 4 مرّات. مساء: 4 مرّات. اللّيالي: 3 مرّات. الشّروق: مرّة واحدة. النّهار: مرّة واحدة.

يعني هذا العدد من الكلمات، وهذا العدد من المّرّات.. أنّ الزّمن شغل حيّزًا مهمًّا في حياة الشّاعر، وأنّ مشاعره تقلّبت في مختلف مظاهر الزّمن، بل كانت حاضرة بقوّة أمامه في لحظات عديدة أو متتابعة، ما جعل وجدانه متحفّزًا ويقظًا ومتأجّجًا ومتجاوبًا مع الحركات والخطرات، والمواقف والمواقع، والمشاهد والمناظر…

ــــــ الطّبيعة:

زَهَر: 34 مرّة. جمال: 24 مرّة. الماء: 13 مرّة. تسقي: 9 مرّات. اخضرار وما اشتقّ منها: 9 مرّات. سماء: 8 مرّات. خميل: 7 مرّا.  ظلّ وظلال: 6 مرّات. نخيل: 5 مرّات. الأشجار: 5 مرّات. طائر: 5 مرّات. أنْـهر:  4 مرّات. يُبستِن : 3 مرّات. بستان، روض: 3 مرّات.  حمام: 3 مرّات. الغمام: 3 مرّات. شهد: 3 مرّات: 3 مرّات. سواد: 3 مرّات. بيضٌ: 3 مرّات. الكون: 3 مرّات. طيوب: مرّتين. عبير: مرّة واحدة. ندى: مرّتين. ركام:  مرّتين. رماد:  مرّتين. اللّحن: مرّتين. عطر: مرّة واحدة. غيوم: مرّة واحدة.

هذه الكلمات المتنوّعة سجّلت للشّاعر اهتمامه بالطّبيعة وتوظيفه لها في نقل مشاعره.. هذه سمة عرف بها الأدباء الوجدانيّون بخاصّة، هي تساعدهم على إيصال وجداناتهم وخطراتهم إلى المتلقّي، كما تعينهم على معالجة قضايا وأمور كثيرة..

ـــــ مكوّنات الجسم وملحقاته أو مشمولاته

القلب( 15): 36 مرّة. العين:  20 مرّة.. الرّوح: 20 مرّة. النّفس: 20 مرّة. صوت: 15 مرّة. اليد والكفّ: 10 مرّات. الإنسان: 9 مرّات. ذاتي: 7 مرّات. الكلام: 5 مرّات. الخيال: 4 مرّات. تبعثر: 3 مرّات. النّاس: مرّتين.. تبصر: مرّتين. الوجوه: مرّة واحدة. الأقدام: مرّة واحدة..

يُبيِنُ هذا التّعدّد وهذا التّكرار عن تجاوب كلّ أعضاء الجسم في نقل وجدان الشّاعر إلى المتلقّي، بعد تأثّرها به وبما يدور داخله..

ــــــ الضّياء والنّور

ضياء: 15 مرّة. نور: 13 مرّة. نجم: 5 مرّات. سناء: 4 مرّات. شمس: مرّتين. أقمار: مرّتين. البرق: مرّة واحدة.. نسجّل هنا الملاحظات الآتية:

1 ـــــــ كشف استعمال هذه الكلمات أنّ الشّاعر يرغب في نشر النّور في دروب الحياة، وبثّ الضّياء في النّفوس؛ لتكون الحياة نيّرة وهنيئة ومشعّة..

2 ــــــ هل يمكن الاسئتناس بما ورد في القرآن الكريم من المعاني والاستعمالات التي تتعلّق بالنّور وما فيه من إشراقات وإضاءات وإنارات، لنسّجل انعكاس هذا النّور على أشعار الصّقلاوي في الاستعمال؛ بصفة الشّاعر كائنًا يتنفّس بأشعاره في روح إسلاميّة، ويكتب بوحي منها، كقوله تعالى:  هو الذي جعل الشّمس ضياءً والقمرَ نُورًا وقدّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عدَدَ السّنينَ وَالحِسابَ… (يونس/ 5)  يا أَيُّها الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وآمِنُوا بِرَسُولهِ يُوتِكُمْ كِفْلَينِ منْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نورًا تمْشونَ بهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ واللهُ غفورٌ رَحيمٌ  (الحديد/28)

3 ـــــ لم يخرج سعيد الصّقلاوي عن طبيعة الشّعراء الوجدانيّين في استثمار النّور في حياتهم وجعله مصدرَ إلهامهم وملجأَهم للتّخلّص من عالم المادة، والتّطلّع إلى عالم الرّوح. يقول عبد القادر القطّ عن إحساس الشّعراء الوجدانيّين: “…لذا يؤلّف النّور ومشتقّاته ومرادفاته وما يتّصل بمعانيه من ألفاظ محورًا هامًّا تدور حوله كثير من قصائد هؤلاء الشّعراء وصورهم، وهم يؤثرون من تلك المشتقّات والمرادفات ما كان بعيدا عن الدّلالات الماديّة المحدودة، قادرا على الإيماء بمعان روحيّة ونفسيّة عديدة، كالشّعاع والسّنى واللّألاء والألق وغير ذلك من الألفاظ…” ( 16) يبدو أنّ الشّاعر الصّقلاوي غير بعيد عن هذا التّوجّه؛ نتيجة إحساسه المرهف الذي يتميّز به، مثل ما هو معروف عن شعراء الاتّجاه الوجداني.

ــــ الآمال والرّجاء والخير

حياة: 14 مرّة. المنى: 8 مرّات. الآمال: 7 مرّات. اليقين: 6 مرّات. الرّجاء: 4 مرّات. الخير: 3 مرّات. الأمن: مرّتين. العيد:  مرّتين.

التّفاؤل يملأ نفس الشّاعر. والأمل يحدوه للعمل والنّشاط.. والغناء للخير والحياة يعمر قلبه.. هذه العناصر كشفت عنها الكلمات التي اختارها الشّاعر لتصوير علاقته بالحياة ودعوته للإفادة منها.

ـــــ الصّحبة والصّداقة..

صديق: 11 مرّة. الأخ: 6 مرّات. الصّاحب: 5 مرّات. أحباب: مرّة واحدة. الخلّ: مرّة واحدة.

الحياة تحلو بالصّداقة، وتسير بالصّحبة، وتنتعش بالأخوّة، وتتغذّى بالحبّ.. هذه المعاني أبرزها الشّاعر في الكلمات المختلفة في حروفها، والمتنوّعة في دلالاتها.. هي تحمل جميعها معاني الصّدق والودّ والمحبّة…

ــــ الحالات النّفسيّة

أ  ـــــ الحالات الإيجابيّة: هناء: 7 مرّات.  الرّضا: 6 مرّات. صفاء: 5 مرّات. ابتهاج: 3 مرّات. ضحك: 3 مرّات. وئام: 3 مرّات.  النّقاء: 3 مرّات. نشيد: 3 مرّات. كأس: 3 مرّات. الأمن: مرّتين. دفء: مرّتين. بهاء: مرّة واحدة. نشوة: مرّة واحدة. حبور:  مرّة واحدة. فرحات: مرّة واحدة.

ب ـــــ الحالات السّلبيّة: الهموم: 6 مرّات. جرح: 4 مرّات. الشّقاء: 3 مرّات.. الوهم: مرّتين. خوف:  مرّتين. الأسى: مرّتين. جوع: مرّة واحدة. مصائب: مرّة واحدة. السّقم: مرّة واحدة. الشّرّ: مرّة واحدة. مصرع: مرّة واحدة.

جـ ـــــ الحالات العامّة: صمت: 12 مرّة. السّكون:3 مرّات.

هذه الكلمات التي اعتمدها الشّاعر في إبراز بعض الحالات النّفسيّة، توزّعت بين اليسر والعسر، والصّحة والسّقم، والرّاحة والضّيق…لكنّ حال الانشراح والأمان والعافية والطّيبة والخيريّة  والأخلاق والشّيم والصّفات الحسنة..كانت هي الغالبة.

ــــ الأمّ والأرض والوطن والبلاد: 23 مرّة

كان للوطن نصيب مهمّ وافر من استعمال كلمات تنقل علاقة الشّاعر به.. وقد صوّره أو عبّر عنه بألفاظ مختلفة، كما هو مرسوم في عنوان العنصر. ما يدلّ على تفنّن الشّاعر في الحديث عن وطنه ونقل مشاعره نحوه(17)

ـــــ أفعال إيجابية أو مريحة..

يشرب: 7 مرّات.. يُهدي: 5 مرّات.. يطرب: 5 مرّات.. يزرع: 4 مرّات.. يشدو: 4 مرّات.. يمنح: مرّتين.

كلمات متفرّقة متنوّعة..

يصغي: 28  مرّة ( 18). مرآة : 8 مرّات. الوجود: 6 مرّات. كأس: 3 مرّات. نهج: 3 مرّات. الحرف: 3 مرّات..  . الدّرب: 3 مرّات. ثرثرة: مرّتين.سهم: مرّة واحدة. غبش: مرّة واحدة..الدّنيا: مرّة واحدة..أحمر: مرّة واحدة..

ما نسجّله عن المعجم الشّعري لديوان ” ما تبقّى من صحف الوجد ” هو غلبة جانب التّفاؤل والأمل والرّجاء عليه.. بل توجد قصائد بكلّ أجزائها، تتّسم بهذه الميزة بكلماتها وصورها ومعانيها ، مثل قصيدة : “سطوع ” ( 19)  التي هي نموذج للدّعوة  للتّفاؤل والعمل  على إنعاش الحياة  بما يعود بالنّفع على النّفس والجسم ..

ذكرنا في الإحصاء التّقريبي بعض الكلمات التي اعتمدها الشّاعر في عمله الشّعري ليحرّر ويعبّر ويصوّر..(20)  وقد سجّلنا فيها ما يأتي:

1 ـــــ  تكرار بعض الكلمات بنسب متفاوتة.. ومنه نكتشف طبيعة المعجم الشّعري لديوان “ما تبقّى من صحف الوجد”. هو يحوم حول الوجدان، وما يتّصل به وما يخدم عمليّة الكشف عن حقيقته وطبيعته.. قد لن نكون مبالغين أو مجانبين الصّواب والحقيقة إذا سجّلنا أنّ أغلب الكلمات التي اعتمدها سعيد الصّقلاوي في العمليّة الشّعريّة كانت وجدانيّة انفعاليّة، وبها كان يخاطب القلب والعقل في آن واحد.. هذا ما أراه يَسِمُ معجمه الشّعري.

 2 ـــــ اعتماد الشّاعر على اختيار واع ومقصود وموجّه  للكلمات؛ لبلوغ هدف محدّد، أو لإبلاغ مشاعره  وإيصال أفكاره وانطباعاته للمتلقّي.

3 – كثير من الكلمات التي اعتمدها الشّاعر في بنائه الشّعري هي ممّا عرف عن الشّعراء الوجدانيّين. فمن  الألفاظ التي تكرّرت في قصائدهم: الحبّ، الجمال، الضّياء، الشّعاع، المساء، السّكون، الصّمت، الهوى، الزّهر، الوجود، الزّمان، النّسيم، السّناء، السّنى، الدّمع، العطر، الحلم، العشق، الموج، النّهر، الظّلال، النّسم، النّجوم، الهمس، النّور ومشتقاته ومرادفاته (21)

كثير من هذه الالفاظ التي عرفت في نظم الوجدانيّين والرّومانسيّين لم تغب عن أشعار سعيد الصّقلاوي فيما عرضناه.. هذا مظهر كبير من مظاهر الحسّ الوجداني في قصائد ديوان “ما تبقّى من صحف الوجد”. هل  نقول: إنّ سعيد الصّقلاوي يمكن له أن يحجز مكانًا مع شعراء الاتّجاه الوجداني؟

نثبت نموذجين  ممّا نظمه الشّعراء الوجدانيّون، يجمع مجموعة من الكلمات المستعملة التي أشرنا إليها، نقدّمهما دليلا على ما ذكرناه.

المثال الأوّل: أبياتٌ لعلي محمود طه من قصيدة أسماها: ” رجوع الهارب “:

قرّبتُ   للنّورِ  الـمُشِـعِّ   عُــيونِي

ورَفعْــتُ   للّهبِ    الأَحَمِّ   جَبِينِي

ومَشيْتُ في الوادي، يُـمزّقُ صَخْرُهُ

قَدَمِي، وتُدْمِي  الشّائِكاتُ  يَـمينــِي

وعدَوْتُ نَـحْوَ الـماءِ  وهو  مُقاربِي

فنَأَى وردَّ إلَى  السّــرابِ ظُنُونـــِي

وبدَتْ  لِعَيْنِي في السّماءِ  غَمَامـةٌ

فوَقَفْتُ، فارْتَـــدَّتْ هنالِكَ   دُونـِـي

وَأَصَخْتُ للنّسماتِ، وهي  هَوَازِجٌ

فَسَمِعْتُ قصْفَ العاصِفِ الـمَجْنونِ

يا صُبْحُ, ما للشَّمْسِ غيرُ مُضيئَةٍ؟

يا ليلُ،  مَا  للنّجمِ  غيرُ   مُـبيــنِ؟

يا نارُ، مَا  للنّارِ  بينَ  جَوانِـحِي؟

يا نورُ،  أينَ  النُّورُ ملءَ  جُفونِي؟

ذَهبَ النّهـارُ  بِحَيرَتي وكآبَتي

وأتَى الـمساءُ بِأَدْمُعِي وَشُـجُونِـي

حتّى الطّبيعةُ أَعْرَضَتْ وتَصَامَـمَتْ

وتنكّرَتْ  لِلهَارِبِ الـمِسْكيــنِ (22)

المثال الثّاني: ” الأغنيّة المسائيّة، أو عودة الرّاعي ” للهمشري، نلتقيه – أيضًا – بكلمات دارت كثيرًا في أشعار الشّعراء الوجدانيّين:

ها  هوَ اللّيلُ    مقبلٌ   يتَهادَى

فارسٌ يَـمتطِي   ظهورَ   التّلالِ

ونسيمُ  الـماءِ  يسرقُ   عطرًا

من رياضٍ  سحيقةٍ في  الـخيالِ

صوَّرَ  الـمغربُ الذّكيُّ   رُباهَا

فهيَ  تَـحكِي  مدينةَ  الأحْلامِ

نـفخَتْ في  الـخيالِ منهَا زهورٌ

غير   منظــورةٍ   مِنَ الأوهامِ

ووراءِ   السّيـاجِ  زَهْــرَةُ    فُـلٍّ

غازَلَتْهَا   أشعّةٌ  في  الـمسَـءِ

نَشَرَ النّسْمُ سرَّهَا  وهوَ    يَسْرِي

في  ريَاضٍ  مَطْلولـَــةِ  الأَفْيَــاءِ

ودهاليزُ   مِنْ    ظـلالٍ   ونورٍ

صوّرتْ سِـحرَها  يدُ  الأطْيافِ

عشّشَ الطّائرُ  الـمسائِيُ  فيهَـا

ساكِبًا  لَـحْنهُ  الـحَنونَ  الصّافِي

إنّ هذِي الأزهارُ تَـحلُمُ في اللّيلِ

وعطرُ النّارنجِ   خَلْفَ السّيــاجِ

وخريرُ الـمياهِ  والشّفـقِ  السّحرِ

وَهَـمْسٌ من   النّسيمِ  السّاجِي

والنّدى والظِّلالُ تَنْعسُ  في الـما

ءِ وهذا الشّعاعُ  خلْفَ  الـغَمَامِ

بعضُ   أَلْـحَانِهِ  تأنَّـقَ   فيهَا

فتراءتْ في هذه   الأجسامِ(23)

إنّ المعحم الشّعري لسعيد الصّقلاوي في ديوانه برز بمظهر آخر، هو تكرار الكلمة في أكثر من سطر في بعض قصائده. مثال على هذا المظهر  قصيدته: ” يغنّي الـملاك ” (24 ) التي تكرّرت فيها كلمة : “يصغي ” سبعا وعشرين مرّة.. فما دلالات ذلك؟ وما هي القيمة المعنويّة والفنيّة التي يقدّمها للقصيدة بهذا التّكرار؟:

يُغنّي الملاك

فتصغي القلوب

وتصغي الأحاسيس

فيه تطيبُ

وتصغي السّماءُ

وتصغي الطّيورُ

وتصغي الحياةُ

وتصغي الطّيوبُ

وتصغي الـمياهُ

وتصغي النّخيلُ

ويصغي الـجمال الأنيس الحبيبُ

ويصغي الضّعيف

ويصغي الشّريفُ

ويصغي الجهولُ

ويصغي النّجيبُ

ويصغي الصّدوقُ

ويصغي الكذوبُ

ويصغي البسيمُ

ويصغي

الغضوبُ

وَيصغي الشّروق  الطّموح القشيبُ

ويصغي الـمساء الشجيّ الـخلوبُ

ويصغي عبير البساتين

تصغي له الرّوح

يطربُ فيه الوجيبُ

ويصغي الشّغوفُ هيامًا عذوبَا

ويصغي الودود النّبيلُ الأديبُ

ويصغي عميقًا

رجاءُ الـمحبّين

يسبحُ فيه الـخيالُ  الخلوبُ

ويصغي الرّهيفُ

ويصغي اللّبيبُ

كذلك يصغي الزّمانُ  العجيبُ

فغنِّ

فإنّ الغناءَ طبيبُ

وغنِّ

فإنّ الغناء حبيبُ

فتحنو النّفوسُ

ويحلُو الوجودُ

وتهنى اللّيالي

ويخبو النّحيبُ

أرى أنّ تكرار لفظة ” تصغي ” في هذه القصيدة.. كان بدافع تقرير حقيقة، ولـهدف تأكيدها، وجاء من منطلق بيان شموليتها.. والرّسالة الكبيرة أو الرّئيسة هي الدّعوة إلى التّفاعل مع الحياة تفاعلا إيجابيًّا.

الحقيقة التي يرمي الشّاعر التّنبيه إليها  – بهذا التّكرار – هي: إنّ  أنّ الحياة جميلة فيها كلّ الخير، هي الضّياء والنّور والسّعادة والهناء. كرّر الشّاعر  لفظة ” يصغي” وقرنها ببعض العناصر المتفاعلة في الحياة ليبيّن أنّ الوجود بإنسه وحيواناته وجماده وأشيائه وعناصره وطبيعته،  وكلّ ما فيها.. يسعى إلى الإفادة من الحياة.. وصوّر ذلك في لفظة : يصغي ” ليبرز الاهتمام الذي يوليه الكلّ لمباهج الحياة والأشياء الجميلة فيها، ليعيشوا في هناء وسرور وراحة..

الرّسالة الكبرى من الشّاعر في هذا المظهر، تفيد أنّ الانزواء والحزن والتّأثّر السّلبي بما يجري في هذه الحياة لا يجدي نفعًا، بل إنّ  التّصرّف الإيجابي مع كلّ ما يحدث سلبيًّا فيها  هو الذي يقضي على ما ينغّص العيش ويكدّر الصّفو ويعطّل المسير في الحياة. بدليل قوله في نهاية القصيدة: فغنِّ  فإنّ الغناءَ طبيبُ، وغنِّ فإنّ الغناء حبيبُ، فتحنو النّفوسُ، ويحلُو الوجودُ، وتهنى اللّيالي، ويخبو النّحيبُ.. فبالغناء للحياة الذي هو حبيبها ينتشر الحنان، والحلاوة فيها، والهناء في النّفوس، ويزول النّحيب والكآبة والحزن.

 هذه رسالة أراد الشّاعر إيصالها إلى المتلقّي، فعمد في توضيحها إلى تكرير لفظة ” تصغي “؛ ليلفت النّظر إلى إدراك هذه الحقيقة.. بعد أن انطلق من لفظة ” ملاك ” الذي يمثّل الطّهر والفطرة والأمل والضّياء. كما أنّه بدأ القصيدة بالتّركيز على الغناء وأنهاها به أيْضًا.

إذن فالتّكرار أدّى وظيفة معنويّة، تمثّلت في التّقرير والتّوضيح والتّأكيد ولفت النّظر.. أمّا من النّاحيّة الفنيّة فقد تعاونت اللّغة الإيحائيّة  والتّصوير والإيقاع وبعض الأساليب على إيجاد نسيج فنّي، أعان على إبراز الفكرة. كما كان للمقابلات التي ذكرها الشّاعر في عمليّة الإصغاء، التي تحصل من الأطراف المتقابلة والمتناقضة والمتضادة في طبيعتها.. كان لهذه العناصر كلّها أثر في الجمع بينها والمقاربة للإصغاء إلى غناء “الملاك “، الذي يحمل إليهم رسالة محدّدة واضحة.

لاعتماد الشّاعر صيغة الفعل المضارع دور مهمّ في تقرير هذه الحقيقة؛ بالنّظر إلى ما يحمله هذا الفعل من الدّلالة على الحاضر والمستقبل. ما يعنى أنّ الحياة يجب تكون آنيًا ومستقبلا هكذا..هذا ما يمكن استنتاجه من بين السّطور أو من منطوق الكلمات في السّياق الذي وجدت أو وضعت فيه..

التّكرار في قصائد الدّيوان أنواع وألوان وأشكال.. ميّز كتابة الصّقلاوي.. نأتي بنموذج آخر من قصيدته: “ماذا تقول(25)

ماذا تقول

إذا

ما عشقها احترقت

أشجارُهُ

واقتفى

 رمادُها سُبُلَكْ

وهلْ تراهَا

إذا

ما الشّوقُ بعثرها

تؤوب ثانية

أحلامُها قِبلكْ

بأيّ عذرٍ ستلقاها

وقافية

تضجُّ شوقًا إليها

يحتوِي أمَلَكْ

قدْ تَظْمَأُ الرّوحُ شوقًا

في تقلّبِها

وتشربُ الـحُبَّ

نورَ اللهِ

حيثُ سَلَكْ

نلحظ في القصيدة تكرير كلمة شوق، ثمّ  تميّز مضمون الأسطر أو الرّسالة  ثمّ الصّياغة  ثمّ التّصوير.. ففيها كرّر الشّاعر كلمة: ” شوق ” في أسطر متتالية أو متقاربة.. فكان لهذا التّكرار بهذه الطّريقة دافع واضح. هو التّركيز على نقطة معيّنة محدّدة.. ففي خضمّ احتدام المشاعر، أو مرور الشّاعر بدوّامة من الحيرة والقلق النّفسي، اللّذين يبحثان عن سبل للوثوب من الدّاخل إلى الخارج.. يلجأ الشّاعر إلى عرض أسئلة على نفسه؛ قصد التّعبير عن هذه المشاعر أو تصويرها للمتلقّي.

يقول: إذا احترق العشق، بل احترق ما يبعثه من جديد. ترى هل سيظلّ الشّوق قادرًا على إحيائه؟ هل سيفعل فيه ما يفنيه أو يرهقه؟ فكان محور الكلام عن الشّوق الذي تعلّق به الشّاعر، ورآه بيت القصيد في الكشف عن حاله النّفسيّة. (إذا ما الشّوقُ بعثرها.. تضجُّ شوقًا إليها.. قدْ تَظْمَأُ الرّوحُ شوقًا في تقلّبِها وتشربُ الـحُبَّ نورَ اللهِ حيثُ سَلَكْ..) فالشّوق يفعل فعلته في نفس الشّاعر. يبعثر، يبعث على التّعلّق، يوجد الظّمأ.. بهذا يعيش الشّاعر: بين اليأس والأمل، وبين النّفور والحبّ.. لكن في النّهاية يكون الشّوق سبيلا إلى التّشرٍّب بنور الله الذي فيه مسلك النّجاة..

قد يكون ما سردناه أو استنتجناه صحيحًا وقد يكون بعيدًا عمّا يقصده الشّاعر.. لكن ما لا خلاف فيه هو: إنّ تكرار كلمة “شوق” في القصيدة جاء لتوجيه النّظر إلى التّركيز على شيء محدّد. يقرؤه المتلقّي أو يقف عليه بما يهتدي إليه من تأويل واستنتاج. والأهمّ من هذا العرض هو بيان جانب من مظاهر التّكرار في أشعار سعيد الصّقلاوي، ومنه الاجتهاد في الكشف عن معجمه  الشّعري.

كلمة اليقين تكرّرت في قصائد الدّيوان . أراها من الكلمات التي تبلور شخصيّة سعيد الصّقلاوي. قال في ختام قصيدته: ” ليت”:

هو حبٌّ

         يشفّ عن نورِ حبٍّ

                      وودادٌ

يسقي خَـميلَ اليقينِ(26)

ربط الشّاعر بين الحبّ والوداد واليقين.. وجعل الحبّ والوداد من أسباب نشر اليقين.. وهو هنا يعني الاطمئنان إلى الحقيقة التي تتمثّل في الرّكون إلى الله، الذي يجعل الحياة سعيدة وهنيئة.

في قصيدته ” محبّة ”  قال:

ماءُ اليقينِ

رضا الـمنّان  مندفقًا

يسقي النّفوس

بساتينًا ومنجردَا (27)

اليقين هنا يعني التّمسّك: والرّجوع إلى الله في كلّ الأمور والأحوال، ففيه الخير والنّور والطمأنينة والعيش السّعيد.

في قصيدة: ” روح الماء” ( 28) ذكر أهميّة الماء وفضله ودوره في الحياة بعامة.. فقال من جملة ما قال:

أرضٌ

تجودُ سماؤُها

وجرارُها

نورُ اليقين

يوزّع الألطافَا (29)

اليقين يحمل دلالة التّأكّد من حقيقة دور الماء.. هذا ما يبعث على الاطمئنان إليه.. زيادة في التّأكيد على الحقيقة.. ولفت النّظر إليها وصف اليقين بالنّور…الذي هو أحذ الألفاظ المحوريّة في صياغة الشّاعر ونسق كتابته..

في الأسطر الآتية يوظّف الشّاعر ” اليقين ” ليظهر ولاءه لربّ العزّة والجلالة، وليثبت حقيقة المعتقد في الله عزّ وجلّ. قال في قصيدة: ” ذاك شيءٌ لا يضير”:

ذاك شيءٌ  لا يضيرُ

معنَا الرّبُّ الكبيرُ

ولنا في الله دومًا

حسنُ ظنّ لا يحيرُ

عزمنَا فيه ثباتٌ

ويقينٌ  مستنيرُ (30)

في قصيدة اختباء سجّل يقينه في ظاهرة من ظواهر الحياة. وإن كانت – بالنّسبة لي – فكرة غامضة، صبغت بصبغة فكريّة فلسفيّة، قد يكون لحدّة الشّعور أو فورة الوجد دور في صياغتها.. ما يهمّنا هو استعمال لفظة: “يقين” بقطع النّظر عمّا تحمله من معنى أو دلالة. قال:

لَـمَّا رأيتُ النّفسَ

قد شرقَتْ

أدركتُ

أنّ الـحبَّ ينسلُّ

أدركتُ

أنّ الدّهرَ مُلتبسٌ

أو في يقينِ الماء

مُنْحلُّ (31)

مهما تكن التّفسيرات التي تعطى لهذه التّركيبة مع لفظة يقين، فإنّها تحمل دلالة الحقيقة، أي حقيقة الشّيء. كأنّي بالشّاعر يريد أن يقول: مهما يحاول الفرد أن يختبئ وراء شيء ليخفي حقيقته، فإنّها ستظهر. فذكر أنّ الماء بفعل تركيبه إذا تسلّط على أيّ شيء فإنّه يجعله يتحلّل فيبدو على حقيقته.. مرّة أخرى نلتقي مع اليقين بمعنى الحقيقة..

أمّا في قصيدته: ” زمن ” فهو يسأل الزّمن ماذا هو فاعل بالأشياء؟ هل هو قادر على التّغيير والتّعديل؟ هل سيكون  أمينًا في نقل الحقائق؟ وهل.. وهل..؟؟ أسئلة عديدة عرضها الشّاعر على الزّمن.. ثمّ قال في النّهاية:

إنّي أسائلُ أنفاسًا

وتسألُنِي

عينُ اليقينِ

وما في الرّوحِ  من شُعَلٍ

إنْ كنتَ تعرفُ ما تُبْدِي

على سُؤْلٍ

فلسْتُ أَعْرفُ ما تبدي

على سُؤْلٍ (32)

يبقى التّساؤُل من النّوع المعروف عن الفلاسفة وطبيعتهم، الذين يعيشون في بحور الأسئلة التي لا تنتهي، أو في خضمّ  حالات التّوتّر الشّعوري والتّأجّج الوجداني الذي يصحب الرّومانسيّين والوجدانيّين، الذين يعيشون على وقع المشاعر التي لا تنطفئ ولا تتوقّف ولا تهتدي إلى ما يطفئ  اتّقادها وتوتّرها  وفورانها. المهمّ عندي هو: إنّ اليقين في هذا الاستعمال وفي هده الأسطر يحمل دلالة الحقيقة..

لاحظت أنّ استعمال الشّاعر للفظة ” اليقين ” كان مقرونًا إلى الحبّ والخبير والنّور والماء. ماذا يعني هذا وعلى ماذا يدلّ؟

وجدت في استعمال الشّاعر لفظة اليقين  معانيَ تدلّ على الحقيقة والثّقة والثّبات.. هذه المعاني نابعة من إيمان الشّاعر وعقيدته في خالقه من جهة، وإدراكه  أن معرفة الحقيقة في كلّ شيء عامل كبير في الثّبات والتّحرّك بكلّ قوّة وكفاية وثقة في الحياة..

في قصيدة: ” إطراق “(33) كرّر الشّاعر لفظة: ” ضيّع ” سبع مرّات في أسطر متتالية؛ ليصوّر الحيرة التي تنتاب التّائه في الحياة، ويؤكّد أنّه فقد كلّ شيء فيها.. وكأنّه بهذا التّكرير يريد إيصال رسالةً، مفادها أنّ هذه الحيرة وهذا التّيه يضيّعان الإنسان، لذا عليه أن يقاومهما ويعمل على زرع اليقين والطّمأنينة في قلبه ليحيا حياة عادية سويّة كما خُلِقَ لها.. هذا ما فهمته من هذا الاستعمال؛ بصفة الشّعر رسالة في الوجود، التي من وظائفها نشر المكارم والقيم والخلال التي تبعث على غرس القوّة في النّفس وزرع الثّقة في الذّات…

علّقت انشراح سعدي على ظاهرة التّكرار في أشعار سعيد الصّقلاوي، وقالت وبيّنت أنّه  وجد لخدمة النّصّ وإغناء تعابيره والرّبط بين مضامينه، ولفت نظر القارئ إلى أهميّته واهتمام صاحبه به، ففي التّكرار تظهر  سيطرة الشّاعر على الدّفقات الشّعوريّة، التي تحكّمت ووجّهت نتاج نصوصه، كما أكّدت الباحثة أنّ التّكرار في القصيدة الصقلاوية لا يتمّ بطريقة عشوائيّة، بل هو دفق إبداعي، يسهم في بناء القصيدة(34)

تكرار الكلمات والصّيغ والجمل.. هي من صميم الكتابة الشّعريّة عند الشّعراء الوجدانيّين. نقدّم مثالا على هذا التّكرار قصيدة أبي القاسم الشّابي: ” الأبد الصّغير “..فمن جملة ما جاء فيها قوله:

يا قلبُ كمْ فيكَ منْ كونٍ قدِ اتّقَدَتْ

فيه   الشّموسُ وعاشتْ فوقه الأُمَمُ

يا  قلبُ  كمْ  فيك  مِنْ  أُفقٍ  تُنَمّقُهُ

كواكِـبٌ،  تَتَـجلَّى  ثــُــمَّ  تنْعَدِمُ

يا قلبُ كمْ فيك منْ قَبْرٍ قدِ  انطَفَأَتْ

فيه  الـحياةُ   وضَجَّتْ  تـحتَهُ   الرِّمَمُ

يا قلبُ كمْ فيكَ منْ غابٍ ومنْ جَبَلٍ

تذْوِي به الرّيحُ أو تسمُو به القِمَمُ (35)

يضيف عبد القادر القُط عنصرًا آخر في تركيبة نفوس الشّعراء الوجدانيّين، نجد له ظهورًا في قصيدة سعيد الصّقلاوي وفي بعض أشعاره الأخرى: “…هؤلاء الشّعراء شديدو الإحساس بما في الحياة والمجتمع والطّبيعة والنّفس من مفارقات. وهم لهذا يبنون كثيرًا من صورهم الشّعريّة على المقابلة بين المفردات أحيانًا، أو بين طائفة من المتماثلات في طرفي الصّورة في بعض الأحيان. كثيرًا ما عبّر الشّعراء عن هذا الإحساس بالتّناقض بما ينسبونه إلى القلب من احتواء للأضداد…” (36)

هوامش ومصادر:

(1) د. هلال بن محمود بن عامر البريدي، الشّعريّة العربيّة وتجلّياتها في الحركة الشّعريّة العمانيّة المعاصرة، ط1، الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء، مسقط، سلطنة عمان ، 2019م، ص: 322.

(2) سعيد بن محمد الصّقلاوي، ما تبقّى من صحف الوجد،  ط1، ا المركز الدّولي للخدمات الثّقافيّة، بيروت، لبنان ، 2020م،  ص: 63، 64.

(3) المصدر السّابق، ص: 64

(4) ينظر القصيدة المصدر السّابق، ص: 149 – 151.

(5) ينظر المصدر السّابق، قصيدة: ” انتظار”، ص: 136.

(6) هذه المعايير وضعها جيرار جينيت Gérard Genette .. سجّلت د. انشراح سعدي هذه الملاحظة على دواوين سعيد الصّقلاوي التي درستها، من دون ديوان: ” ما تبقّى من صحف الوجد” لكنّ الملاحظة تنطبق عليه كما نرى.. ينظر انشراح سعدي، مرايا المعنى.. من العتبات النّصيّة إلى التّعدّد اللّغوي(دراسة في شعر سعيد الصّقلاوي)، ط1، الآن ناشرون وموزّعون، عمّان، الأردن،  2020م،  ص” 155.

(7)الدّكتور السّعيد الورقي، في الأدب والنّقد الأدبي، دار المعرفة الجامعيّة، الإسكندريّة، سنة 1989م، ص: 46.

(8) المرجع السّابق، ص: 53.

(9) هلال البريدي، الشّعرية العربية..، ص: 343، 344. أحال الباحث إلى بعض المصادر لهذه الآراء تراجع في الصّفحتين المذكورتين.

(10) ما تبقّى من صحف الوجد، ص:  141 – 143.

(11) ذكرت عدد المرّات التي وردت فيها الكلمات في الدّيوان بمختلف أشكالها وصيغها، بين المفرد والجمع ونوع الجموع والفعل واسم الفاعل والمصدر وغير ذلك..

(12) توزيعنا الكلمات على العناوين التي وضعناها ليس دقيقًا، هو للاستئناس ولبيان المعجم الشّعري للصّقلاوي في ديوانه، أو لتقريب الصّورة للمتلقّي في هذا العنصر..

(13) ملاحظة: تردّد الزّمان وما في معناه في قصائد الدّيوان بشكل لافت للنّظر. ينظر مثلا القصائد الآتية: ” فراغ “، ص: 165. ” النّيروز “، ص: 167. ” طواف “، ص: 171. “زمن “، ص: 175…

(14) وردت كلمة الوقت في بعض الاستعمالات مقرونة أو مربوطة بكلمتي التّكبيل والتّعطيل..

(15) أغلب ما ورد في الدّيوان  كان بلفظتي: قلب، قلوب.. بعضها ورد بألفاظ: صدري، ضميري، فؤاد، جنان…

(16) الدّكتور عبد القادر القطّ، الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي المعاصر، دار النّهضة العربيّة للطّباعة والنّشر، بيروت، 1978م، ص: 401.

(17) يمكن الاستئناس بقصيدة ” أمّنا الأرض “، ” ما تبقّى من صحف الوجد”،  ص: 41 – 48 .  القصيدة  احتوت على عناصر تبرز شخصيّة سعيد الصّقلاوي. سجّلنا فيها الرّوح الإسلاميّة العالية في محتواها وكلماتها ورسائلها.. ومن النّاحية الفنّية يمكن الوقوف عند الكلمات المنتهية بهمزة ساكنة بعد مدّ وبيان فنّيتها ومعانيها ودلالاتها… ينظر أيضًا قصيدة: ” صباح بحبّ الوطن”، الدّيوان، ص: 31 –33.

(18) تكرّرت في قصيدة واحدة 27 مرّة ، هي: ” يغنّي الـملاك “. ينظر ” ما تبقّى من صحف الوجد”، ص:  71 – 75.

(19) المصدر السّابق،  ص: 109 – 113.

(20) لم أورد كلّ الكلمات التي تضمّنها الدّيوان،  التي لها علاقة بعنوانه.. أثبتُّ بعضها من باب التّمثيل والبيان في موضوع وجدانيّة الشّاعر الصّقلاوي.

(21) هذه الكلمات رصدتها في بعض القصائد التي عرضها الدّكتور عبد القادر القُطّ في كتابه: الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي المعاصر..

(22) الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي  المعاصر، ص: 371، 372.

(23) المرجع السّابق، ص: 378، 379. في النّصّ بعض الكسور العروضيّة.

(24) ما تبقّى من صحف الوجد، ص: 71 –

(25) المصدر السّابق ، ص: 77 – 79.

(26) المصدر السّابق ، ص: 54.

(27) المصدر السّابق ، ص: 60.

(28) المصدر السّابق ، ص: 81..

(29) المصدر السّابق ، ص: 82، 83. تكرّرت لفظة الماء في القصيدة أربع مرّات..

(30) المصدر السّابق ، ص: 99.

(31) المصدر السّابق ، ص: 153، 154.

(32) المصدر السّابق، ص: 177، 178.

(33) المصدر السّابق ، ص: 65 – 68.

(34) مرايا المعنى.. من العتبات النّصيّة إلى التّعدّد اللّغوي..، ص: 75.

(35) الاتّجاه الوجداني في الشّعر العربي المعاصر، ص: 474.

(36) المرجع السّابق، ص: 473.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى