الشاعرة والناقدة العراقية جوانا إحسان أبلحد والكاتب السوداني زياد مبارك (وجهًا لوجه)

        جـوانا إحسان أبلحد  – العراق – ملبورن/ استراليا وضعتْ بصمتها اللافتة في ديوان الشعر النثري العربي؛ الشاعرة العراقية جوانا إحسان أبلحد المقيمة بمدينة ملبورن/ استراليا، وأرفقتْ ضمن تجربتها الإبداعية لفائف نقدية هامة أضحتْ إشارات طريق فيما تطرقتْ له عن الشعر الحداثي في هيئته المعروفة بقصيدة النثر، ونالتْ هذه النظرات النقدية اهتماماً واسعاً من قبيلة الشعراء والنقَّاد تحت مظلة الحداثة. وراجَتْ مقالاتها بالموازاة مع أشعارها. كما عُرفتْ على نطاقٍ واسع في المنتديات الأدبية قبل أن تصدر ديوانها الأول قبل سبعة أعوام والذي اندرجتْ أوراقه تحت عنوان: «أساور من معدن المجاز»، والذي عُدَّ خميلةً شعرية احتفى بها النُقاد الأجلاء وأصحاب الذائقة الحداثية لفرادتها في هذا التلوين الشعري الذي تولته بعنايتها وصالتْ في ميدانه على مستويات التجريب والتنظير والنقد.

     حاورتها جريدة «عالم الثقافة» لتتفيأ برؤاها كونها إحدى أبرز من تصدروا مشهد القصيدة النثرية؛ فإلى مضامين الحوار..

لنبدأ من طرف أشعاركِ، عن الخطوات الأولى، وأحبّ قصائدكِ إليكِ؟

الخطوات الأولى مجرد حبو على أرضيَّةِ التأمُّل بِكُلِّ شيء حَوْلي..

أذكرُ نادمتُ (خير الجليس) بمرحلةٍ عُمْريَّة مُبكِّرة وبحواسٍ نهمة، منذُ مرحلة الدراسة الابتدائية. وبالصف الخامس الابتدائي وِلِدَتْ أول خربشة لي.. كُنْتُ أُعاتب بها أرجوحتي وكيف اِنكسرتْ أثناء التأرجُح بها. ووصفتُ الكدمات على رُكبتيَّ وكيف زهور الحديقة تبكي معي.

كنتُ أقرأ أكثر مما أكتب، واستمرَّتْ خربشاتي المُتقطِّعة كَـ هاوية حتى آخر سنتيْن مِنْ المرحلة الجامعية إذ شعرتُ رُبَّما اِقتربتُ مِنْ الكتابة الاحترافية المتواضعة بعدما أدركتُ نسبياً معايير اللون الأدبي الذي اِعتنقتُهُ، فنشرتُ إلكترونياً أول قصيدة نثر قبلَ خمسة عشر عاماً.

وبالإجابة على سؤال (أحبّ قصائدكِ إليكِ): تلك التي لَمْ تُكْتَبْ بعد، وأُسميها القصيدة المُرتجاة.

رغم أن جوانا تفرَّدَتْ بأسلوبية شِعريَّة قائمة بذاتها –في رأي الكثيرين– فيُلاحظ أنكِ مُقلِّة في نشر أشعاركِ، وتؤكدين ذلك في قصيدة لكِ (يا عصيَّ الشعرِ تحنَّن).. ما هي فلسفة جوانا للشعر الذي يستحق النشر والذي يستحق الإتلاف؟

مجرد فعل النشر لأولِ مرَّةٍ كانَ فعلاً بطولياً.. لأنهُ منذُ المرحلة الابتدائية وحتى بداية الدراسة الجامعية، كنتُ أكتبُ بهيئة سريَّة وأمزِّقُ الذي أكتبهُ، أي لَمْ يطَلِعْ أي بشري على خربشاتي البدائية. كنتُ أهجس بـ أهلي لا يريدون أنْ أعتنقَ الشِّعر وتأكَّدَ هذا الهاجس على مرِّ نبضي الإبداعي والإنساني معاً.

وبشأنِ قلَّة النشر -أحياناً-، حياتُنا بدول الغرب ترزحُ تحتَ نيْرِ الضغوط والمسؤوليات القاهرة، فالوقتُ عندنا قاهر/ غادر يمرُّ برفَّةِ الرمش ولا نعلم علامَ نلحق ونلحق..

وعليهِ وجداني الشِّعري ليسَ حاضراً أو مُرتاحاً/ مجانياً على مستوى اليومي.

ومِنْ جهة فنية/ شاعريَّة أقوى، رُبَّما موضوع قصيدتي المتواضعة يأخذُ مِنْي جهداً وجدانياً لذيذاً، وبدوري لا أستعجلُ الانتقال مِنْ مرحلة الكتابة الوجدانية إلى مرحلة الكتابة الإلكترونية. فمرحلةُ الكتابةِ الوجدانية وما ترفلُ بهِ مِنْ صيرورة رؤيويَّة أراها لذيذة جداً وبدوري أستأنسُ بتدويرِ لذاذتِها.

وبشأن سؤال (ما هي فلسفة جوانا للشعر الذي يستحق النشر والذي يستحق الإتلاف؟)..

لَمْ أتلف أي قصيدة بعد مرحلة الاحتراف المتواضع، لأنَّني أعملُ على منحوتِ القصيدة بتأنٍّ وإمتاع، واللا متوافر صلصالهُ بسعر رخيص أو مكان قريب مِنْ يومياتي.

أين قضايا العراق في شعر جوانا المهاجرة؟

العراق حبيبي الأوسم والأنبل والأبقى.. شجرةُ العراق تشمخُ عالياً في بُستانِ التورية بأغلب الذي أكتبهُ.. لكن تلكَ الشجرة لا تنمو عندي بالاخضرار المُحبذ إلا بسقاءِ الدَمْعِ المُنساب مِنْ عَيْنِ التأمُّل الواجم، فأنا لَمْ أقوَ حتى اللحظة أنْ أكتبَ العراق بوجدانيَّةٍ سارَّة.

بينما حالياً أتعالقُ مَعَ العراق بحالةٍ مؤنسة ومُعزِّية معاً. وهو تعالُق أقرب للوجداني/ الفلسفي/ التاريخي/ الاجتماعي السالف أكثر مِنهُ للجغرافي/ السياسي المأسوف عليهِ حالياً.

وببلد الاغتراب هذا، صدقاً أحنُّ للعراق بمشهديات سرياليَّة أراني أحياناً لا أقوى على تخليقِها بمادة مقروءة والأعتى لو كانتْ شِعراً..

لماذا حصرتِ اشتغالكِ في النقد الأدبي بالدفاع عن قصيدة النثر، وحتى فيما نشرتِ للتأصيل لها نجد أسطراً تدافع عن الشعرية النثرية؟

لَمْ يَكُنْ هذا الاشتغال أو بالأحرى التامُّل الرؤيوي لأجل الدفاع عَنْ قصيدة النثر، وما كنتُ يوماً مِنْ مُحبِّي المعارك لآخذ دور المدافع أو المهاجم بالجدل الماقت حولَ قصيدة النثر/ بمقارنتٍها مَعَ الشِّعر الموزون.

مُجرد أراني أكتب رؤى وتصوُّرات عَنْ قصيدة النثر أو ما أتمناهُ مِنْ قصيدة النثر فنياً، مِنْ منظوري الإبداعي المتواضع ليسَ إلَّا..وأغلب المقالات التي أكتبُها تنضوي تحتَ شؤون قصيدة النثر ومُوجَّهَة بالدرجة الأولى لمعتنقي قصيدة النثر، لنتفكَّرَ معاً بصورة متواضعة، بِبَلْوَرَةِ معاييرها للأجدى والأجمل.

لكن تلكَ المقالات تستفزُّ مُعتنقي الشِّعر الموزون حتَّى لو موضوعها خالص/ خاص بشؤون قصيدة النثر ولا تجيء على ذكرِ الشِّعر الموزون بأيَّةِ رؤية غير طيبة. فشخصياً أؤمنُ بالشِّعر الموزون وأحبُّهُ / أتذوَّقُهُ بحاسةٍ نيرة ومُستأنسِة معاً، حيثُ جاءتْ بداية وجداني الإبداعي بهِ قبلَ اِعتناق قصيدة النثر (القصيدة المُجنَّحة) وفقَ تسميتي المتواضعة لها.

سؤال مستهلَك نطرحه لمزيد استهلاك، قصيدة النثر إلى أين؟ وفي تقديركِ ما السر وراء الجدل البيزنطي القائم على شرف قصيدة النثر منذ ولادتها، أو هجرتها، إلى الوطن العربي؟

قصيدة النثر الحـقَّـة/ الحاذقة مِنْ أكسير الإبداع وإلى السرمديَّة الإبداعيَّة..وذاك الجدل البيزنطي على حدِّ تعبيرِكَ المُؤنس أراقَ الكثير مِنْ المقالات الضارية أكثر مِنْ تعداد المعتنقين لقصيدة النثر الحقيقيَّة. وآنياً لا يروقني حتَّى أنْ أتفكَّرَ بِـ (سرِّ) هذا الجدل وأسبابهِ لأنَّها بحدِّ ذاتها هُلامية وتنزلقُ على زجاجِ (النسبيَّة) تاريخياً وأيديولوجياً.

جميع شعراء النثر، أو ناثري الشعر، متهمون بمحاولة هدم الموروث الشعري العربي. إن صرفنا النظر عن التحقق من صحة الادعاء ابتداءً. بماذا يمكن لجوانا أن تؤشر في حاشية الموروث الشعري؟

أحاولُ مِنْ خلال شِعْرِي أو مَقَالي المتواضعيْن/ المُعتنقيْن لقصيدة النثر وبرؤى مُنصِفة ومرنة معاً.. أنْ أؤشِّرَ لكارهي قصيدة النثر بمُساورة الحقيقي/ الحاذق مِنْها، ولو على مستوى التذوُّق بغضِّ النظر عَنْ محاولةِ كتابتِها. وقبلها أُحاولُ أنْ أُساهم برؤى متواضعة قد تُساعد بِبَلْوَرَةِ معايير قصيدة النثر (الحقيقيَّة) للأنفع فنياً وذوقياً.

بين أرض الرافدين وأستراليا، ما تأثير الهجرة في وجدان الشاعر، وإن حقَّبنا أشعار جوانا حسب الجغرافيا فهل نجد تأثراً واضحاً في خطها الشعري؟

قد تُصابُ وجدانيَّة الشاعر بالخَرَس، بالفترة الأولى مِنْ وصولهِ إلى بلد الاغتراب، وهذا ما حَدَثَ معي.. إذْ لَمْ أقوَ على كتابة الشِّعر بقصيدة مُتكاملة على مرِّ السنوات الثلاث الأولى مِنْ وصولي وأهلي لملبورن/ استراليا.

الجديد/ المجهول/ الغريب/ العصيب/ الصادم/ الصاخب/ المُحزن/ المُخيِّب وعلى كافةِ الأصعدة ببلد الاغتراب وحصراً بالفترة الأولى، كُلُّ هذا يُصيبكَ بالوجوم والاكتئاب على مستوى الذات الإنسانيَّة التامَّة وليسَ فقط إخراس ذاتكَ الشاعرة.

وبشأن تحقيب شِعري المتواضع جغرافياً، وأيُّ أثرٍ لحقبةِ استراليا عليهِ.. ؟!

صدقاً فكَّرتُ مليَّـاً/ مُوجعاً بهذا السؤال وأراني لا أملك الإجابة عليهِ.. لكن أعدكَ أنْ أتفكَّرَ بهِ بساعةٍ مُستقبليَّة هادئة، عندما أُدْرِكُ أكثر ماهية الزمن واختلافه جغرافياً حسب توقيت الشِّعر.

كتبتِ عن الموسيقى الداخلية للنثر معتبرة أنها ليست شرطاً لقصيدة النثر، ومع ذلك امتازتْ أشعاركِ بموسيقى طاغية تنم عن عبقرية شعرية لا تخفى. لذا نتساءل في خصوص إشارتكِ النقدية آنفة الذكر، لماذا انضممتِ إلى طائفة النقَّاد الذين لم يضعوا الموسيقى ضمن معايير النثر وجوباً؟

لا أرى الموسيقى (طاغية) بقصائدي النثرية، بَلْ هو كما يسمونهُ (إيقاع داخلي) قد ينأى أو يبين حسب موضوع القصيدة أولاً ووطأة تراكيبها اللغوية والاستعاريَّة ثانياً.

أجل حتَّى لو أعمل بنصِّي على تخليق (الإيقاع الداخلي) مِنْ وجهة نظري الفنية/ اللغوية ليسَ إلا.. لكن هذا لا يمنع أن أراهُ معياراً هلامياً ويأتي جوازاً وليس وجوباً بمعايير قصيدة النثر. هو برأيي المتواضع مفهوم مائع أقرب للتنظير النقدي مِنْهُ للتطبيق الإبداعي.

ولأنَّهُ عندما ننقد/ نُنَظّر بلونٍ أدبيٍّ مُعيِّن، لا يجب أنْ نأخذ إبداعنا الشخصي بهِ كعينة واحدة/ واعدة.. بَلْ يجب أنْ نستبطن أكبر عدد ممكن مِنْ التجارب الإبداعيَّة لهذا اللون الأدبي وعلى أجيال متباعدة. وأعتقد المتعارف/ المتداول فنياً على مرِّ عُمْرِ قصيدة النثر العربية لا يبرز (الإيقاع الداخلي) كمعيار شاغل وشائع بقصيدة النثر.

متى سوف تنتهي المعارك مع جيوش الذبِّ عن تراث الفراهيدي، وبتعبير آخر متى سيمضي شعراء النثر في خط المدرسة الحداثية التي اختاروها غير آبهين بإماطة الاعتراضات عن طريقهم؟

طريقُ معتنقي قصيدة النثر محفوفٌ بأدغالِ هذا التنظير المُثبِّط، وبعضهم يحاولُ أنْ يقتلِعَها بيدهِ الغضَّة فيجرح باطن كفِّهِ، وبعضهم يدوسها بأقدامهِ الحافية/ السميكة ولا تسبِّبُ أيَ خدشٍ بكاحلهِ..

وتلكَ (المعارك) على حدِّ تعبيركَ الضاري، كانتْ وستبقى مَعَ دوام الذوائق الكلاسيكيَّة والمُتطرِّفة معاً. وأعتقد لا ضير بها، شخصياً أستأنسُ –عَنْ بُعد– بها، وأقصد مطالعة تلك (المعارك) بصورة صامتة/ نائية، أحياناً تحثُّنِي للأفضل على مستوى التنظير والتجريب بطبقات سماء قصيدة النثر.

تقدِّم لكِ جريدة «مجلة الثقافة» الشكر والتقدير لهذه المساحة الأنيقة بكِ وبرؤاكِ.. وهذه مساحة حرة بحجم السماء لجوانا فلكِ حق التحليق، ماذا تقولين ختاماً؟

أُحبكُم / أُحبكُنَّ بِعُمْقِ الذي جَمَعَنا.. هذا الشِّعرُ ما أجلَّه وأجمله!

وعلى اختلافِ نوع وبناء هذا الشِّعر..

:

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى