الروايّة السياسية في العراق..  قراءة في رواية ( الحزب ) لـ د. قيس العطواني

د. أمل سلمان | ناقدة وأكاديمية عراقية

عندما سُئلتْ الكاتبة الإيرلندية آنا بيرنز الحائزة على جائزة البوكر لعام ٢٠١٨  عن روايتها (بائع الحليب) التي صورت فيها الصراع الطائفي المستمر في إيرلندا الشمالية وكيف أن الولاءات السياسية تسحق ولاءاتنا الغريزية الإنسانية وتشوهها عمّا إذا كانت الكتابة فعلا سياسيا؟ وهل روايتها هذه رواية سياسية أجابت: إنه إذا كانت السياسة تتعلق بالسلطة  فروايتها هذه سياسية ،وإن كنت  بعيدة في توجهاتي عن السياسة .

أسوق المقدمة هذه وبين يدي رواية (الحزب) للأديب العراقي الدكتورقيس العطواني الصادرة عن دار جسد للطباعة والنشر في بغداد في طبعتها الأولى لعام ٢٠٢٠ ،وهي باكورة أعماله السّرديّة مثلما وضحتْ سِيرته على غلافها ،المتأمل للبناء السّردي لهذه الرواية يلحظ أنّها أكثر قربا وانهماكا داخل الواقع السياسي العراقي ،و إذا كانت صاحبة رواية بائع الحليب ،لم تقصد الخوض في معترك السياسة بشكل مباشر ،فإن مؤلف رواية الحزب عمد إلى ذلك وسعى إليه ،فمن أبرز الثيمات التي قامت عليها  هي، الصراع السياسي والقهر الاجتماعي ،وكشفت بين أسطرها عن وعي كاتبها بحجم الكارثة التي يعيشها المجتمع العراقي ،وكأن شيئا جاثما على حريته وقدراته الإبداعية ،وغير بعيد عن ذلك كانت معظم محاولات التبئير داخل متنها الروائي مركزة على الفوضى السياسية وما جرته من مظاهرالفساد والخراب والقتل المجاني والقمع والاعتقالات والخيانات ،وكل رواية  “يتمكن كاتبها من تقديم رؤيته السياسية لقضية من قضايا الواقع السياسي من خلال معالجة فنية جيدة فهي رواية سياسية “٢.

تبدأ أحداث هذه الرواية من ساحة التحرير التي غدتْ رمزا لدعوى التّحرر من الظلم والطغيان ،هناك  يتناغم الماضي بالحاضر،ورائحة التأريخ تعبق من تلك الأمكنة فيشعر القارىء بالتأريخ يجالسه ، حيث نصب الحريّة يشهد تحت أيقوناته الأربعة عشر، عشرات الانتفاضات والاحتجاجات والثورات ،وشارع الرشيد وشارع المتنبي وسوق السّراي ومقهى الشابندر،هناك كان ذلك الشّاب الطالب في كليّة الهندسة التابعة للجامعة التكنولوجية ،في سنته الأخيرة يهتف مع زملائه ،مطالبا بحقوقهم المسلوبة ومطالبا بإزاحة النظام الفاسد الذي استولى على مقدرات الشعب وثرواته .

وفي الليل المبهم تُحاك المؤامرات مستغلة تلك الانتفاضة السلمية و الفوضى العارمة ،والتفكك السياسي ،تبدا حركة ما يطلقون على أنفسهم ب (الحزب) ،وهم جماعة متطرفة وكيان كبير له مريدون كُثر ،يعملون بصمت لكسب النّاس وتهيئتهم وانتخابهم والتصويت لهم في الانتخابات المقبلة ،هم في حقيقتهم يرفضون ،مصطلحات من قبيل ، الديمقراطية والحرية والانتخابات ويرونَ أن مثل هذه المصطلحات استوردناها من الخارج من أهل الانحلال والتفسخ الأخلاقي ،ويجب أن تُرد هذه البضاعة إليهم ، فالنّاس لا يحسنون التصرف بها وهي تخلق الضعف والفوضى وتنشر أفكارا لا تتفق مع الثوابت الدينية، فبمجرد أن يحققوا أهدافهم في الوصول إلى السُّلطة عن طريقها بوصفها الوسيلة الوحيدة المتاحة حاليا لديهم  حتى يشطبونها من القاموس  نهائيا.

ولكي  تستطيع جماعة الحزب الوصول إلى أهدافهم ،فهم يعملون على تجنيد شخصيات لها ثقلها في الحياة الاجتماعية والثقافية في المشهد العراقي ،ممثلة ب القاص الأديب والمثقف والأستاذ الإعلامي وشيخ الدين المعتدل في خطابه،تحت تهديد قتل عوائلهم وخطف أولادهم ولنقف مع الشخصية الأولى ،صالح أمين ،القاص والروائي المعروف ،الرجل الستيني بشعره الناصع البياض وملامح الطيبة التي ترسم على مُحياه ،وهو أبو مثنى ذلك الطالب الثوري الذي تربى على القيم والمثل العليا ،تحتل قصصه ورواياته المراتب الأوّلى في دنيا الأدب وسط إقبال كبير عليها من قبل القُرّاء في العراق والبلاد العربية ،ولا يشغله أمر سوى السعي إلى ثورة ٍثقافيةٍ تحاول نزع السّتائر المظلمة التي وضعتها أنظمة الحكم السابقة ،يُختطف من بيته الكائن في مدينة الشّعلة، تحت التهديد بتصفيته في حالة الإبلاغ عن ذلك ،”لقد احتجزنا صالح أمين ،وسيبقى لدينا لمدة معينة لا نعلم أتطول ام تقصر ،لكي ينجز مهمة محددة كلّفناه بها” محاولين تسخير قلمه المبدع لخدمة أفكار الحزب وأهدافه ،وبالفعل ينجحون في ذلك بعد قتل ولده مثنى وزوجته المعلمة المتقاعدة ،عندما حاولوا الإبلاغ عن عملية الخطف بعد أن طال احتجازه ،فيصدر رواية “الملك والرعيّة ” ضمّت تغييرا جذريا في رؤى أمين صالح وأسلوبه في الكتابة ،فصور الرعيّة الذين يخرجون عن طاعة الملك بأنهم جاحدو النعمة وسينالهم العقاب الإلهي ،فلا مجال للاحتجاج على الراعي ،فهو أدرى بمصلحة الرعية من أنفسهم.

وهو لا يعلم أن عائلته قد تمت تصفيتها .ونجد شخصية الأستاذ الأكاديمي التدريسي في الجامعة المستنصرية والإعلامي المتنور الدكتور سالم جواد ،يقترب من الستين ذو خصلة الشيب المتوسطة في شعره ووجهه الحنطي البيضوي ،يسكن شمال بغداد في حي أور ولا يملك من الدنيا سوى ابنته رؤى ،طالبة الماجستير في الهندسة الكهربائية في لندن وتسكن هناك مع عمتها التي هاجرت بعد مقتل زوجها وابنها إبان الطائفية .

يدير الدكتور سالم زيادة على عمله في الجامعة جريدة الحرية ، التي لها جمهورها وصداها في الشارع فهي، تتبنى مجموعة أفكار تدعو فيها إلى بناء دولة تحترم فيها الحريات المسؤولة وتحترم حقوق الإنسان ولا بأس في الإفادة من تجارب الغرب وغيرهم من الأمم التي سبقتنا بالديمقراطية.

فالدكتور وجريدته بحسب _الحزب- يميلون إلى الغرب الكافر بكل توجهاته ولذلك لابّد من تغيير مسار هذه الجريدة ،فيختطف الدكتور ويحتجز تحت نفس التهديد بقتل ابنته هناك في قلب لندن ،إن لم يغير مسار الجريدة وينقلب على اهدافها ،وينجحون في ذلك رغما عنه حيث يُحتجز في مكان قريب من سكناه ويدير المجلة إلكترونيا تحت مراقبتهم المستمرة  حتى يلحظ المشتغلون فيها تغيير توّجه الجريدة فيبدأ الشك ..

الشخصية الثالثة المحورية، هي شخصية الشيخ خالد الرجل الأربعيني بوجهه الحنطي السّمح الجميل ،المعتدل المنهج وهو يسكن حي العدل ببغداد ،وهو الإمام لجامع بسيط يقع هناك ،يحبّه النّاس يسمعون كلامه ويكتظون لسماع خطبته في أيام الجمع ،”تعلمون أن الله أمرنا باليسر والسماحة ،ونهانا عن الغلظة والفضاضة ،فالتسامح خلق عظيم يرتقي بصاحبه إلى مستوى الإنسانية ،ونحن أمّة وسط نرتبط مع من هم مثلنا في الدّين ،ومع من ليس على ديننا بروابط الأخوة والمحبّة والتعاون والتآزر ،فليس في قاموسنا المعنوي مفردات الكراهية والعنف والعنصرية ،لكنّما البعض يستغل هذا الدّين ليمارس دور الشّيطان القابع في نفسه سعيا للهيمنة والتسلّط على رقاب النّاس “٣إلا أن هذه المبادىء لا تسر رجالات الحزب  فحاولوا  تغييرها في منهج الشيخ خالد لكنّهم لم يستطيعوا فدفع ثمنها حياته والمتاجرة بزوجته وطفلتاه . .تثير عملية اختطاف مثل هذه الشّخصيّات وتغير رؤاهم الشّكوك من قبل المقربين ،ويصل مسامع وزارة الداخلية التي يظهر من خلال تحرك الضباط فيها واستشهاد العميد ضرغام الذي نذر نفسه للوصول إلى حقيقة هؤلاء في الوزارة نفسها بعدما ادخلوا  إليه طردا مفخخا أن الوزير نفسه كان متواطئا مع ما يُسمون أنفسهم بالحزب ،في إشارة واضحة إلى فساد الاجهزة الأمنية والقائمين عليها.

لغة الكاتب حيوية رشيقة وواضحة ، وتأتي شاعريتها من غنائية الحالات الإنسانية التي شكلت مادة السرد ،فضلا عن انتقاء الحوادث والشخصيات والأمكنة  بمهارة وحرفية وزاوية نظر السارد التي تقنع القارىء بأن ما  يسرده حوادث وتفاصيل تهمّه مثلما تهم كاتبها ،

في الختام أقول :إن الرواية السياسية في العراق تطرح نفسها بقوة ليس بوصفها نوعا سرديا جديدا ،إنما بوصفها تيارا  غير تقليدي يكتسح المشهد الثقافي السردي ويعيد إحياء نفسه، وقد اثبتت رواية (الحزب ) ذلك القول .

المراجع المعتمدة:

١/ هل ماتت الرواية السياسية (مقال) ،دوربان لينسكي ،ترجمة :جمال جمعة ،الحوار المتمدن ،في ٢٦ فبراير ،٢٠٢٠ 

٢/الرواية السياسية ،طه الوادي ،الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان ،القاهرة ،ط ١ ٢٠٠٣م 

٣/الحزب ،د.قيس العطواني ،(رواية ) ،دار جسد للترجمة والطباعة والنشر ،بغداد ،٢٠٢٠.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى