العقل البيولوجي والفطرة والفلسفة المادية

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

قبل الولوج إلى الموضوع يستحسن بنا التعريج على المصطلح والمفهوم لاستكناه العبرة؛ ولعل القاريء يجد مبتغاه، ويصل التفكر به إلى منتهاه، فيستجلب المعنى من القريب الظني إلى اليقيني، فلا يقف حائرا عند الفكرة، وتتشابك بين يديه خيوط الفكرة، وتتبخر من بين ناظريه شذرة إثر شذرة.

ومن ثم نقول: إن العقل البيولوجي يتمثل في تلك القدرة على التكيف ــ حسب خلاصة التعاريف الفلسفية ــ والتكيف بمعناه (البيولوجي، والفسيولوجي، النفسي، والاجتماعي)، تكيف الكائن الحي (الحيواني) حسب درجة ارتقائه العصبية والمخية مع البيئة المحيطة، أي بين البيئة الداخلية والبيئة الخارجية؛ فكلما كان الكائن أكثر تعقيدا عصبيا كلما كان أكثر قدرة على التكيف.

وتختلف درجة التكيف (الحيواني) حسب درجة الإدراك والذكاء للكائن، فالكائن يتعاطى مع البيئة الخارجية من خلال الغريزة الطبيعية وهذه الغريزة هي نوع من العقل أو الذكاء الفطري الذي يتيح له التعاطي مع المتغيرات من حوله ثم محاولة استخدام الذكاء الفطري في التكيف مع هذه المتغيرات مما يتيح له استكمال الوظيفة الحياتية أو التنحي والانقراض أو الاندثار حسب قوانين (داروين) والتطور سواء (الموجه أو غير الموجه) .

وتتعامل (الدارونية ) بالاتفاق مع الفلسفة المادية مع الكون بمجمله على أنه كل متكامل لا مجال فيه للتميز ولا الارتقاء النفسي أوالعقلي أوالفطري ولا قوانين تحكم خارج منظومة الطبيعة التي تمنح كل عنصر على حسب ما يؤهله للاستمرار أو التنحي ــ حسب تعبيرهم ــ وبالتالي فلا مجال للفطرة (الخلقية ) ولا المنح المسبقة ولا التفاوت في درجات الذكاء، ولا التكريم، ولا خصوصية الخلق للارتقاء والسيادة على الكون.. إنما هي فقط تراكيب (كيماوية كهربية ووصلات وسيالات عصبية ــ تزيد أو تقل) وكلما زادت درجة التعقيد في الوصلات العصبية والقشرة المخية كلما كان الكائن أكثر أو أشد ذكاء، وكلما قلت كان العكس.

وترى النظرية الداروينية أن: العقل قد ظهر من خلال عملية تطور كامنة في المادة ذاتها.. أما الماركسية فترى أن العقل قد ظهر من خلال علاقة الإنسان بالطبيعة والتفاعل مع العملية الإنتاجية؛ أما المثالية فتعرف العقل على أنه الملكة التي يحصل بها للإنسان إدراك الحقائق المطلقة [الوجود والعدم، الجوهر والعرض، الحق والباطل، الجزء والكل.. ] ..

وهي كلها تعريفات إما مفتعلة لا أساس لها، وإما منتقصة .. مغايرة كليا أو نسبيا للرؤية الإسلامية التي ترى العقل (كابن تيمية ) هو عبارة عن [العقل الغريزي أو الفطري الحيواني الذي يدير حركة الجسم الطبيعية دون تدخل مباشر من الإرادة الإنسانية ، ثم العقل البديهي المتعلق بالعلوم الأولية التي تولد مع الإنسان لا تحتاج اكتسابا، ثم العقل المكتسب أو التعلمي المتراكم من جراء الخبرات والعلوم والمعارف، ثم علوم الوحي أو النقل التي لا يحصلها الإنسان من تلقاء نفسه]..(1)

والفرق بين معظم التعاريف الفلسفية (المادية خاصة)، والفلسفة الإسلامية: أن الأولى لا تعترف بشيء للعقل خارج نطاقه، ولا تقر ب(الميتافيزيقا ) إنما كل شيء عندها هو المادة والطبيعة ، وبذلك تسقط عنصر الإرادة البشرية الحرة الذي لا يمكن تفسيره بيولوجيا، كما تنفي العلم البديهي والعريزة والوحي؛ وكلها مسلمات لا يختلف العقل البشري على وجودها، كما لا تستقيم الحياة مع عدم الاعتراف بها .. كذلك كان رأي الإمام أبو حامد الغزالي والفلاسفة المسلمين حول هذه المسلمات، فقال: اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة فليست المبصرات عندها على مرتبة واحدة بل بعضها تكون عندها كأنها حاضرة (كالعلوم الضرورية).. ومنها ما ينبهه كلام الحكماء عند إشراق نور الحكمة يصير الإنسان مبصر بالفعل بعد أن كان مبصرا بالقوة ، وأعظم الحكمة كلام الله تعالى، ومن جملة كلامه القرآن .. فتكون منزلة الآيات عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة إذ به يتم الإبصار، فبالحري أن يسمى القرآن نورا كما تسمى الشمس نورا “فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا”.(2)

تتعاطى الفلسفة المادية ــ حسب ما ذكر (د. عبدالوهاب المسيري) مع الإنسان على أنه جزء لا يتجزأ من المنظومة الكونية، لا مجال لخصوصيته أو تفرده أو ذكاءه أو ارتقائه، إنما هو جزء من منظومة الطبيعة الكيمائية والمادية التي تسري عليه قوانين المادة، والتكيف والتطور.. وينمو السلوك الإنساني حسب درجة القدرة على التكيف، فالذكاء الإنساني عبارة عن عمليات انتقائية حسب البدائل الطبيعية المتاحة التي يختار منها الكائن بناء على عنصر التجربة المتتالية والمتتابعة ، ومن خلال التجربة يستطيع الكائن أن يسجل في عقله أو ذاكرته ما هو أقرب إلى الفائدة له والصواب والتشجيع على الاستمرارية، ومن هنا جاء مبدأ “البقاء للأصلح” الذي تحدثت عنه المادية الداروينية.(3)

واختلف (الداروينيون) حول مكونات الإنسان ما هو طبيعي (جيني) منها، وما هو مكتسب ، وقد رفض المعظم أن يكون هناك علم مسبق مسجل على الشفرة الجينية قبل تكون الإنسان، إلا أن يكون الكائن الحي قد اكتسب هذا العلم بالتجربة والتكيف على مدى ملايين السنين ثم انطبع ذلك في الشفرة الوراثية له حتى أصبح أشبه ما يكون بالطبيعي .. لكنها ترجع كل ذلك في الأصل إلى التكيف والتطور والتجربة الطبيعية التي أنتجت التكوين البيولوجي للكائن الحي ” ويؤكد العالم التجريبي جون لوك على أن الأفكار البسيطة المستمدة من الخبرات يمكن أن تتحد معا لتجعلنا نفكر في أشياء ليست موجودة”.(4)

“فالعقل المادي هو قادر على أن يرصد البشر باعتبارهم كيانات بيولوجية وحسب، ومن ثم لا توجد أي اختلافات كيفية بين الأفراد وبين الإنسان والحيوان، فالإنسان شأنه شأن الحيوان مجموعة من الوظائف البيولوجية والكيميائيةـ وعدد من الغرائز والتفاعلات الحتمية .. وهو لا يسوي بين البشر كلهم وحسب بل بين البشر والحيوانات”.(5)

“العقل المادي عقل امبريالي لا يلتزم بأي مقاييس أخلاقية وينكر الإنسانية المشتركة، كما أنه لا تحده حدود أو سدود، ولذا فهو لا يمكنه التفكير في هزيمة العالم (الإنسان والطبيعة ).. فكل الأمور متساوية ونسبية ولا قداسة لها”.(6)

ويرى فلاسفة الإسلام أن وجود العلم الطبيعي (الغريزي) لا ينفي اكتساب الإنسان العلم بعد ذلك من مصادرة وبآلاته التي ركبت فيه، وعلى رأسها الحواس ثم العقل ثم الحدس ثم الوحي .. وقد يسأل سائل عن الوحي كيف يكون مركبا في الإنسان ، ونقول أنه الفطرة التي ذكرها الله في كتابه للمصادقة بين أمر الوحي وأمر النفس فقال ” فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)”[الروم].، وقد ذكر الإمام الغزالي أن الله سمى  هذه الفطرة (دينا) إذ لا تعارض بينها وبين ما جاء به الوحي عن الله .

إن إنكار التقويم الفطري الأولي”لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم” لفرية من أعظم الفرى على الله، وهو الذي تصطبغ كل ذرة في الخلق بآياته البينات، وهذا الأحسن تقويم هو الذي أثبت في النموذج الأول (آدم) هذه الشفرة الوراثية من العلوم البديهية والغريزية وهما الصنف الأول من العلوم الذي يلقى الإنسان به الحياة ويواجه به الكون .. أما الآلات التي أوعزت إليه الاكتساب من خلال الفطرة فقد أودعت في تكوينه الجسدي والنفسي كذلك قبل الخلق وإن كان قد تعلم بها واختبر وتفاعل مع الكون “وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)”[النحل].

مصادر المقالة:

  • مقام العقل في الإسلام (د. محمد عمارة).
  • نفس المصدر.
  • الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان(د. عبدالوهاب المسيري).
  • العقل البيولوجي (جاستن جارسون).
  • الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان(د. عبدالوهاب المسيري).
  • الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان(د. عبدالوهاب المسيري).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى