بحر الوتد، لزوم ما لا يلزم

د. عمر علي خلوف/ سوريا

تقول الشاعرة (ثناء حاج صالح)
في المقطع الأول من قصيدة: حِوارُ المَنافي:
وصَمْتـُهُ أتاحَ غَيمةً جديدةً لأسئِلَهْ
وحَنًّ ضَمّ صَدرَ غيمِهِ .. ونامْ
وجئتُ من أصابعي..
لنومِه الذي بـُروجُه مُقـَفّـَلهْ
لأندفَ الغيومَ ليـلكاً
وأُفزعَ الحمامْ
وقد وصَفَتْ الشاعرة قصيدتها بأنها:(قصيدةُ تفعيلةٍ، خاليةٌ من الأسبابِ، يقومُ إيقاعُها على تكرار الوتد).
وهو وصفٌ صحيحٌ لواقع قصيدتها، إلاّ أنها توهّمت أنّ جميعَ أوتادِها أصيلةٌ/حقيقيّة، وأن الوتدَ لا التفعيلة هو وَحدَتُها الإيقاعية، وأنها تجربةٌ غيرُ خاضعةٍ لقوانين الخليل!
واستدلّت على أصالةِ أوتادها بأنّ عددَ الأوتادِ في بعض سطور القصيدة فرديٌّ، حيث يبقى وتدٌ مفرَدٌ آخِرَ السطر، وحيداً، لا يتبعُ تفعيلةً بعينها، ويقفُ شاهداً على أنّ القصيدةَ مركّبةٌ من أوتادٍ لا تفاعيل.
وتابعتْ بأنّ تلكَ كانت (نِيّتَها) عندما نظمتها، وأنّ على العروضيّ أن يتبعَ (نِيّةَ) الشاعرِ في ذلك!
….
*أقول ومن الله السداد:
ليسَ الشعرُ العربيُّ -في أساسهِ- هندسةً قائمةً على الصنعةِ، لكنه فِطرةٌ نابعةٌ من جِبِلّة الإنسان العربي، الذي لم يكن يدري شيئاً عن مكوِّناتِ شعرهِ، ولا تركيبِه، سوى كونه إيقاعاً منسجماً مع ذائقته.
وقد جاء الخليلُ فكشَفَ عن تركيبةِ هذا الشعر، وأنه يقومُ على جُمَلٍ إيقاعية، وتفاعيل، تتكرَّرُ بأنظمةٍ محدّدة، باتت معلومةً للعلماء وغيرهم.
وهذه التفاعيل، تتركب إمّا من: (وتدٍ وسبب)، أو (وتد وفاصلة)، حيث يكون الوتدُ ركنَها الأساس، ومركزَ استنادِها الثابتَ، الذي ينهدم بانهدامهِ وزنُ الشعر.
وقد أثبتنا فيما كتبناه، أنّ من خصائص الشعر العربي الموزون، (عدَمُ تَجاورِ وتَدين حَقيقيين) في أي وزن، إلاّ بعد زحافِ سببين متجاورين: (/ه/ه)، بسقوط ساكنِ الأولِ منهما، فينشأ عن ذلك (وتدٌ زِحافيٌّ): (//ه)، يُشبِهُ أخاهُ الأصيلَ، ويُجاورهُ، دونَ أن يُخِلَّ ذلك بالوزنِ.
ويُعرَفُ (الوتدُ الزحافيّ) بأنه وتدٌ قابلٌ للعَكسِ، يمكن أن يَنفكَّ مَرَّةً أخرَى إلى سبَبَيه.
فهو وتدٌ مُتَذبذِبٌ غيرُ مستقرٍّ ولا ثابت.
في حين لا يقبلُ (الوتدُ الحقيقيُّ) ذلك أبداً، لاستقرارهِ وثباته.
فإذا تَجاورَ وتدانِ في شعر، كانَ الأولُ منهما (وتداً زحافياً)، أصلهُ سببان خفيفان، ولا يمتنعُ أن ينفكَّ إلى سبَبيهِ مرة أخرى، في حين يُؤدّي فكُّ الوتد الحقيقي إلى كسر الوزن وانهدامه.
فهل يَصِحُّ الوزنُ بالكتابةِ على سلسلة طويلة من الأوتاد المتكررة؟
أقول: نعم، يَصِحّ. لكنه خروجٌ من فِطرةِ الشعر، إلى تكلّف اللّزوم.
وهو خروجٌ خاضِعٌ لقوانينِ الخليل بالتأكيد، غَيرُ مُنافٍ لها، ولو كان غيرَ ذلك لَبانَ فيه الخللُ والكسر.
وطالما ذكرَ العروضيونُ أبياتاً رجزيةً موزونة، -وإن كانت مصنوعة- جاءت جميعُ تفاعيلها مخبونةً، فكان البيتُ بأكمله قائماً على الأوتادِ دون الأسباب، ظاهريّاً، كقوله:
مَنازِلٌ ألِفْتُها وطالَما=عَمَرْتُها معَ الحِسانِ في دَعَهْ
وقوله:
فطالَما وطالَما وطالَما=سَقَى بكَفِّ خالِدٍ وأطعَما
ومن ذلك بيتُ (الوقص في الكامل):
يَذُبُّ عن حَريمِهِ بسَيفِه=ورُمحِهِ ونَبلِهِ ويَحتمي
ومَن بَنَى قصيدةً على هذا المثال، كانَ عملهُ (صَنعَةً)، وداخلاً في باب (لزوم ما لا يلزم).
وهو فعْلٌ لا يُخِلُّ بالوزن، وإن أخلَّ بفطرته، لأن الزحافَ الصالحَ ليس شيئاً خارجاً على الوزن، ولكنه أحد مكوناته، وإنْ جعلوا إحدى التفاعيلِ (أصلاً)، والأخرى (فرعاً) عليها، وذلك من باب التصنيف. بل ربما كان الزحافُ في الذوق أطيبَ من الأصل، مثل: (متفعلن) في الخفيف، و(فاعلاتُ) في المنسرح والمقتضَب.
ونظراً إلى أن الإيقاعَ الشعري فطريٌّ، يجمع بين التفعيلة وبديلها، من غير تفضيل للأصيل على البديل، بل ربما كان البديلُ أطيبَ وأجودَ من الأصل، لذلك فإنّ جمالَ الرجز يكون بالجمعِ بين (مستفعلن) وبدائلها المعروفة، وجمالَ الرمَلِ بالجمعِ بين (فاعلاتن وفعِلاتن).
ومِن نافلة القول أنّ مَن بَنَى قصيدةً على (تفعيلةٍ أصيلةٍ) كذلك، ولم يتجاوزْها إلى ما يَجوزُ فيها من زِحاف، كان عملُه داخلاً في باب (اللزوميات) أيضاً.
وغنيٌّ عن القول: إن الشاعرَ في لزوميّاته، يُجهدُ نفسَه بهذا الالتزام، لأنه مضطرٌّ إلى أن يُبقي باصرته وبصيرته متفتحتين متنبهتين كي لا يُخِلَّ بهذا الالتزام، فيَبينُ في قصيدته شيءٌ من التكلّف.
والتكلُّفُ في اللزوميات معلوم، نبّه إليه أشهر شعرائه، وأعلاهم كعباً فيها، وهو المعرّي رحمه الله تعالى، فقال عن لزوميّاته: ((وقد تَكَلَّفْتُ في هذا التأليفِ ثَلاثَ كُلَفٍ)).
وليس في اعتبار أيَّ وزنٍ من اللزوميات ما يحطّ من قَدْرهِ، أو قَدْرِ ما كُتِبَ عليه، وإنما هو وصفٌ لواقعه الوزنيّ، وتأكيدٌ على أنها تجربة تصبُّ في باب اللزوميات فحسب، إنْ نجَحَتْ تُحسَبُ لشاعرِها، وإن أخفقَت فعلى مسؤوليته. وما أحسبُها إلا تجربةً ممتعة. وقد أبدَعَ المعرّي، فكتبَ في اللزومياتِ شِعراً لا يُجارَى، فصنَعَ فيه ديواناً ضَخماً، معجِباً، مشهورا.
كما أبدعَ شوقي، بالتزام الطيّ: (مفتعلن)، في قصيدة له على (المجتث)، عدتها 68 بيتاً، ومطلعها:
طالَ عَلَيها القِدَمْ=فهْيَ وُجودٌ عدَمْ
قد وُئِدَتْ في الصِّبا= وانْبَعَثَتْ في الهَرَمْ
على الرغم من أن الوزنَ لا ينكسرُ أو يختل، لو أنه بادَلَ بينها وبين (مستفعلن) أو (مفاعلن)….
ويُحمَدُ لمُتَكَلِّفي الشعر المزاحَف، أنهم نبّهونا إلى أنّ من اللزوميّات أيضاً، لزومُ تفعيلةٍ واحدة بعينها، أصيلةٍ أو مزاحفة…
وربما توهّمت الشاعرةُ أنها أوّلُ مَن كتبَ قصيدةً على هذا التركيب الوتدي، فقررت أنها “اللحظةُ التاريخية التي يُقرّرُ فيها إنسانٌ إنشاءَ شِعْرِ الوتد”.
لكننا نؤكد أن ابن الفرخان، وهو من علماء القرن السادس الهجري، أشارَ إلى أن (مفاعلن) هي تفعيلة أصيلةٌ عند الفُرسِ، وأن ما كُتِبَ عليها عندهم يختلف عما كُتب على (مستفعلن)، أو (مفتَعَلُن)، أو (متَعِلُن)، وقد مثّل لها بأكثر من مقطوعة من شعرهِ، وسَمّى الشعرَ المكتوبَ على (مفاعلن): (مخبونَ الرجز)، كقوله على المُسَدَّس منه:
لقد مضَوْا وما رعَوْا أخاً رَعَى = وكمْ جَفَوْا فما وَفَوا لِمَنْ وَفَى
عَهِدْتُهمْ بذي الغَضا فأَضْرَموا = لَظَى القلوبِ لا اللَّظَى من الغَضا
مَنازلٌ عَهِدْتُها أَواهِلاً = فيَلْتَقي بها الأُسودُ والمَها
وقوله على المثمّن منه:
تَعارَضَتْ أيانِقٌ، فأقبَلَتْ تُسابِقُ = وأعرَضَتْ سَمالِقٌ، دُوَيْنَها شَواهِقُ( )
بَدَتْ لنا هَوادِجٌ سَرَتْ بها نَواعِجٌ = وفي القلوبِ لاعِجٌ من الحَنينِ شائقُ( )
مَنازِلٌ بِذي النَّقا بها الأُسودُ تُتَّقَى = ولِلظِّباءِ مُلْتَقًى فلَمْ تَكَدْ تُفارِقُ
وثيقةٌ عقودُهمْ وكمْ وَفَتْ عهودُهمْ=وأَنْجَحَتْ وفودُهمْ فكَمْ يَخيبُ وامِقُ
وغيرهما.
وهذا في الشعرِ العربي (التزامٌ) ليسَ إلاّ، ولو أنه قال مثلاً:
(عَهِدْتُهمْ بذي الغَضا قد أَضْرَموا)، أو:
(كم يَلْتَقي بها الأُسودُ والمَها)،
لما تأثّر الوزنُ بذلك، وظهَرَ أنه رجَزٌ فحسب.
وكانَ شيخُنا العروضي: (سليمان أبو ستة) قد نبّهَ إلى أنّ قصيدةَ الشاعرة: (رجَزٌ)، قيّدَتْ حريتَهُ الزحافية الواسعة، بزحافٍ واحدٍ هو: (الخبن)، وذلك من باب (لزوم ما لا يلزم).
ونقول: يكفي للدلالة على أن قصيدتَها قائمةٌ على (مستفعلن الرجزية) أنك تستطيع بسهولة بالغة أن تفكّ الوتدَ السببيَّ إلى سببيه، دون أن يختل الوزن، كأن تقول في مطلعها مثلا:
[لو] صَمْتُهُ أتاحَ غيمةً جديدةً لأسئِلهْ
ونظراً لتقبّل الوزن ذلك الفك، دون اختلال للوزن، فالمقطوعة لن تكون إلا على وزن (الرجز) مع (التزام) الخبن فيه.
وإنّ حُكْمَنا على المقطوعة بأنها من اللزوميات قد اعتمدَ -كما هو واضح- على أن فكّ الوتد السببي إلى سببيه لا يكسر الوزن، بل يُحسّنه، لأنه يزيد ثراءه الإيقاعي، ويكسر رتابة تكرار الأوتاد.
إذن، فليس لنيّة الشاعر دخلٌ في تقرير ذلك، حتى إن نَوَى، فلا يمكن لإيقاعِ الوتدِ أن يستقِلّ بالوزنِ إلا من باب الالتزام.
وليسَ عدْلاً أن تعترضَ الشاعرةُ بقولها: إنه بهذا الفكّ قد ترهّلَ المعنَى، وزادَ الحشوُ!
فلا شكّ أن أصل الكلام سيكون الأجدى والأسَدّ، وكل رياضة عروضية واقعة في ذات الإشكال، ولكن المهمّ عندنا أن إمكانيةَ الفكّ دليلٌ ساطع قاطع على أصل ذلك الوتد السببي، في حين لا إمكانَ لأحدٍ أبداً أن يَفكّ الوتدَ الآخَرَ إلى سببين، لأنه وتدٌ حقيقي، أصيلٌ، يؤدي فَكُّهُ إلى كسر الوزن، وهدم الإيقاع.
وليسَ صواباً أن تجعلَ الشاعرةُ عملَها مقابِلاً لالتزامِ شعرِ (الخببِ) بالأسبابِ دونَ الأوتاد.
فاستئثار الخبب بالأسباب، مسألةٌ مختلفة، لأنه في أصل تركيبهِ (إيقاعٌ سبَبيّ)، لا يجوز فيه دخول الوتد، لأنه يُخلُّ بوزنه، وهي خصّيصة من خصائصه.
وليسَ من خصائصِ الوتدِ أن يستقِلَّ بالإيقاع، إلاّ من باب اللزوم، لا الأصل، فيجوز دخول الأسبابِ في شعر الوتد، من غير أن يختل الوزن.
وذلك هو سبب التمايز بين الإيقاعين.
و(الخببُ) عندنا إيقاعٌ (سبَبيّ)، الفاصلةُ فيه زِحاف.
وإن التزام الفاصلة في الخبب، أو التزام السبب الخفيف فيه، هو من باب اللزوميات حتماً، وليس في الشعر الجيد منه مَن فعَلَ ذلك قط، فإن وُجِدَ فتكلُّفٌ ظاهر.
ولم يكن الخببُ قطُّ اختراعاً قرّره إنسانٌ ما، بمجرّدِ خُطورهِ على بالهِ، كما توهّمت الشاعرة، لكنّه وزنٌ فطريّ، كسائر بحور الشعر العربي، كتبَ عليهِ الشاعرُ الجاهلي، والشاعر الإسلامي الأول، دون أن يقدرَ الخليلُ على تقعيده، لِمُخالفته جميعَ القواعدِ التي انتظَمَت عليها بحورُه الخمسة عشر، فترك حبله على غاربه.
كما أنّ إفرادَ وتدٍ في آخرِ الشطر أو السطر ليسَ حجّةً فيه، فذلك لا يمنعُ انفكاك الأوتادِ التي تسبقه إلى أسبابها الأصلية، كقولنا: (مستفعلن مفاعلن فعَلْ)، كما لا يمنع انفكاك هذا الوتد المفرد (بتغيير نوع القافية)، كقولنا: (مفاعلن مفاعلن مستفْ).
ولا يقتصر هذا على شعر الوتد التفعيلي، إذْ طالَما كتبَ الشعراءُ قصائدَ عموديةً، جاءَ عددُ أوتادِ الشطرِ فيها فردياً.
يقول حمزة شحاته:
قريَتُنا تفيضُ بالسماحْ
وليلُها الوديعُ كالصباحْ
//ه//ه//ه//ه//ه ه
ويقول عدنان قيطاز:
أخطُّ يا حبيبتي رسالتي
إليكِ من سفينةِ الفضاءْ
//ه//ه//ه//ه//ه ه
ومن الشعر القديم:
مَهامِهٌ أعْلامُها همودْ
وماؤها في وِرْدِهِ بعيدْ
قطعتُها بناقةٍ صَموتٍ
//ه//ه//ه//ه//ه/ه
شِمِلّةٍ عيْرانةٍ وَخُودْ
ولأستاذنا زهير ظاظا:
تـحـية العبقْ=وقصب السبقْ
وروعـة الندى=ومـتعة الغرق
وسـعد طالعي=بـحبه انطلق
وكـلـما دجت=أضـاء وائتلق
//ه//ه//ه=//ه//ه//ه
هذا والله تعالى أعلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى