لا صينية لا أميركية لا روسية لا أوروبية

توفيق شومان | مفكر وخبير سياسي لبناني

 

كتبتُ عن عطالة “النموذج الصيني”، فهاجمني “المتصينيون” دعاة الإستعمار الجديد، وهم على الأغلب من بقايا اليسارالإستعماري، وكتبتُ عن فظاعة  “النموذج الأميركي، فهاجمني دعاة الإستعمار التقليدي، وهم من أتباع اليمين الجدد أو من بقايا اليمين  العنصري الطالح.

 وما بين النموذجين العاطلين والفظيعين، يمكن التوسع في نقد ونقض النماذج المستوردة، على الأقل بهدف التفكير حول كيفية إنتاج نموذج إقليمي يعي مصالح دول الإقليم ويحث على فض النزاعات بينها، عبر تشكيل فضاءات تعاونية تأخذ بالإعتبار العوامل الإقتصادية والأمنية والإجتماعية بين الدول المتجاورة جغرافيا وتتشارك في روابط تاريخية وثقافية، لا تخطئها عين ولا يمكن أن يغفل عنها باحث أو دارس .

من أين نبدأ ؟  من التالي :

الدول المتوسطة الحجم ، نصيبها من القرار السيادي قليل ، والدول الصغرى حظها من القرار الإستقلالي شبه معدوم .

موازين القوى العالمية في هذه الآونة مندرجة في الواقع التالي :

ـ دول عظمى ثلاث وهي : الولايات المتحدة والصين وروسيا .

ـ دول كبرى وهي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان ، فيما الهند تتموضع في منزلة ” المؤلفة قلوبهم “، أي أنها دولة كبرى لها مقومات الدولة العظمى .

تحت الدول الكبرى ، تحل الدول المتوسطة ، وجلها يمتلك مقومات الدولة الكبرى ، وهذه الدول متعددة ومنتشرة على خرائط أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ، وأما في خارطة الإقليم ، فالقول ينحصر في مصر وتركيا وإيران.

دول الإقليم االمتوسطة ، لها تحالفاتها الخارجية الوطيدة وخصوماتها الإقليمية المتشابكة والمشتبكة .

لماذا لا تنقلب الصورة ؟

وتغدو التفاهمات الإقليمية تتقدم على التحالفات الخارجية ؟

هذا سؤال عمره أكثر من مائة عام ، إذا ما أريد عدم التعمق في التاريخ السياسي وعدم التوغل في عقود ما قبل القرن العشرين .

لتكن البداية من القرن الفائت :

قبل الحرب العالمية الأولى ، انشغل العالم ب ” المسألة الشرقية ” و ” الرجل العثماني المريض ” ، وإذ بدت السلطنة العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر ، متجهة نحو التفكك والإنحلال ، فإن صراعات الدول العظمى على الإرث العثماني ، أطال عمر السلطنة وأمد سنوات حياتها ، وحين وقعت الحرب الأولى ، أو قبلها بقليل ، كانت اتجاهات السياسة العربية الناشئة آنذاك ، بعضها متجه نحو فرنسا ، وبعضها الآخر يمم وجهه شطر بريطانيا .

ما النتيجة ؟

النتيجة تمثلت في احتكار الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى صوغ خرائط الدول العربية المتشكلة في مرحلة ما بعد الحرب ، فضلا عن إمساكها بكل أنواع القرار السياسي والإقتصادي والعسكري ، وهي الحال نفسها التي جرى مجراها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث برزت معادلة الإنخراط الخطير في سياسات المحاور الدولية القائمة على ميدان الصراعات بين الشرق السوفياتي والغرب الأميركي .

في تلك المرحلة التي أعقبت الحرب الثانية ، اتجهت تركيا عقلا وغربا إلى محور الغرب ، ومعها العراق الملكي وإيران الشاه ، وفي ظل التنافس المصري ـ السعودي على القرار العربي ، تشرق بعض العرب وتغرب آخرون .

وحين صعقت كارثة حرب الخامس من حزيران / يوينو 1967، العرب أجمعين ، لم يجد العرب المهزومون من يواسيهم أو يكفكف دموعهم ، لا في الشرق السوفياتي ولا في الغرب الأميركي .

في عام 1961، لمع نجم في السماء ، إسمه ” حركة عدم الإنحياز “، انبثق من “مؤتمر باندونغ ” عام 1955، وهذا الحدث الجلل الذي صنعه الثلاثي جواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر وجوزيب بروز تيتو ، سرعان ما  تبدلت أحواله وتبددت آماله .

تبددت آمال مشروع عدم الإنحياز وخفت النجم الذي كان في السماء وعادت الأحوال إلى سابق عهدها بين الإلتحاق بالشرق أو الإلتحاق بالغرب.

في معطيات  العقود الأخيرة  ما يمكن قوله على النحو التالي :

لم يشفع لتركيا انضمامها إلى ” حلف الناتو ” منذ عام 1952، فقد بقيت طرفا منبوذا من ” النادي الأوروبي  ـ الغربي ” ، وما زالت وستظل منبوذة ، وحين حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجلوس على مقعد نصف قوائمه غربية ونصفها شرقية ، كاد يٌقلب عن مقعد الحكم في محاولة الإنقلاب الفاشلة في منتصف العام 2016.

شاه ايران هو الآخر ، الملتحق بالأميركيين عقلا وقلبا ، لم يعثر على منفى حين ثار الإيرانيون على جور نظامه وأسقطوه في عام 1979، فأغلقت الولايات المتحدة أبواب المنافي أمامه ، ولولا ” بقايا عواطف ” الصداقة التي ربطت الشاه مع الرئيس أنور السادات ، ف ” أنزله ” شريدا في قصر ضيافة مصري ، لأكله سمك البحر .

في السياسة معروفة معادلات المصالح، أليس من ضمن معادلات المصالح تفاهم دول الإقليم ؟

يتجاوز عدد سكان ايران 84 مليون نسمة ، ويقفز عدد سكان تركيا عن 82 مليون شخص ، وفيما يتجاوز عدد سكان العراق 36 مليونا ، وسوريا 25 مليونا ، فإن مساحة ايران البالغة مليون و600 ألف كيلومترا مربعا ، وتركيا 780 ألف كيلومترا ، ومساحة العراق 440 الفا ، وسوريا 185 ألفا ، فإن تفاهما أو إطارا أو تكتلا ، بين هذه الدول الأربع ، يعني إيجاد سوق مشتركة ضخمة تعدادها السكاني يتعدى 225 مليون نسمة على مساحة قارية تقترب من 3 مليون كيلومترا مربعا .

ذلك يعني أيضا :

أن هذا الإطار يضم ثالث ورابع منتج للنفط في العالم (ـ العراق ـ إيران ) ودولا ريادية في صناعة المنسوجات والجلود (  سوريا ـ تركيا ـ ايران) ، بالإضافة إلى الصناعات المتوسطة ( تركيا ـ ايران) كما أن الإطار المذكور تتركز في دوله أهم المواقع الآثارية في العالم (سوريا ـ العراق ـ تركيا ـ إيران ) .

والأهم من ذلك ، أن هذا الإطار تجمعه روابط ثقافية وتاريخية ، مركبة في تداخلها وصعبة الإنفصام ، ففي البلاد العربية ملايين المواطنين من أصول تركية ، والتداخل الجنسي الإيراني ـ العراقي لا يقل شأنا عن مثاله التركي ، وفي إيران وتركيا ملايين المواطنين من أصول عربية ، وفيما تشترك اللغتان التركية والفارسية في الجذور الواحدة ، ومثلما تشمل اللغتان الفارسية والتركية حجما ليس عاديا من المفردات العربية ، فإن اللغة العربية ليست بعيدة على الإطلاق عن شمولها حجما غير قليل من المفردات الفارسية ، وأما اللهجات العربية العامية ، فغزارة المفردات التركية والفارسية التي تحتويها ، يصعب حصرها .

هل هذا وهم ؟ لا … ليس وهما.

الوقائع الكبرى كما يقول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل تأتي في أحيان كثيرة من أفكار مخالفة للواقع ، وهي تعترض عليه وتخالفه ، بغرض إصلاحه أو تطويره أو تغييره .

ومثلما هي حبات المطر التي تستخف الجبال بخفة وزنها ، فإن الحبات المطرية إياها ، هي التي تفعل أفاعيلها في شواهق الجبال وسفوحها بفعل عوامل التعرية وتساقط الأمطار المستمر .

من أين يمكن طرق أبواب البداية ؟

من عنوان  أساسي يمكن تسميته بالعنوان ـ  المدخل :

ـ تفاهم إيراني ـ تركي ـ سوري لإقفال باب الأزمة السورية .

إن هذا التفاهم  تتحمل تركيا مهمة  خطوته الأولى ، إذ لا ينقصها سوى ” روح المبادرة الجريئة ” ، ومن شأن ” هذه الروح ” أن تخفض إلى حد كبير حجم مصادرة الدول العظمى لقرارات الحلول التي لم تأت يوما ولن تأتي في لحظة ولن تأتي على حين غرة .

هذا الفضاء يتسع للبنان والأردن ، وواقع الحال أن لبنان ليس أمامه سوى هذا الخيار من الفضاء  الواسع ،  ولا يعني ذلك عدم انفتاحه على فضاءات اخرى مثل أي مكون او فاعل في الفضاء  نفسه ، وأما الأردن فأمام خيارين ، الأول مع النموذج المذكور سابقا ، والثاني مع نموذج التعاون الإقليمي على ضفتي الخليج ، أي بين إيران ودول مجلس التعاون ، وإذا كانت التعقيدات والعراقيل تحول دون تبلور هذا النموذج من التعاون حاليا أو في المدى المنظور، فإن المدى المتوسط وما أبعد ، من شأنه أن ينتج فكرا براغماتيا ، تنفتح من خلاله أبواب الرافضين لمثل هذا التعاون ، وعلى أساسه  تتقدم المصالح على أية شؤون أخرى.

الأمر عينه ، يمكن قياسه على نموذج التعاون بين المثلث المصري ـ الليبي ـ السوداني ، وعمقه يمتد إلى أثيوبيا ، ففي ليبيا النفط والطاقة، وفي السودان الزراعة ، وفي مصر الكفاءة ، وفي أثيوبيا الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، ولعل الرئيس جمال عبد الناصر ، كان أول الرؤويين القائلين : لا تعادوا اثيوبيا ، وأما المغرب العربي ، فله اتحاده ، ولا يحتاج إلا إلى تفعيل وتنشيط .

وإذا ما ارتدت خاتمة القول إلى بدايته ، فإن لسان قرن كامل من الرهان مرة على الشرق ، والرهان مرة على الغرب ، ينطق بحقيقة لا تقول إلا : ولا مرة نجح الرهان ، ولا مرة إلا وكان الرهان خسرانا مبينا .

كم مرة ” يجوز ” الرهان ؟ مرة على الإستعمار الأميركي ، ومرة على الإستعمار الروسي ، ومرة على الإستعمار الفرنسي ومرة على الإستعمار  الإنكليزي  ومرة على الإستعمار الصيني ، وربما في الغد على الإستعمار الهندي أو على غيره .

كم  مرة يجوزالرهان على الغير ؟

ولماذا لا يجوز الرهان على الذات؟

عودة إلى الذات  ولو مرة

وليكن الرهان هذه المرة على روح الذات و نموذج الذات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى