قراءة نقديّة في ديوان  ذاكرة اللّغات للشّاعرة أسماء الشّرقي

 محمّد عيسى المؤدّب  كاتب وناقد – تونس

   

قصائد الذّاكرة والرّؤيا والوعي بالوجه والقفا

   ذاكرة اللّغات مجموعة شعريّة للشّاعرة أسماء الشّرقي صدرت في جانفي 2013 عن الأطلسيّة للنّشر وتضّمّنت 87 صفحة من الحجم المتوسّط و29 قصيدة من نوع قصيدة النّثر ومن عناوينها:سفر التّكوين،أشواق الغفران،حكايا الفصول،أحلام العيون القتيلة،مباخر الغياب،مواسم الرّيح وحزينة أنا في شهقة السّؤال…

   يستوقفنا العنوان أوّلا “ذاكرة اللّغات” وهو العنوان الجامع لكافّة القصائد لما يشتمل عليه من كثافة وإيجاز يبرزان الرّؤية الشّعريّة الخاصّة بالشّاعرة وكذلك المحور الأساسي المتناول في كلّ القصائد،وهو بالضّرورة الذّاكرة الإنسانيّة بما تعكسه من تذكّر ومفارقات،من ثقافات وحضارات متضادّة ظلّت لصيقة الهمّ الفردي والهمّ الجماعي..

   تشترك العناوين في خيط نفسيّ متردّد بين التشظّي والضّياع..بين أصوات تأتي من رحم التاريخ والحضارات القديمة(الأديان،االفلسفات،الأساطير…) وهو ما يعني تشتّت الأفق ورفض الواقع الذي تحيا فيه الشّاعرة ،فالمعاني الطّاغية هيّ الموت والقلق والغربة من جهة وصرخات الرّفض والتمرّد والثّورة من جهة ثانية..أهو المنفى الذي يطغى على القصائد ويعكس غربة المثقّف العربي في التواصل مع ذاته المحاصرة باليتم في جوهرها وروحها أوّلا ومع الآخر في غموضه وضبابيّته وأقنعته ومتغيّراته ؟…

تقول الشّاعرة في قصيدة أشواق الغفران:

“أنثى الحريق

تغتال أصفادها..

تزيح الدّمع من الأهداب..

يزدحم الرّقيم

على صفحات شريعتها

ويرتاح الزّنبق على أكفانها..

يستقبل أريجها

خمر العشاء الأخير”(ص37)

    وتعكس الأصوات أو البنية الإيقاعيّة شكلا من التشظّي الدّاخلي في وجدان أنثى حالمة ومتمرّدة،فهي تتردّد بين زمنين الأوّل مستدعى والثّاني منتظر وتفضي هذه الأصداء إلى صخب شبيه بالانفلات النفسي،لذلك ورد الإيقاع ثابتا ومتحرّكا،حزينا ومتحفّزا حتى يتطوّر إلى مثل الهمسة ثمّ النّفثة..يجرى كلّ ذلك في الباطن بما يحتمله من تناقضات وصراعات شعوريّة وفكريّة..

   وتناولت الشاعرة ثلاث قضايا مركزيّة ظلّت تلحّ على الفضاء الشّعري وهي الموت والحب والوطن..

فقد تعاملت مع الموت كحقيقة إنسانيّة محمّلة بالوجع والأنين والفقدان في حياة الإنسان في قصيدتي ألم الهدى(صورة الموت المادّي) وظلال حزينة(صورة الموت النّفسي) والعصفورة في قصيدة أرخبيل وهو ما يعني عمق أحاسيس الشّاعرة في استدعائها لاغتمامها الاجتماعي وتفاعلها مع مشاهداتها اليوميّة فليس الشّعر بذلك مجرّد انفعالات تعيش في اللّغة وإنّما هوّ التحام بالواقع في محنه وصوره الحزينة..  

تقول في قصيدة ألم الهدى:

أين مكاني من الكلمات؟

وقد زيّنت أعناق الغزاة

وزجّ بها القلب

في عتمة النّسيان..

يتراءى بعيدا..

كسجن الحكاية

كملح المدائن

أظلمت سلالة البقاء

مضت في الشّجن

إلى الأهداب النديّة

استوت مع زوايا الصّمت

تلملم المرايا”(ص20)

   أمّا معاني الحبّ في قصائد الشّاعرة أسماء الشّرقي فهو يتجاوز كونه وصفا لحالة شعوريّة أو نقل تجربة لتصلها بكليّة التّجربة الإنسانيّة في فهم المشاعر والحالات وتاريخ الأنثى وهويّتها..فهي تستدعي المعجم الدّيني(سفرالتّكوين،المسيح،شريعتها،لحظ الجنان،الغفران،باحة الأنبياء،التراتيل…) والأسطورة(تانيت،عشتار،انتانيوس،غايا،طائر الفينيق…)والحضارات(أرض الأمازيغ،البدو،معبر أورشليم،مشارف بابل،جوليوس العظيم،الرياح البربريّة) والتّاريخ الإسلامي(المعزّ،المنصور..)في رحلة إلى الذّاكرة أو رحلة أعماق الوجدان المتشظّي بين الغياب والضّباب والوهم من جهة وبين الأشواق والحلم والانتظارات من جهة ثانية..

تقول الشّاعرة في قصيدة سفر التّكوين:

تانيت..

يا تانيت..

من هواك سواي؟

من وهبك النّبض في مداي؟

من حضر معنا عرس الحكاية؟

تبتسمين وتتعطّرين..

تتعطّرين وتبتسمين..

تشرق عيناك في الشّرفات..

ويكتب الورد مواسم الذّهول

قال الأزرق الهلاميّ:

في مواسم الأمطار

تهب الشّمس حلاوتها للهطول

وتهدي كفّيها لهمس الحنّاء”(ص ص9/10)

   وتتعدّد انزياحات الشّاعرة من الرّوحي إلى الفيزيائي أو من معجم صوفيّ صاف متدفّق يكشف عن جوانب الحلم وعمق عاطفة الحبّ واختزالها لملحمة الإنسان في البوح والانصهار في الرّوح الأخرى الغائبة إلى معجم حسيّ يكشف عن الأشواق وانتظارات اللّقاء..وهي ثنائيّة تؤكّد انغراس فعل الكتابة في وضوح التّجربة وصدقها كما تعيشها الأنثى في أفكارها وواقعها أيضا..

  ويستوقفنا أيضا التضاد التراجيدي في صياغة معاني الحبّ بين الرّحيل والغياب والنّسيان وبين الّلقاء والحنين واللّهفة وهي ثنائيّات متكرّرة في القصائد تؤكّد حضور كيان أنثى ثائرة على أشكال الزّيف والقبح ،موطّنة لجمال الجوهر،لاعترافات الحبّ في أعمق صوره..وهي بذلك تتمرّد على كلّ مظاهر السّجن والقهر والاستعباد التي تكرّسها الثقافات المريضة وتلغي حضور الرّجل الأنانيّ الذي لا ينتج إلا الفشل والخيبة والخراب والموت..

تقول الشّاعرة في قصيدة شدوا..للقاء الحبيب:

“كم جميل..

أن تختزل حبّك في وطن العرق..

يتسلّل بين أخاديد كفّيك

يكبر ويكبر..

بسمة روح خافقة

تضجّ عشقا..

تضجّ شوقا..

إلى تخوم السّحر..

إلى ذهول السّفر..” (ص48) 

   ولا تنفصل صورة الوطن عن صورة المرأة الثّائرة إذ تتوحّد به وتحصي أوجاعه وهي في الحقيقة أوجاع الشّاعرة الواعية بقيم الحرية والكرامة والعدل والواعية أيضا بكينونة الأنثى في وطنها وما يتّصل بذلك من حقوق ظلّت المرأة تناضل من أجلها لعصور..

   وللوطن صورتان،صورة الآن كما نعيش ونقرأ ونرى ونسمع وهو ما يتجلّى من خلال هذه الصّور: البلاد الثّكلى،التّعساء،حمّى الجريح،وطن هجرته الغيمات ،وطن بلا نغمات..وهي صور عاكسة في الواقع ما يعيشه المثقّف عموما من قلق وغربة في حاضره وهي من الملامح العامّة التّي ميّزت الشّعر العربي الحديث منذ سنة النكسة العربيّة (1967)…فلم يستطع الشّعراء أن ينفصلوا وجدانيّا عن أوطانهم لما تحمله من رمزيّة لالتزامهم وهويّاتهم ووجودهم ومصيرهم…ألم يظلّ الشّاعر الفلسطيني محمود درويش شاعر الأرض والوطن ؟..يتوحّد مع أوجاعه حتّى في قصائد الحنين والحبّ..وكذلك كانت نازك الملائكة في سجلّاتها ونضالاتها…

  أمّا الصّورة الثّانية فتتشكّل في الوجدان الذي يتوق إلى وطن منعتق من كلّ القيود والأحزان،وطن متحرّر يسع الجميع ويحتضن الإنسان…

تقول الشّاعرة في قصيدة مواسم الرّيح:

تخبرنا المواسم

أنّا نشرق مع الشّمس

نهبّ مع الرّيح

نرقص مع الأمطار

لا نحترق في النّار

لا يشرّدنا الزّبد المسافر..

تهدينا الجسور للمواكب..

نورق..نورق

ويحيا الوطن

ويغنّي الوطن

كما البدايات

كذلك تقول الكائنات..”(ص73)

   ولاشكّ أنّ مضامين قصائد المجموعة تستجيب في الحقيقة لروح ثائرة ملتحمة بباطنها أوّلا ومتّصلة بما يجري في الحياة ثانيا..وقد خرجت الشّاعرة بذلك عن رصيف الأنثى المستهلكة لقضاياها الذّاتيّة لتباشر قضايا الإنسان وما ترتبط به من قيم متحوّلة ومتبدّلة،تستوقفها الشّاعرة وتسائلها لتنتزع من المرآة المشروخة جموحها وصهيلها وبيانها الجديد..

“مولاي

سيشدو السّنونو

وتهتف الأمنيات

وينساب اللّجين كما الزّقزقات..

وداعا يا بحر الغرباء

وداعا يا مساءات النّحيب..

كان قلبي أنينا

سهوا في النّشيج..

كان وجهي غبارا عند العبيد..

هوّ ذا يولد في الصّهيل

يولد في كلّ اللّغات..”(ص ص 80/81)

     ويجدر التّأكيد على قيمة المكان في تشكيل الصّور الشّعريّة بتنويع الطّاقة التّخييليّة وإثرائها وهو ما يبرز في المدن التي رحلت إليها الشّاعرة ونقلت ما تواشجت معه والتحفت به..فتبرز مدينة حفّوز في صورة الأمّ وشجرة الزّيتون ومشاهدات الطّبيعة الممتدّة..وتحضر القيروان في طابعها الدّيني والحضاري ويحيل البحر في تشكيلاته المختلفة على مدينة المهديّة في السّاحل..كما يحضر شارع الحبيب بورقيبة رمزا للثّورة والتحدّي وإثبات الكيان…

    ذاكرة اللّغات مجموعة شعريّة للشّاعرة أسماء الشّرقي أكّدت على هاجس التّجريب في فضاء قصيدة النّثر إيقاعيّا ومناخا شعريّا قائما أساسا على صهر نصوص دينيّة ورموز أسطوريّة وأسئلة فلسفيّة في تجسيم قلق الأنثى ووجع الإنسان والوطن..مع الملاحظ أنّ الشّاعرة عمّقت بؤرة الانزياحات في عالمها الشّعري حتى تكتب لغتها المختلفة ووجدانها المتفاعل مع اليوميّ وقضايا المجتمع وفق رؤيا ناقدة وواعية بالوجه والقفا..

 المصدر:ذاكرة اللّغات / الشّاعرة أسماء الشّرقي – الأطلسيّة للنّشر جانفي 2013.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى