غربة الغريبة (قصة قصيرة)

شوقية عروق منصور | القدس – فلسطين

ما أن وطأت أقدامنا تراب القرية حتى بكينا ، أبي وأمي وأنا، فوجئت بوجود الأقارب من أعمام وأخوال، عائلة كبيرة تحيط بنا، كنت أعتقد أنني من عائلة صغيرة لا تتعدى عدة أنفار ، وإذ بي داخل عائلة كبيرة جداً ، ضحك والدي وقال لي:

–  شايفة عندك عزوة ..!

هناك في المخيم حيث تربيت كنت أعرف أين تقع قريتنا على الخريطة، أشير دائماً بأصبعي على الخريطة المطرزة بعناية ودقة الخيوط الملونة المتشابكة ، وأصرخ – هون قريتنا .. ! ولكن حين زرتها طردت الخريطة المعلقة وتمسكت بالواقع المحاط بالابتسامات والترحيب والدموع والاشتياق النازف من الاحتضان.. أتذكر كم عايرونا باللجوء!! وبأننا مجرد لاجئين مقطوعين من شجرة لا سقف ولا قاع ، تعالوا شوفوا الجذور والاغصان وتربة الوطن  ..!!

شعرت لأول مرة في الدلال وما معنى الانسان المدلل والمنعم، عدا عن الاستضافة والعزايم والموائد العامرة والسفر الى الاماكن السياحية، وعشرات الأذرع التي تشدني، تريد احتضاني وتلبية طلباتي وتحريري من الخجل .

كنت مبهورة بشلالات الحب المتدفقة، حيث لم افكر يوماً بأن هناك حب بهذا الشكل العفوي النابع من قرابة مقطوعة منذ سنوات طويلة ، اذ لحظات الحب في المخيم كانت ترفاً والقلائل يحصلون عليها، حيث الحياة سريعة ولا يوجد الوقت للاحتضان وفرش المشاعر كي تدفىء الزمن البارد.

عوضت سنوات الجفاف التي عشتها، لكن كان في الخفاء التعويض يراقب تحركاتي ولفتاتي ويدرس خطواتي ويقيس انوثتي على حساب مقاسه، أبن عمي يراقبني.. تقدمت والدته الى أمي مباشرة وقالت لها :

– أبني أُعجب في بنتك بدو يتزوجها ..!

أبي بارك لعمي  قبل أن يسألني وأضاف :

– أنا كنت خايف بنتي تتزوج غريب .. !! الآن أنا بموت وأنا  مطمئن .. !! هون في الوطن شيء مني ..! قبل رجوع والدي الى المخيم همس في أذني :

–  يابا أنا لي حصة في الأرض مع اعمامك .. لازم تحصليها ..!

***

أزحت الستارة عن النافذة بعد أن سمعت صوت هدير السيارة، رأيت زوجي يقف مع والده، انتظرت حتى جاء الى البيت .. ماذا فعلتم ..؟

لم يجبني.. منذ طالبت بأرض والدي وجدت الوجوه اختلفت، والمعاملة تغيرت حتى زوجي أبن عمي لم يعد يعيرني أي اهتمام.. رجعت البنت الغريبة ، لا أحد يزورني ، سمعت عمتي تقول :

– جاي تَقسم ورث … !!

وبدأ الصراع .. عمي – والد زوجي – أصر أن والدي لا حصة له في الأرض ..!! وافق على كلامه باقي أعمامي وعماتي .. وهددني زوجي اذا فتحت موضوع الأرض سيقوم بتطليقي وسيرميني على الحدود حتى تأكلني الذئاب .

والدي يتصل بي ويطلب مني أن لا أتنازل عن حصته، وعلي الضغط على اعمامي كي يبيعوا حصته ويرسلوا له ثمنها، علي أن أكون محاميته هنا ، وزوجي يقول لي لا تتصلي بوالدك والا طلقتك ..!

***

رجعت وسألته ماذا فعلتم ..؟

المحامي اكد ان عملية البيع والشراء صحيحة ولا مجال للتزييف ، لكن كيف لا يعرفون .. !!

عنادي دفعني للتأكيد على حق والدي في أرض أبيه – جدي –  ولم أتنازل عن المطالبة حتى أصبح الجميع يخافون من صوتي، مطالبتي وصلت لجميع سكان القرية الذين أكدوا أمام أعمامي -اللي خلفوا أبوك الك ولأخوك – فلماذا يأكلون حقه .

***

البارحة   ذهب اعمامي برفقة ابن عمي – زوجي –  إلى دائرة الطابو لكي يحصلوا على وثائق خاصة بالأرض لأن اوراقهم مفقودة ولا يعرفون اين هي !! لكن هناك في دائرة الطابو  أكدوا لهم أن الأرض قد بيعت منذ زمن، وأن الأب قد باعها وقبض ثمنها من احد اليهود الذين يقطنون في الخارج  وقد قام اليهودي بتلبية طلب الوالد بأن يبقى يفلحها و يزرعها وعندما يحتاجها اليهودي سيستردها .

لم يعرف اعمامي كيف باع والدهم الأرض دون علمهم ودون ان يقول لهم شيئاً عن عملية البيع ، لكن الأم – جدتي  – تعرف قصة البيع فقد قالت :

 أن زوجها باع الأرض وأرسل ثمنها للأبن اللاجىء في المخيم – والدي –  الذي أراد أن  يتزوج  امرأة من عائلة معروفة وذات نفوذ من خارج المخيم ، ووعد أبيه بحال زواجه أن يرجع له المال لكي يشترى الارض او يشتري بدلها ..!!

اقتنع جدي بزواج أبنه مرة ثانية، لعل هذه المرأة التي تعيش خارج المخيم تنقذه من فقره، ارسل جدي المال مع احد الرجال المهربين  بالسر دون ان يعرف أحد .

شعرت ان والدها غرز الخنجر في غربتها وتركها معلقة في مشنقة الانتقام ، جميعهم ينظرون اليها الآن بنفور ، كأن مجيئها هدم ما كان يخططون له وبعثر فكرة الارث بعد أن أكل الأبن الغائب – والدها –  حصتهم، لكن الذي جعلها تفك حبل المشنقة وتسعى الى الهاتف بسرعة والدتها …عليها أن تعلمها بزواج زوجها – ابيها – ، السر الذي لم يبح به والدها أمامهم، ولم تشك والدتها يوماً بخيانته، خاصة انه لم يخرج من المخيم ، كان مصراً أن يبقى داخل المخيم ليل نهار ، ويسعى دائماً للدفاع عنه ويعمل على أن يبقى رمزاً لمحطة العودة ..!!

متى تزوج ..؟؟ شعرت أن الدنيا تدور بها ، والدها لم يخدع أمها فقط، بل خدع الجميع كل هذه السنوات، هي التي آمنت بأنه المخلص للوالدة ، يعشقها ولا يقبل غضبها، ها هو يسقطها في بئر الخيانة ، وعليها أن تسبح وتسعى للخروج من البئر أو الغرق .

 أخذت تستحضر وجه والدها صاحب التقاسيم الهادئة، كيف استطاع خداعهم، ثم من تكون زوجته المجهولة التي دفع مهرها من بيع الأرض…!!

 وشعرت أن الغربة كالثلج المتراكم فوق وجه أبيها .. إنها لا تعرفه ..!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى