قبل أن يأتي الغرباء في اليوم السابع

القدس | خاص

ناقشت ندوة اليوم السابع المقدسية الثقافيّة الأسبوعية عبر تقنية “زوم” رواية “قبل أن يأتي الغرباء” للأديب المقدسي عبدالله دعيس، تقع الرواية الصادرة نهاية العام 2020 عن مكتبة كل شيء في حيفا، ويحمل غلافها الأول لوحة للفنان التشكيلي محمد نصرالله في 270 صفحة من الحجم المتوسط.

افتتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السمان وقالت: رواية واقعية مغموسة بالخيال جرت أحداثها بين عامي 1775-1810على الساحة العربية  التي كانت محط اطماع الغزاة.

قبل أن يأتي الغرباء هي الرواية الرابعة للروائي عبد الله دعيس.. رواية كتبها من روح التاريخ.. أهداها إلى شهداء القدس الذين أناروا سماء المدينة مدى عصورها ودهورها.. وإلى روح الشهيد إياد الحلاق الذي سقط عند بوابات الأقصى المبارك بوابل من رصاص الغرباء الذين لم ترق لهم خطواته البريئة كل صباح إلى قلب المدينة التي أحبّها.

تدور أحداث الرواية على مدار أكثر من عقدين من الزمن في الفترة التي كان الصراع في أوجه بين الدولتين الإستعماريتين بريطانيا وفرنسا للسيطرة على بلاد الشام.

يقوم ملك بريطانيا جورج الثالث بتكليف السير أرنولد ديزرائيلي لاستكشاف المنطقة العربية وتحديدا الأراضي المقدسة، وقد كان الأنسب لهذه المهمة، إذ تم اختياره لأنه كان يتقن اللغة العربية والتركية.. ولأن دراسته كانت في علوم الشرق الأوسط وحضاراته وتاريخه، ولأنه كان مطلعا على جغرافية المنطقة. فادعى أنه مسلم عربي من حلب، وأنّ اسمه الشيخ ابراهم الحلبي، وتقرّب من أهالي المنطقة لاستكشافها لينقل التفاصيل لبلده، لغايات السيطرة على المنطقة العربية.

أرنولد كان مسيحيا من أصل يهودي.. فقد اعتنق والده المسيحية عندما كان أرنولد في سن الثانية عشرة.. وقد تم نزعه من مدرسة دينية إلى أخرى.. ليتسبب هذا له بالصراع الداخلي .. وزاد من حجم التيه والضياع داخله.

 أعجبني وصف الكاتب للصراع النفسي الذي كان يعيشه أرنولد.. وربط ذلك بالطفولة والظروف الصعبة التي عاشها والتي دفعت به الى امتهان الرحيل والاستكشاف.. لتجعل منه دائم السفر يهرب من الاستقرار.

ويلتقي بمريم الكسوانية الجميلة (أخت الرجال) التي ظلمها جمالها.. وكانت شؤما على العائلة والحمولة بعد أن دفنت أزواجها الثلاثة في ظروف مختلفة.

مريم أسرت قلب الشيخ ابراهيم الحلبي وانتهى الموضوع بزواجهما.صنعت مريم له الحكايات.. وقادته في دروب البلاد. وما شجعه أكثر على الارتباط بها اعتقاده بأنها عاقر لا تنجب، كما أنها على استعداد أن ترافقه في حياته غير المستقرة.. دائمة الترحال.

ويكتب الله لهما أن يرزقا بابنة أسمياها سارة.. فلجآ إلى قرية بيت السقاية حيث وضعت طفلتها هناك.. ولكن طبيعة  الأب لا تحتمل الاستقرار.. فغادر بيت السقاية ليكمل تجواله.. ومن ثم تبعته مريم وتركت رضيعتها في حضن الجدة أم البلد والدة شيخ البلدة.

ولكن القتال والنزاع بين قبيلتي القيسية واليمنية  يتسبب بدمار بيت السقاية وقتل رجالها وتشريد نسائها..  فيشكل لعنة على الإبنة سارة الفتاة الجميلة التي تعاني الأمرّين. وتخوض رحلة البحث عن أبويها، إلى أن ينتهي بها الأمر في مدينة القدس، حيث تحتضنها هناك عائلة أبو السعود المقدسية، وتزوجها من شاب تونسي.. ولكن اللعنة لا زالت تلاحقها حتى بعد زواجها، إلا أن قوتها التي ورثتها عن أمها مريم تمدها بالإصرار والثبات.. وفي النهاية يكون لقاؤها مع أبويها في القدس. فقد كان حل المعضلة في المدينة المقدسة. وهنا أرى أن الكاتب لم ينه الرواية في القدس صدفة ولا عبثا.. بل قصد  ذلك.. إذ أن الصراع في منطقة الشرق الأوسط لن ينتهي ولن يتحقق السلام سوى باستقرار القدس.

كما أن الكاتب غلّب الضمير على الواجب.. فقد عاش السير أرنولد الذي عرف بالشيخ ابراهيم الحلبي في بلاد الشام، وأحبّ أهلها، وأدرك أنهم ضحية مؤامرة تسعى الى السيطرة على خيرات بلادهم، فلم يسلّم الوثائق والمعلومات التي تخدم الأهداف الاحتلالية إلى أسياده في بريطانيا، وقرر أن يغلّب ضميره، فرمى وراء ظهره مهمة تكليفه من الملك جورج الثالث، وعاش مع زوجته المناضلة مريم وابنتهما في القدس، على أمل أن يجدا فيها سعادتهم كأسرة اشتاقت أن يلتم شملها، وليعيشوا حياة مستقرة لأول مرة في حياتهم.

رواية جمعت التاريخ وقدمته على صورة لوحة متكاملة امتزجت فيها الألوان بنكهة أدبية.. ولغة أصيلة جميلة.. وأحداث شيقة زينتها بخيال محبب. ملحمة أدبية تشكل إضافة إلى المكتبة العربية.

وقال نمر القدومي:
كيف للدموع أن ترأب صدع النفس وتمدّ قشّة النجاة لقارب تتقاذفه أعتى الأمواج؟ ألا تنضب هذه العين التي تجود بتلك الأنهار المنهمرة على الوجنات؟ ما نفع الدمع إن كان لا يبرّد حرّ الهموم ولا يفتح فرجة أخرى ونافذة نحو الحياة؟ أرى الأبواب موصدة وأقفالها صدأت، تطاردني أشباح الألم. لماذا أنا؟ “

هذه الملحمة جسرت الماضي بالحاضر، وعاد بنا الكاتب إلى العام ١٧٧٥ الميلادية حيث المكان ( فلسطين)؛ ليضع نصب أعيننا بعضًا من التاريخ القاسي التي عاشته هذه الأرض تحت وطأة الغزاة الغرباء، وكذلك تحت ويل الحروب الداخلية بين اليمنيين والقيسيين. وأيضًا النزاعات بين أعراب القبائل وقُطّاع الطرق. 

(آرنولد ديزرائيلي) الجاسوس الإنچليزي المُتخفي والملقب بالشيخ ( إبراهيم الحلبي) هو مدار الأحداث. تزوج من فتاة فلسطينية ( مريم الكسوانية ) وخلَّف منها ( سارة ) ليبدأ ذلك الصراع بين الضمير والسياسة القذرة. هذا الإنچليزي المبعوث من قِبل ملك بريطانيا في مهمة سرية أتقن خلالها اللغة العربية والصلاة وإعطاء الدروس الدينية، وضع العمامة وارتدى العباءة وراح يتجول في ربوع فلسطين. يدوِّن كل صغيرة وكبيرة لصالح إمبراطوريته.

 قسَّم الكاتب هذه الرواية إلى أبواب مُعَنونة تُسيطر على مجريات تلك المِلحمة التاريخية التي عاشها شعبنا في الماضي. وفي كل باب يتوقف عند اللحظات الحاسمة والمشوّقة، ويتابع تنقله فيما بين الأماكن والأزمنة، وبين التاريخ والشخوص المتوافدة تباعا عبر صفحاتها، فخرج إلينا برواية إجتماعية سياسية تاريخية مُشَبعة بأدب الرحلات. نلمس فيها الموسيقى الدرامية تارة، ونسمات من الفرح تنعش القلوب تارة أخرى.

نجد في الرواية أسلوب ( المونولوج ) حديث النفس هو الغالب، وقد حازت”سارة” على نصيب الأسد لما عانته من ضياع أبيها وأمها اللذين تركاها طفلة وحيدة تائهة بين وحوش هذا الوطن.

هي الحقيقة النكراء التي دائمًا تُطل علينا عبر حقبات تاريخنا، ولتتجلى بوضوح في هذه الملحمة حين يطغى الجهل. فلم يكن شعبنا آنذاك مستعدا لبدء حياة جديدة بعد كل هزيمة. لم يبخل أديبنا بإنتقاء الكلمات ذات المغزى المباشر، والتي تحمل في معانيها كل القوة المطلوبة للحدث. كذلك أكثر من المحسنات البديعية، فاستحوذ على عواطفنا بكلماته الجزلة الجميلة والبليغة، التي تُحاكي الأرواح عِبقًا ودلالة. فقد توالت الحبكات في هذه الرواية وامتد عنصر التشويق حتى وصل ذروته في معظم الأحداث.

وضع الكاتب “دعيس” جلَّ قدراته المتميّزة في رسم أجمل الصور الفنيّة على الإطلاق، وحبس الأنفاس التي طالت كل صفحات الرواية؛ البحث عن المفقود، المصير المحتوم، الإختفاء، رسائل غامضة، صراع ضمير، الفرح، الكآبة، الحزن، الدموع، وكان الموت هو سيد المواقف في هذا الوطن الجريح، الذي يرضخ تحت سطوة الحروب من أجل الإستبداد وفرض الهيمنة بقوة السلاح والأتوات والبلطجة.

أبدع كاتبنا في هذه الرواية بوصفه الدقيق لخلجات القلب والمشاعر الجياشة، التي تسكن دواخل الشخصيات بإسهابٍ وعمقٍ ورزانة وإنتقاء متميّز. وكانت الرواية باللغة الفصحى التي نالت الكثير من دموعنا، إمّا حسرة أو فرحا، لينتهي لقاء التائهين في موقف إنساني لا يمكن وصفه، ويضحي ذلك الزوج الإنچليزي بإمبراطوريته مقابل ذلك الجمال والأصالة والكرم العربي، التي أثرت عليه كليًا خلال سنين تواجده السبع في فلسطين وأيقظت ضميره، فيدفن كل أسراره ووثائقه وخرائطه في قبرٍ مجهول في مكانٍ ما لا تطاله أيدي الأعداء.

وقامت سهير زلوم بتحليل لوحة الغلاف فقالت:

الغلاف الذي يحمل لوحة للفنان التشكيلي محمد نصر الله يطغى عليه اللون الأزرق، وهذا اللون يعبّر عن الذكريات الأليمة، وهو ينطبق على ما مرّ بالشّخصيات الرئيسية في الرّواية، مريم وسارة.

الصورة على لوحة الغلاف لامرأة مغمور ثلاثة أربعاها في الرّمال، والمرأة ترمز إلى الوطن، وانغماسها في الرّمال يرمز إلى التّجذر في الوطن والتّشبث به، رغم وجود البحر الذي يأتي بالغرباء، ويحمل أبناء الوطن إلى المنفى والإبعاد. أمّا قبّة الصّخرة فهي مغروسة في الأرض تماما كالمرأة، فالقدس أصيلة كما المرأة، وهي هنا رغم كيد الغرباء.

أمّا البحر في اللوحة فهو هادئ، وتعلوه سحابة سوداء غريبة في وجودها، حيث أنّ السّحابة ممطرة على بحر هادئ! وربما تكون مجرّد مظلّة سوداء على بحر هادئ؛ فالبحر يأتي بالخير وهو مهوى الأفئدة، لكنّه في الوقت ذاته يأتي بالغزاة.

والشّاطئ في صورة الغلاف غامض غموض شخصيّة آرنولد المستشرق الحائر الذي هو مسيحي تارة وتارة أخرى يهوديّ أو شيخ حلبيّ.

وقالت هدى عثمان أبو غوش:

روايّة قبل أن يأتي الغرباء،هي بدايّة لشعلة احتراق جسد الشّرق الشّهي،والنّيل من قبلات وجهه عنوة، في سنوات ما بين ال1775و1810 التّي شهدت طمع وغزوّ الغرب،حملة نابليون في بلاد الشّام وهزيمته في عكّا،بأُسلوب جميل مرصّع بالبلاغة والخيال،وبلغة شفافة فيها تتدّفق العاطفة كنهر بين الشّخصيّات النسويّة على وجه الخصوص،كشخصيّة مريم الكسوانيّة وابنتها سارة.

هي روايّة الوجع والحزن والفقد، والحنين الماطر بالبحث والعذاب،وأسئلة مضطربة وقلقة تواجه شخصيّات الرّوايّة المتصارعة، يرسمها الرّوائي المقدسيّ عبدالله دعيس فوق الأوراق كرسائل وحكايات ولوحات فيها عبق التّاريخ من نافذة الشّرق.

حكايّة شخصيّة البريطاني أرنولد ديزرائيلي الّذي يتخفى في شخصيّة الشّيخ ابراهيم الحلبي،التّي اختلقها كيّ يمارس جاسوسيته لمصلحة بلده بريطانيا ، من خلال جولة بحريّة طويلة في ملامح تاريخ الشّرق المتعب الذّي يحمل الصراعات القبليّة فوق كتفيّه،صور الحصار والدّماء.نسمع صوت الجهل عدّة مرّات والعادات التّي تتعلّق بنذر زواج الفتاة لأحد أبناء عمومتهاوأثر ذلك على سيرورة الأحداث،وبرأيي أراد الرّوائي القول هنا، أنّ العقل العربي ما زال يمارس طقوس الجهل والعصبيّة حتّى يومنا هذا فإلى متّى سنستفيق؟

ويأخذنا الرّوائي إلى جولة ترحال بحريّة فيها ينتصر لبساطة الشّرق وطيبته من خلال أرنولد الّذي يقارن بين الشّرق الدافئء والغرب البارد،أمّا المدن والعواصم العربية فكانت حاضرة في حضرة الغزوّ وفي حضرة وصف جمال وسحر العواصم العربية كتونس والإسكندريّة وغيرهاوالمدن الفلسطينيّة كغزّة ويافا وعكّا والقدس.

أحسن الرّوائي في صقل شخصتيّ مريم وسارة،اللّتان تتمتعان بالجمال الباهر،الإرادة،الصبر وشغف المعرفة والتّعلّم،الذكاء،وكانتا بطلتا الرّوايّة فأخذتا حيزا كبيرا في أحداثها،حملتا الصراع النفسي والعاطفي،فسارة في بحثها الجارف عن أهلها، ترمز إلى الهويّة الضائعة والوطن المصلوب بالجراح ،وفي كشف مفاتيح لغز أبيها أرنولد اليهودي الأصل، تتجلى رمزيّة معاناة الشّرق المغتصب من قبل الغرب.

ومريم هي الفارسة الشّجاعة والصبورة، هي ترمز للوفاء للوطن،وأيضا للوطن المعذّب بسبب جماله وثرواته، هي تحب الترحال،ضحية سوء الحظّ كلّما اقترب منها أحد للزواج مات! ومن اللافت في الرّوايّة أنّ أرنولد لم يمت بزواجه من مريم كي تبدأ خيوط أحداث الروايّة، أرى من هنا، لم يكن قبول مريم للزواج من أرنولد منطقيّا خاصّة أنّها عرفت من خلال ذكائها أنّه مخادع،ولكن الروائي تعمّد ذلك لأجل سيرورة أحداث الرّوايّة.

روايّة ممتعة ومشّوقة، رغم زخم الشخصيّات التّاريخيّة الثانويّة الكثيرة،لكن الرّوائي شدّنا بأُسلوب سرده الجميل لمتابعة الأحداث.

وقالت نزهة أبو غوش:

رواية تحمل أحداثا تاريخيّة ما بين أعوام 1775-1810م . رواها الكاتب بنفس روائي طويل واضعا بصماته الأدبيّة والفنيّة مطعّمة بالخيال والعاطفة ورؤيته الفلسفيّة في الحياة.

“ركبنا البحر من ميناء يافا الّذي عادت اليه الحياة بعد دهور من الحصار والقتل.

أشعر وكأنّ البحر يحملني على كفّيه الواسعتين يقلّبني بينهما بحنوّ، يرفعني إِلى فيه يقبّلني، ينفخ في صدري نسيما…” ص290.

في روايته التاريخيّة أعطى الكاتب عبد الله دعيس أهميّة ورمزا للبحر أخذت مساحة لا بأس بها، وكأنّه أخذ البحر خطّا جغرافيّا يسير عليه من بداية الرّواية حتّى نهايتها.

وصل يافا وتحدّث عن الدمار الّذي لحق بها، وعكا وأسوارها العنيدة، وصل غزّة وتحدّث عن قوّة أهلها وصلابتهم أمام الغزاة. البحر وصل مصر وروى عن الخراب والدّمار الّذي حلّ بها، والاسكندريّة الّتي عربد فيها الغزاة، صالوا وجالوا واغتصبوا وعاثوا بالأرض فسادا. البحر هو الطّريق لوصول السّلطان العثماني إِلى الشّرق وفرض هيمنته عليه. كان البحر وطن المغتربين والمستعمرين الطّامعين في خيرات الشّرق.

البحر استقبل المستعمر الانجليزي، البحر فتح ذراعيه لعزرائيلي الّذي تسلّل إِلى الشّرق ليدرسه ويمهّد قدوم المستعمر البريطاني. البحر نقل جنود المحتلّ وسفنه الحربيّة. البحر نقل الحجاج الى مكّة المكرّمة. البحر أغرق ودحر وزمجر وهاجت أمواجه، تعبيرا عن نفسيّة الشخصيّة الروائيّة. البحر هدأ وهبّت نسائمه الرّقيقة النّاعمة إِلى قلوب المحبّين المسافرين في عبابه هو الّذي حملهم ا إِلى تونس. البحر كان رمزا للإنسانية واللا إِنسانيّة في رواية ” قبل أن يأتي الغرباء.”

لقد استطاع الرّوائي عبدالله دعيس أن يخلق صراعا  بين شخصيّاته المركزيّة؛ مما أثار حفيظة القارئ ودعاه للتّساؤل، والشّك والحيرة؛ حيث أضاف للرّواية عنصر الحركة والتّفاعل وعدم الرّكود.

عاش عزرائيلي صراعا ما بين كونه مبعوثا من بريطانيا العظمى– جاسوسا –  وبين كونه عاش في أحضان الشّرق ومساجده وقراه ومدنه، عاش حلوه ومرّه. تزوّج امرأة أحبّها وخلّف منها طفلة، هي بؤبؤ عينه. جاء يبحث عن أسرار بلاد الشّام ممهّدا لاستعمار جديد فيها. هل يكون أهلا لهذه المسؤوليّة؛ أم يعيش حياته الجديدة الّتي أحبّها مع طفلته وزوجته؟ صراعه الدّاخليّ كان صراعا دينيّا، حيث لبس ثلاثة أديان في آن واحد: الدّين اليهودي الّذي ورثه، والدّين المسيحي الّذي فرضه عليه والده لمصلحته الشخصيّة، والدّين الاسلامي الّذي تقمّصه وأتقنه كوسيلة؛ من أجل انخراطه في بلاد المسلمين.  كان صراعه مريرا لدرجة أنّه صار مطاردا مشرّدا هاربا من العقاب الانجليزي.

  عاشت سارة صراعا مريرا مع الحياة منذ والدتها. تقلّبت حياتها بعد أن تركها والداها مرغمين؛ بين حياة القرية وما تعيشه من جهالة وتخلّف وتعقيدات اجتماعيّة؛ وبين المدينة بكلّ حضارتها وتقدّمها وتطوّرها والحياة الاجتماعيّة الّتي تختلف تماما عن سابقتها؟ 

لقد خلقت تلك الحياة ارتباكا نفسيّا عاشته سارة . هل تنتمي لتلك البيئة الاجتماعيّة الّتي عاشتها في حضن اسرة مقدسيّة تعيش في رحاب الأقصى؛ أم تنتمي لذلك الأب المجهول من أصل يهوديّ جاء يسرق البلاد وينهبها؟ هل تستمرّ في حياتها الحاليّة، إِذا كان الجواب نعم؛ فكيف بها تخفي سرّها؟ وهل سيرحمها المجتمع حينها؟ ” كلماته اللطيفة تسعدني، لكنّها تترك ندوبا في قلبي، فهل حقّا أنا هديّة الأرض المقدّسة؟ كيف ذاك ودماء الإِنجليز تسري في دمائي؟”

أمّا مريم الأمّ زوجة  الشّيخ الحلبي الجليل – يزراعيلي- فقد عاشت هي أيضا صراعا في حياتها.  هل تبقى بجانب طفلتها الرّضيع سارة، أم تتنازل عنها؛ من أجل الوطن؟ كان الوطن أثقل في الميزان، فذهبت تصارع الأرض وتنهبها مع الثّوّار تدلّهم على الأماكن الّتي جهلوها؛ من أجل دعمهم لمقاومة المستعمر.

 مريم شخصيّة قويّة  فريدة من نوعها، ترمز للوطن الصّامد أمام العواصف بكلّ جبروتها وعنفوانها، مضحيّة في حياتها وحياة طفلتها؛ من أجل قضيّة عادلة. تعيش حياة الغربة والتّشرّد.

ثمّة سؤال يستفزّ القارئ: هل كانت مريم ستصبح تلك المرأة المتحدّية العنيدة الثّائرة، لو بقيت في بلدها الأصليّ ” بيت اكسا” قضاء القدس، أم كانت ستعيش تلك الحياة البدائيّة البسيطة في كنف أُسرتها؟

هل خلقت منها الغربة إِنسانا جديدا؟ أم هو الوضع الّذي فرضه عليها الأهل والمجتمع؛ حيث زوّجها والدها لأوّل رجل دخل بيته يسكن في قرية نائية قضاء يافا” الحرم ” هروبا من أبناء عمّها المتناحرين عليها.

هذه التساؤلات أقلقت ذهن القارئ ومن الصّعب الاجابة عنها.  أرى بأنّها حالة نفسيّة فريدة، وخاصّة أنّها تزوّجت أربع مرّات ترمّلت من ثلاثة أزواج بعد فترة قصيرة من زواجها، فآمنت بسوء حظّها؛ لذلك عكس عليها هذا الوضع فأصبحت امرأة ثائرة على كلّ المعايير الاجتماعيّة، خاضت ما لم تخضه امرأة مثلها.

عمد الكاتب دعيس أن يجعل من الشخصيّتين امرأتين جميلتين يعجز عن وصفهما من يراهما. أرى بأنّه لا ضرورة لأن تكون المرأة جميلة جدّا من أجل اقناع القارئ بكونها انسانة مميّزة.

شخصيّات الرّواية كانت هي من حملت أعباء الأحداث التّاريخيّة الكثيرة المكثّفة بين الأعوام 1775- 1810م. عبرت الصّحارى والبادية والوديان والبحار منذ بداية الرّواية حتّى نهايتها. أرى بأنّ الروائي قد أثقل على شخصيّاته وحمّلها فوق طاقتها.

استخدم دعيس في سرده الرّوائي عدّة تقنيّات فنيّة: أسلوب الرّسائل، وأسلوب المذكّرات، وأسلوب السرد الرّجوع إِلى الخلف. وأسلوب كون الكاتب العارف بكلّ شيء؛ ثمّ أسلوب التّساؤل؛ حيث أكثر منها الكاتب في حالة الاستنكار والتعجب : ” هل ستشرق شمس جديدة على الانسانيّة تبشّر بسيادة العدل وسطوع نور الحريّة؟” ص 264. هل سكن العالم عن حروبه ودماره لحظة واحدة منذ درج الإنسان على وجه البسيطة؟” ص285.

لغة الكاتب جاءت جزلة رصينة يستسيغها القارئ، إِذ كثرت بها الاستعارات والتشبيهات والصيغ البلاغيّة.

وقالت نزهة الرملاوي:
القدس أمّ البدايات وأمّ النهايات.. تلك الحاضرة التي لن تغيب عن قلم أبنائها البررة.. ضالة التائه في زمن الضياع، وجهة الأوفياء وحاضنة الشهداء وجاذبة الغرباء.. ترى ما المقصود بالغرباء عند الروائي عبد الله دعيس وقد دارت أحداث الرواية في زمن تكاثر فيه الغرباء وتواجدوا بالمكان؟ فهل قصد روسيا التي أعانت ظاهر العمر في حكمه وجاءت لإعانة المنشق على تحقيق مآربه في حكم عكا وطبريا، واستعانته بها لتوطيد حكمه بعيدا عن الدولة العثمانية العلية؟ أو قصد فرنسا التي ساعدت الموارنة في لبنان ام الانجليز الذين دعموا الدروز لزعزعة استقرار الدولة من داخلها وإثارت النعرات والطائفية بين أبنائها؟

أم كان المستشرقون أحد العوامل التي جاءت بغرباء آخرين إلى البلاد، سلبوا الأرض وتحكموا بالعباد؟ 

نحن أمام رواية استقت من المحاور التاريخية والبيئة المكانية بعض أحداثها وقدمت بحبكات متماسكة، فجعلت التاريخ والأماكن قناديل تضيء لنا تحرّكات الأبطال هنا وهناك.. فنراهم بعبق ماض مزج بخيال جامح وإن تجذّر بالواقع.

قبل أن يأتي الغرباء..رواية تستحقّ الثناء والوقوف عليها كرواية استخدمت حقبة زمنية كانت مثارا للنزاعات الاجتماعية والسباسية المتمثلة بظاهر العمر الذي نجح في حكم المنطقة والخروج عن طاعة الدولة العثمانية..في الوقت نفسه كانت تسود فيه العصبية القبلية والولاء لها بغض النظر عن النتائج، وقد سلطت الرواية الضوء على الحركة الاستشراقية وللمستشرقين الذين كان لهم دور كبير في التوطئة للحركة الصهيونية في أواخر القرن الثامن عشر المصاحب لضعف الدولة العثمانية التي كانت تحارب الجبهة الغربية منعا لوصولها للشرق..ولا يخفى على أحد أن الدولة العثمانية كانت الحامية للوطن العربية لمدة أربعمئة عام من التوغل الأوروبي أو عودته إلى الشرق باسم الدين، كالحملات الصليبية التي قادتها أساطيل حربية غربية كبيرة، كانت قد تسابقت إليه وسيطرت عليه في عصور سابقة.

أتحفتنا الرواية فقد تجلّت فيها المعاني السامية والحكيمة من وراء الأحداث الشائقة والكثيرة التي رافقت الرواية كالتسامح الديني والتآخي بين أبناء مدينة القدس المسيحيين والمسلمين.. صور الكاتب الأحداث والأمكنة من زوايا متعدّدة، توضحت للقارئ من خلال تنقلات أبطال الرواية ودقة وصفها واستحضار صور جميلة وتشبيهات بديعة.

كان التناغم واضحا ما بين السرد والايحاءات في الرواية التي برزت من خلال الحوار والسرد ووصف الطبيعة والشخصيات..إضافة لتحرك الشخوص وسماع أصواتهم واتسمت الرواية بأحداث مفاجئة وتحركات شخوصها الواضحة.. لقد حمل الكاتب أبطال الرواية أحمالا ثقيلة غير مقنعة في بعض الأحيان، رغم تنويه الكاتب بأن روايته خيالية واحداثها خيالية، كشخصية مريم وتجوالها وتنقلاتها وتركها لابنتها الرضيعة لتساعد الرجال في القتال وتوجيهاتهم، وفي القرية عندما كانت تركب الخيل وتتنقل بين القرى وحيدة، فلم يكن هذا حال النساء في ذلك الزمن رغم قوتهن. أيضا معرفتها بأن اورلاند الذي تنكر بلباس ديني وشرقي ليس مسلما وبقيت زوجة له.

أبرز الكاتب في دواخل أبطاله صراعات داخلية تجلّت بالألم والفرح والحب والتأزم والعواطف المختلفة، كذلك إبرازه الصراعات الخارجية المتمثلة بالنزاعات القبلية والثأر والهروب والتنقلات والخديعة ونوايا الاستشراق.. فهل أدى اورلاند دوره ومهمته التي ارسل من أجلها بإتقان؟ أم كان الحب أقوى من ذلك؟

هل سارة هي المدينة أم المدينة هي مريم؟ وهل لاختيار الأسماء في الرواية دلالات دينية أو فكرية؟

وقالت رفيقة عثمان: اختار الكاتب حقبة زمنيّة محدودة؛ لسرد أحداث روايته 1775- 1810 م، ونجح في وصف حياة الفلسطينيين الاجتماعيّة، والسياسيّة، في أحداث وأسماء حقيقيّة، مُطعّمة بالخيال الواسع. لدرجة يظن القارئ بأنّه يعيش تلك الفترة، من خلال الزّي للنساء والرّجال؛ لباس النساء للثياب السوداء الطويلة، والبرقع على الرأس والوجه، كذلك الرّجال بارتداء القمباز والعمامة. كما صوّر طريقة الحياة الاجتماعيّة في القرية والمدينة، وكذلك الحياة الدينيّة وأماكن العبادة والطقوس مثل: مقام النبي موسى، وزيارة مقام النبي صموئيل، ومسجد علي.

  تقلّدت دور البطولة امرأة وابنتها، وعلى لسانهما سُردت الأحداث بضمير الأنا، دمج الكاتب أصوات متعدّدة للسرد، بفنيّة متقنة.

احترت عند انتقاء الكاتب لدور البطولة النسويّة؛ والتي حمّلها فوق الطاّقة، بوصف الأم مريم بالمُغامرة، والتجوال في البلاد وهي راكبة الفرس، ومواجهة الصعاب أثناء تجوالها، كذلك الحال بالنسبة لابنتها سارة،  في زمن المحافظة على النساء وعدم إشراكهن بأعمال الرّجال.

هنا تبادرت إلى ذهني تساؤلات عديدة: تُرى هل أراد الكاتب دعيس أن يرمز للمرأة بالوطن فلسطين؟ التي ترزخ تحت الاحتلال والظّلم، وتبقى قويّة مهما تقلّبت عليها الأحداث؟ وهل زواج الأم مريم من رجل غريب -ابراهيم الحلبي – الرجل النصرانيّ الأصل بعد تحوّله من اليهوديّة، فأنجبت منه طفلة جميلة. هذا الحدث غريب وغير قابل للعقل، كيف تجرؤ امرأة من بيت اكسا بالزواج من هذا الغريب والذي كان اسمه “أرنولد ديزرائيلي”؟  وهل تعرّض الابنة سارة لاعتداءات واغتصاب عند زيارتها مصر مع زوجها، إشارة للاعتداءات التي لاقتها فلسطين إبان الحكم العثماني؟

  كانت القدس حاضرة بكل تفاصيلها، الأماكن المقدّسة، الحارات، العقبات، والزوايا، وقرى ضواحي القدس، كذلك أسماء القرى والمدن؛ التي كانت حينها، واليوم قد أصبحت إما مُهجّرة أو مدمّرة، وتحوّلت لأسماء  جديدة أخرى. كما حضرت الأماكن بشكل واضح مثل: بيت اكسا و أبو غوش، الجبعة والذيبة، لفتا والرّملة، يافا وقرية الحرم، عكا، غزّة، جبل الجرمق الخ.

  أبرز الكاتب دعيس ظاهرة التسامح الديني في القدس، وتضامن المسلمين مع المسيحيين في إطفاء الحريق في القيامة، وأبرز ظاهرة التعاون والتآخي بين الأديان وخوفهم على بعض، كما ورد صفحة 349 “رأيت الشّيوخ والأطفال والمسلمين والنصارى وكل من سكن هذه المدينة يهرول الى الكنيسة المشتعلة، ويخوض غمار النّار من أجل إطفائها.”

”  قبل أن يأتي الغرباء” عنوان الرواية، جاء هذا الاختيار، ربّما لأنّ فلسطين كانت مفتوحة على كل البلدان العربية، وتبادل الزّيارات،  والتجارة، وزيارة الحجاز للحج؛ على خلاف  ما عليه اليوم.

  اغتنت الرواية بعنصر التشويق، الذي طغى على أحداث الرّواية كاملة، وذلك من حلال أسلوب السّرد الرّوائي المتسلسل،  والحوار الذّاتي، والحبكات المتعدّدة؛ حيث تجذب القارئ  وتشدّه للنهاية  خلال فترة زمنيّة قصيرة. لقد أضافت اللّغة الجميلة المرصّعة بالمحسّنات البلاغيّة وزادت جمالًا لروح الرّواية وعنصرًا إضافيّا للتشويق. إِن استخدام الرّوائي اللّغة الفصحى، وقلّة استخدامه اللّهجة العاميّة أعطتها قيمة أدبية أكثر.

  كانت العاطفة متأجّجة يسودها الحزن والألم والمعاناة؛ نظرًا للصّراعات والخلافات التي سادت المنطقة خلال تلك الحقبة الزّمنيّة حيث ظهرت هذه العاطفة عند شخصيّة البطلتين، أو عامّة الشعب، وقد قلّت عاطفة الفرح والسّرور، حتّى وإن ظهرت فهي نادرة جدّا، وفقًا لمتطلّبات الأحداث.

  كتب الروائي رسالة باللّغة الإنجلييزيّة بالنص الكامل، لا أرى ضرورة رصد الرسالة باللغة الأجنبيّة، والاكتفاء بنصّها في اللّغة العربيّة.

كما ورد صفحة 239-242. ورد استنكار العنف والقتل كثيرا على لسان بعض الشخصيّات، حيث يدلّ ذلك على مبنى شخصيّة الكاتب التي انعكست في روايته، حيث آمن بعدم استخدام العنف بأيّ شكل من الأشكال.

كان للطبيعة دور هام في انعكاس المشاعر، سواء كانت حزينة أو مفرحة. مثل البحر وهديره، وانكسارات الأمواج، وجريان النهر، والرياح، وانعكاس الشّمس، أمواج البحر الصّاخبة، واخضرار الطبيعة، الجبال والهضاب، والوديان ” البحر راقبت أمواجه الهادرة، التي تتعاقب مسرعة لتنكسر على حافّة الشّاطئ وتختفي وكأنّها لم تكن، صفحة 44″. كذلك ” أما أم البلد ومن بعدها نساء البلدة فتلهج ألسنتهن بالزّغاريد وتتردّد صداها حتّى تردّدها الجبال والوديان”. صفحة 114. ” مكثنا أيّامًا في قرية الحرم، قضيت فيها ساعات طوال على شاطئ البحر أرقب تقلّب أمواجه التي كانت أقل اضطرابًا من خلجات نفسي وعصف أفكاري”. صفحة 230

   إنّ القالب الروائي استند على الحنين للماضي “النوستالجيا”، واختيار الكاتب للحقبة الزّمنيّة المذكورة أعلاه من الزّمن البعيد، تشير إلى لجوء الكاتب لنبش الذّاكرة وسرد أحداث الماضي البعيد باستحضاره في الوقت الحالي، وبما يرافقه من كآبة وألم عند تذكّر المواقف المؤلمة، والتي لا حصر لها في الرواية. مثّلت الرسائل وكتاب مذكّرات السيد إبراهيم الحلبي، مصدرًا غنيًّا لمعرفة حياته الماضية، والأماكن التي زارها وارتباطه بها نفسيّا.

إِن معظم الأحداث في الرّواية تشير بوضوح لاستخدام “النوستالجيا”. كذلك عندما وصف الكاتب مشاعر الشوق والحنين للقدس في نفس مريم، وسارة عندما اغتربتا عن الوطن.

  خلاصة القول: تعتبر رواية “قبل أن يأتي الغرباء” للروائي المقدسي عبد الله دعيس، رواية ذات قيمة عالية، حيث راعت معظم العناصر المطلوبة للرواية؛ وقدّمت تأريخًا هامًّا عن مدينة القدس، في حقبة زمنيّة معيّنة.  لقد حرّك الروائي الشّخصيّات ببراعة في المواقف المختلفة؛ إِنّ تمكّن الكاتب التّاريخي والجغرافي بتلك الحقبة الزمنيّة قد ساهم في إنجاح الرواية.

وقالت خولة سالم:

تتناول الرواية فترة من تاريخ الشعب الفلسطيني في نهاية الحكم العثماني وقبل الاحتلال الإسرائيلي ، الفترة التي طالما اهملت في الكتابة والتوثيق الا القليل فتقع احداثها ما بين 1775- 1810 ، وتصف فترة الصراع بين بريطانيا وفرنسا للهيمنة على الشرق بما فيها فلسطين ، يركز الكاتب على الصراعات بين القبائل العربية التي تقطن فلسطين وصراع الكلأ والماء في ظل ضعف الدولة العثمانية ، بحيث يعاني الشعب معاناة جسيمة بين تيارين بارزين هما ضغط الضرائب للدولة التي تضعف شيئا فشيا ورجالها الذين يستغلون اسمها لجني اكثر مما يجب ومعاناة الناس من جراء الضرائب الباهظة ، وهجمات العشائر المتطاحنة بهدف فرض السيطرة والنزاعات القبلية وبين الفينة والأخرى يهاجم الطرفين الغزاة البريطانيين والفرنسيين كل حسب أذرعه لفرض سيطرته .

بطل الرواية جندي بريطاني يدعى ارنولد يكلف بدراسة وضع فلسطين في نهاية حكم الاتراك ودراسة تفاصيل البلاد واالمشحنات بين القبائل ليتم استغلالها في الدخول للبلاد والسيطرة عليها من قبل بريطانيا بحث تتسابق فرنسا في السيطرة على البلاد والعباد ، يحاول ارنولد جاهدا ان يكون وفيا لبلاده واجندتها وفي ذات الوقت يعيش قناعاته التي تعشق الشرق وترفض أن يتمزق بكل سحره وجماله لاجل دولة لا تعرف عن جمال الشرق وسحره شيئا وكانه يعيش ازواجية في شخصيته وقناعاته 

ياتي فلسطين منتحلا شخصية شيخ عربي يدعى “إبراهيم الحليبي” ويتزوج من خيرة نساء فلسطين فتاة حرة اصيلة تدعى “مريم الكسوانية ” ينجب منها بطلة الرواية سارة ، والتي تخوض صراعات عاطفية كبيرة جدا تتنقل فيها بين قرى القدس تتنقل من عائلة لاخرى تربيها مقدسيات مسلمات بعد اختفاء والدها ووالدتها بحكم صراعات العشائر ونزاعاتها ، فتعيش الضياع ، تمضي الاحداث تبحث عن والديها واصلها ومن أتى بها الى هذا العالم لتتجرع الاسى مرة تلو مرة تتزوج تونسي مقيم في القدس وتحاول جاهدة الاستقرار ونسيان الماضي دون جدوى فكيف لها ان تكون من اب يهودي بريطاني وتتزوج مسلما وتعيش في بيئة مسلمة وتصبح في النهاية من القلة الحاصلين على إجازة في المذهب الشافعي وتبدع في تدريس المذهب لرواد حلقات الدرس في القدس والمسجد الأقصى شخصية متطورة متغيرة تتفاعل والاحداث بطريقة أقرب للخيال.

الرواية أقرب ما تكون في تفاصيلها وصفا لواقع تلك الفترة وتناقضاتها وما افرزته من صراعات وتجاذبات رغم ما ذكره الكاتب أنها خيالية  ، فتشدك حتى النهاية دون ان تفكر لحظة في تركها ، فالكاتب له أسلوبه في شد القاريء بعناية فهو يتحدث بلغة سلسة ، جذلة لا تعقيد فيها ، تسرد واقعا بمنطق الخبير بالعشائر وقادتها وتناقناضها وأسباب تناحرها ، كاني به عاصر شيوخ القبائل وسمع منهم الكثير مما دفعه للكتابة والتوثيق .

الرواية بتفاصيلها توثيق لواقع وان كانت شخصياتها خيالية ، الا أن الخيال فيها يخدم الفكرة الرئيسية وهي فكرة التعايش بين الأديان فيها ومواجهة المحتل الغاصب  بغض النظر كونه فرنسيا او بريطانيا وان البلاد عصية على الغرباء مهما طال بهم المكوث فيها .

تساؤلات : 

  1. قليلون جدا من كتبوا روايات في فترة نهاية الحكم العثماني وهذه نقطة تحسب للكاتب ،  وربما اكثر كاتب ابدع في هذا السياق الأستاذ إبراهيم نصر الله في سلسلة الملهاة ، فهل هناك تقاطع بين ظروف كتابة الرواية وظروف كتابة “قناديل ملك الجليل ” للأستاذ إبراهيم ؟
  2. هل الكاتب في شخصية ارنولد حاول ابراز شخصية هيرتزل وظروف إخراجه من المعبد اليهودي ليصنع منه شخصية تخدم هدف احتلالي احلالي ؟ خاصة وان زمن الرواية يتقاطع وفترة ظهور فكرة الصهيونية ؟ الا ان النهاية شاء لها الكاتب ان تكتمل في شخصية سارة وبشكل مختلف .
  3. شخصية سارة التي تخوض صراعات عاطفية كبيرة جدا تتنقل فيها بين قرى القدس تتنقل من عائلة لاخرى تربيها مقدسيات مسلمات بعد اختفاء والدها ووالدتها بحكم صراعات العشائر ونزاعاتها ، فتعيش الضياع ، تمضي الاحداث تبحث عن والديها واصلها ومن أتى بها الى هذا العالم لتتجرع الاسى مرة تلو مرة تتزوج تونسي مقيم في القدس وتحاول جاهدة الاستقرار ونسيان الماضي دون جدوى فكيف لها ان تكون من اب يهودي بريطاني وتتزوج مسلما وتعيش في بيئة مسلمة وتصبح في النهاية من القلة الحاصلين على إجازة في المذهب الشافعي وتبدع في تدريس المذهب لرواد حلقات الدرس في القدس والمسجد الأقصى شخصية متطورة متغيرة تتفاعل والاحداث بطريقة أقرب للخيال.
جميل السلحوت
جميل السلحوت عضو الهيئة الاستشارية / فلسطين

وكتب جميل السلحوت:يفتتح الأديب عبدالله دعيس روايته هذه بـ” هذه رواية خياليّة، تدور أحداثها بين عاميّ 1775 و 1810 للميلاد، وهي ليست سردا تاريخيّا ولا تأريخا لتلك الفترة.”

والقارئ لهذه الرّواية سيجد أنّ الكاتب لم يكتب تاريخا، لكنّه استفاد من تاريخ تلك الحقبة الزّمنيّة، وصاغها بقالب روائيّ على ألسنة أناس شعبيّين. ففي تلك المرحلة كان الصّراع محتدما بين بريطانيا وفرنسا للسّيطرة على المنطقة، وكانت حملة نابليون على الشّرق، والتي ابتدأها باحتلال مصر، وانتقل منها للسيطرة على بلاد الشّام، ودمّر غزّة ويافا، وتحطّم أسطوله عند أسوار عكا.
فما أن استقلت أمريكا عام 1979م من الاحتلال البريطاني، حتى بدأت حروبها الإستعماريّة، وكانت بداية غزواتها لطرابلس الغرب في ليبيا، وكذلك فرنسا هي الأخرى استقلت من الاحتلال البريطانيّ وشرعت هي الأخرى تنافس بريطانيا في حروبها الإستعماريّة، واحتلت العديد من الدّول الإفريقيّة ومنها الجزائر، تونس، المغرب موريتانيا. وقام نابليون بغزواته لمصر ولفلسطين.

وقد استغلّ المستعمرون الغربيّون الخلافات القبيليّة التي كانت سائدة في فلسطين، كالصّراع بين “القيسيّين واليمنيّين”، والذي حصد أرواحا كثيرة، كما استغلوا الجهل والتّخلّف لتحقيق أهدافهم.

ورد في الرّواية ثلاثة شخصيّات محوريّة وهي:

اللورد البريطاني أرنولد ديزرائيلي: والده مسيحيّ اعتنق اليهوديّة، والإبن عاش حالة ضياع بين اليهوديّة والمسيحيّة، أرسلته الحكومة البريطانيّة لدراسة أحوال بلاد الشّام التي كانت جزءا من الإمبراطوريّة العثمانيّة، تمهيدا لغزوها. فقصد حلب وتعلّم فيها العربيّة، وادّعى أنّه مسلم، لتسهيل عمله، وسمّى نفسه “الشيخ ابراهيم الحلبي”. ثمّ انتقل إلى فلسطين. تعرّض للأسر والموت أكثر من مرّة، لكنّ زوجته مريم الكسوانيّة كانت تنقذه في اللخظات الأخيرة.

مريم الكسوانيّة: كانت سيئة الحظّ، فأخوها مصطفى سقط وهو بصحبتها عن ظهر بغل ومات، وابن عمّها الذي كانت على اسمه، ليكون زوجا لها مات، وزكي قطينة الذي أراد خطبتها جرفته السّيول ومات، وتزوّجت من محمد الشّيخ حامد من قرية “حرم”قرب يافا مات، ثمّ تزوّجت من شخص آخر اسمه خضر وانقلب به قارب ومات غريقا، وتزوّجت من موسى من غّزة بعد وفاة زوجاته الثّلاث ومات برفسة بغل، فتعامل معها الآخرون كمنحوسة يموت من يقترب منها. وفي النّهاية تزوّجت “الشّيخ ابراهيم الحلبي.” وأنجبت منه طفلة أسموها “سارة”.
سارة: هي ابنة مريم الكسوانيّة والشّيخ ابراهيم الحلبي.”أرنولد”. عاشت في قرية “بيت سقاية”، وفي كنف شيخ ووجيه القرية، تعرّضت للسّبي في الخلافات القبليّة، ولم يتمّ زواجها ممّن سلبها، انتقلت إلى مدينة القدس، حيث عاشت في كنف أسرة مقدسيّة عريقة، وتعلمّت في الزّاوية الهنديّة، وتزوّجت من التّونسيّ عبد الرحمن الذي مرّ بالقدس في طريقه للحجّ، وعندما غادرت معه إلى تونس تعرّضت للإغتصاب على يد غزاة بريطانيّين، تمّ أسرهم. وواصلت طريقها مع زوجها إلى تونس، ثمّ عادت وزوجها وحمويها إلى القدس مرّة أخرى. وما لبثت أن اهتدت إلى والديها.

أهداف الرّواية: في تقديري أنّ الكاتب الذي سرد روايته عن مرحلة تزيد عن قرنين سابقين من تاريخ فلسطين، أراد أن يعيد إلى الأذهان بأنّ مرحلة التّمزّق والهزائم التي نعيشها الآن، والتي تتيح الفرصة “للغرباء” لتحقيق أطماعهم، ليست جديدة، فقد سبق وأن عاشها آباؤنا وأجدادنا قبل أكثر من مائتي عام، فهل نتّعظ من التّاريخ؟
الأسلوب واللغة: واضح لمن قرأ روايات الكاتب عبدالله دعيس السّابقة، أنّ الكاتب قد طوّر أسلوبه الرّوائيّ بطريقة لافتة، فالرّواية المكتوبة باللغة الفصحى التي تعجّ بفنون البلاغة لا ينقصها عنصر التّشويق، والسّرد سلس انسيابيّ لا يثقل على القارئ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى