جريمة “جنين جنين” والاحتلال ضحية ضحاياه

أمير مخول | فلسطين

 

هناك معان عديدة يحتملها “القضاء”، كما يوافينا بها معجم المعاني الجامع، ومنها سلطة يوكل اليها بحث الخصومات للفصل فيها طبقا للقانون، او هيئة العدالة التي يعهد اليها في بحث الخلافات للفصل فيها، ومعنى آخر هو التقسيم الاداري التابع للمحافظة، والمعنى الاخير في هذا السياق هو “قضى عليه: قتله”، والحديث هنا عن محاولة القضاء على الحق بالألم وفي توثيقه كي يبقى له صوت وصورة. إن قهرهم للألم يحفر ندبة في القلب والروح والوجدان تفوق ما يتركه قمع الفرح. ويضاف اليه القهر الناتج عن مساعي المحتل المستعمر لإثبات انه ضحية ضحاياه، لتغدو القصة محصورة بالجنود “الضحايا”، اما ضحايا مجزرة مخيم جنين من شهدائه والجرحى والاضرار فليس لهم نصيب في قصر العدالة وليسوا شأنا بالمرة.

دمية “البابوشكا

الملف الذي يفتح لا يغلق ثانية، أما ملفاتنا الكبيرة فهي مفتوحة منذ البدايات ولا تغلقها اسرائيل، بل هي جزء من عدوانها المستدام على شعبنا. اسرائيل كدولة ممثلة بالمستشار القضائي للحكومة تلاحق شعبنا ممثلا بالفنان محمد بكري على صوته وإبداعه في مواجهة الاحتلال ومجزرة مخيم جنين التي اتت في سياق جريمة اوسع هي الاخرى جزء من جرائم اوسع، وهكذا، والحديث هنا عدوان السور الواقي.  إنّ تداخل المجزرة بالمجزرة وبالاحتلال وبالنكبة يذكرنا بدمية البابوشكا الروسية وشتان الفارق ما بين البابوشكا ودمية المجزرة. فما يميز الاولى هو انها دمية مصنوعة يدويا عادة من انواع الخشب الليّن، بحيث تكون دمية وفي داخلها دمية أصغر على ذات الشاكلة وهكذا لتكون عدة دمى في دمية وكلها بذات الملامح كما تحكي الاساطير الروسية. اما مجزرة جنين في العام 2002 فلم تكن اسطورة ولم تكن دمية بل داست دباباتها دمى الاطفال من فقراء المخيم، لقد كانت ضمن عدوان “السور الواقي” الذي اعلنه رئيس الحكومة آنذاك اريئيل شارون، وكم من المجاز يتحمل مسؤوليتها في قبية وصبرا وشاتيلا وسيناء ومخيم جنين. وكل المجازر متشابهة وكلها تقع احداها في إطار الأخرى وكلها تحمل ذات المزايا والجوهر، وحتى ضحاياها هم ذاتهم.

عتاد الثقافة

ويسأل السؤال لماذا هذه الحملة على هذا الإنتاج الفني السياسي وبهذه الحدة؟ سبعة عشر عاما والملف مفتوح، يفتحونه ضد الفنان كي يغلقوا ملف المجزرة والعدوان. وفي هكذا ملف تتلاشى الملامح المميزة ما بين المحكمة الاجرائية والمحكمة الميدانية. فلو جمعنا مجمل التحريض على محمد بكري منذ انتاج الفيلم وحتى اليوم، لوجدنا ان التشهير هو الجانب المخفّف فيه، بينما يصل الأمر الى حدود التحريض والنيل منه والتهديد، لكن هذا لا يعني المحكمة الاسرائيلية من ناحية، أما نحن فمن كثرة ما اعتدنا عليه لم نعد نكترث له قانونيا بل نواجهه ونصمد في وجهه، فالقانون يرفض ان يحمينا والقضاء يرفض ان ينصفنا.

إنهم يهابون قوة الفن والابداع والثقافة ولا يستطيعوا إعمال سطوتهم عليها ان لم تكن خاضعة لهم اصلا. ففي الثقافة والفن كيان مستقل ومساحة محررة دون تجزيء للوطن ولأماكن الشعب. لدى الثقافة عتاد لا يملكه جبروت جيش الاحتلال ولا سياسات دولته، ليتراجع ويتمترس وراء محكمة وجهاز القضاء، انه عتاد الحقيقة وعدالة القضية الفلسطينية.

 

المخيم ومجزرته

للتذكير فالمخيمات هي في المجمل ابناء وبنات واحفاد اهلنا في الداخل الذين تم طردهم من قراهم ومدنهم في العام 1948، وكلٌّ من هؤلاء الاسلاف يحمل قطعة من ذاكرة الوطن والمكان الاول. وفي هذا المخيم، مخيم جنين، غالبيتهم من قضاء حيفا الذي يمتد لغاية بلاد الروحة. وفي العام 2002 لاحقتهم في عدوان اطلقت اسم “السور الواقي”، وهي تهدم اسوار بيوت اللجوء، ويسقط اثنان وخمسون شهيدا في المخيم، وبعد ان قامت الجرافات المدرّعة الرهيبة بتدمير مئات البيوت والمحال للتخلص من أزقته التي كانت تشكل قاعدة انطلاقٍ وملاذا في مواجهة جيش الاحتلال، وفيها تكثفت ذاكرة المخيم وقصة الشعب.

ما ان اتيح المجال لدخول المخيم كان محمد بكري هناك، وكلُّ من زار المخيم في تلك الايام للاطمئنان على الاهل ساهم في تقاسم هموم الناس، البعض بالاغاثة والاخرين والاخريات في تقديم العلاج الاولي للجرحى، والبعض لمواساة اهالي الشهداء وللمساندة الشعبية والسياسية، وكان هناك من الاخوة والاخوات الذين حضروا تماثلا مع الاهل هناك ومن اجل توثيق المجزرة. وما ان بدأت العروض الاولية للفيلم الوثائقي “جنين جنين” حتى ثارة ثائرة كتيبة الاحتلال ورفعت دعوى انتهت في المحكمة العليا.

 

الجندي الضحية

سعت المحكمة العليا في العام 2004 الى حصر المسألة بل محاصرتها في المساحة ما بين حرية التعبير والتشهير الجماعي ضد الجيش، ومن منطلق اجرائي قانوني يقول بأن دعوات التشهير ينبغي ان تكون شخصية فردية. فهي عمليا مهدت الطريق الى قرار مركزية اللد مؤخرا كي تحكم لصالح الجندي “هذا المواطن الفرد الذي ذهب في خدمة الدولة فوجد نفسه…” وهكذا بات هو الضحية، مسنودا من كتيبة وجيش وقضاء وإعلام ودولة، مقابل محمد بكري الذي انتزعوا منه صفة الفرد دون ان يحددوا من هو!. وجاء تحويلها الى المسار الفردي لتتكامل اركان تجريم الضحية وتبرئة المجرم الحقيقي من احتلاله ومجزرته. بل أن القاضية عينّت ذاتها ناقدة أفلام وهي تتدخل فيما اذا كان الفيلم وثائقيا ام لا!. لكن ليس هذا موضوعنا.

في مفهومها العميق ليست المسألة حرية تعبير، انها مسألة احتلال ومسألة مجزرة وشعب لا يستسلم. تاريخيا كنا ضحايا الدمقراطية الاسرائيلية فهي شكل المنظومة اما جوهرها فهو في يهوديتها وفي طابعها الاستعماري الاستيطاني العنصري. وليس طابع المستعمر اللطيف اللبرالي من حيث الخطاب، بافضل حالٍ من المستعمر غير اللطيف، ففي “لطفهم” قهر وفي فظاظتهم كشف لجوهر اللطف الاحتلالي.

في الجوهر وحسب المحكمة لا يوجد احتلال ولا اجتياح، وهذا دورها. وتضاف اليه المقولة المحببة لدى القضاة فقط حين ينظرون في ملفات العرب الفلسطينيين، وهي “القاضي بين شعبه يقيم”، وفي المقابل لا تعترف بحقّ موازٍ لمحمد بكري او للشيخ رائد صلاح قبل أشهر أو لأيّ منا في ان ينتمي الى شعبه. وهي مقولة تمنح القضاة مساحة جديدة صادروها من مساحات العدالة وقاموا بتهويد النزاهة وأخلاقيات المهنة.

قد يعود جندي الاحتلال الى بيته معتدّاً بنفسه وبطهارة السلاح، وقد زاد الى ثروته مائة وخمس وسبعين ألف شيكل، ولا بدّ من وجود إجراء احتلالي مفرط في إنسانيته يعفيه من الحسم الضريبي، ليضاف هذا المبلغ من حيث مغزاه وقيمته الى تقاسم الثروة الجماعية التاريخية الكبرى التي بنيت ولا تزال تبنى على غنائم نهب شعبنا ووطنه، ومنها نهب بلدات وممتلكات وبيوت واراضي اهالي الاهل في مخيم جنين.

 أما محمد بكري فإنه يعود ومعه كرامة شعب يحملها فنان. خسر بكري المحكمة، وفي خسارته انتصار أخلاقي هائل للفنان ولما يمثله من عمل ابداعي ومن رفض الاعتذار لقيم العسكرية الاسرائيلية الاحتلالية، وهذه المسألة تجعل انتصارهم القضائي الذاتي هزيمة لهم، يجرجرون اذيالها بفرض غرامة مالية.

في التكافل وتقاسم المسؤولية

الغرامة المالية والتي تصل في المجمل الى حوالي ربع مليون شيكل هي ليست الاساس، بل قررتها المحكمة إمعانا في العقاب الشخصي لمحمد بكري وفي إثبات براءة جيش الاحتلال وإلغاء المجزرة. وبالنسبة لنا كشعب فلسطيني ومعنا كل أنصار ونصيرات الحرية في البلاد والعالم فانّ تحمل مسؤولية الغرامات ليست مسألة مالية ايضا، بل هي رسالتنا جميعا، بأن “جنين جنين” هو رواية شعب وقضيته العادلة، وبأن المحكمة قد حكمت ضد شعب ضحية احتلالها، ضدنا جميعا، وبأنّ تقاسم المسؤولية هو دور الشعب.

إنها مناسبة كي نتعامل معها فرصة للانطلاق نحو انشاء صندوق شعبي وطني لحماية ثقافتنا ولحماية روايتنا في مواجهة قضائهم، واللحظة مواتية. كما ان تسمية مثل هذا الصندوق “جنين جنين” فيه رسالة ومظاهرة شعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى