أولى بك أن تكون معلمي

أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

 

أرسله أبوه إلى كُتّاب القرية كعادة الناس في الماضي، فكتب له المعلم “أ” و”ب”، وأمره أن يحفظهما ويكتبهما، فوقف الطفل عند الألف، لا يحسن تعلمها ولا كتابتها، والأطفال الذين دخلوا معه الكُتّاب ساروا شوطاً بعيداً، فأتموا حروف الهجاء إلى “الياء”، وانتقلوا إلى ما بعدها، وصاحبنا عند الألف لا يتعداها، ومرت أسابيع على هذه الحال، والموقف لم يتغير، وأخيراً ضاق به المعلم ذرعاً، فأخذه إلى أبيه وقال: “إن ابنك ناقص العقل، غير قابل للتعلم، ولست بمستطيع تعليمه”. فحاول أبوه أن يعالج هذا النقص، وعرضه على معلمين آخرين ليتحرك من الألف إلى الباء فما أمكن. حزن الطفل على نفسه، وأحس أنه حمل ثقيل على والديه، وأنهما يئسا من نجاحه، ففرّ إلى غابة وأقام فيها وذهنه مشغول بمظهر الألف ونكبته بها. وإذا به يدرك أن الألف تظهر حوله في حشائش الغابة، وجذع الشجرة، وفي فروعها، وكل ورقة من أوراقها، وفي الجدول الذي يشق الأرض، وفي جسمه منتصباً، وفي الجبل الضخم، إنه في كل شيء حوله. والعالم كله ألف أو جملة ألفات، وهو متشابه التركيب، أو هو واحد التركيب. والألف في أصلها نقطة ثم بنيت عليها نقط فكانت الألف، فالعالم كله نقط تكونت منها ألفات، وعندما يكتبها يلمس القلم الورقة فترسم نقطة، ثم بامتداد القلم تتكرر النقط؛ فتكون ألفاً، ثم تتعدد الأشكال وتختلف الأوضاع والأصل واحد، والجوهر واحد. والعالم كله مكوّن من ألفات تخفي وراءها خالقها، كما يختفي وراء الألف كاتبها، فلا شيء إلا الخالق ولا شيء إلا الله.

فرح الطفل بفهم درس الألف، ونزل من الغابة إلى المدينة، وذهب إلى المعلم وقال له: “لقد تعلمت درس الألف وفهمته، فهل تتفضل وتعلمني الدرس الذي يليه”، ضحك المعلم من سخافته، وأراد أن يمتحنه فسأله أن يقرأ الألف ويكتبها، فقرأها الطفل وكتبها، وشرح للمعلم ما فهم منها، فدهش المعلم وحار عقله مما سمع، وقال: “يا بني أولى بك أن تكون أنت معلمي؛ فقد تعلمتَ من حرف الألف ما لم أتعمله أنا من كل دروسي، وقد استفدتَ من الألف ما لم يستفده كل أطفال الكتاب ومعلميهم من الألف ومن كل الحروف متفرقة ومجموعة”.

والقصة تكشف نجابة أطفالنا إذا ما تهيأ لهم مناخ التأمل في المعرفة، فأحياناً تثقل كثافةُ العلم الكتب والعقول، فتضيع المعرفة الحقة بينهما. والفرق بين الحق والباطل شعرة، وقد يُخفي الحقَ عن الأنظار نسيج مهلهل، وربما كانت الألف مفتاح الكنز، والإنسان إذا تفتحت نفسه وصدق نظره كفاه حرف واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى