سيدات يوم الجمعة ” قصة قصيرة “

شوقية عروق منصور | فلسطين

اسمع صوتها وهي تنادي علي بلهفة: –
– روحي شوفي … اركضي …!!!
أركض ، أعرف طريقي جيداً ، افتش عنه ، صوت الجرس دليلي اليه ، أصل الى ساحة الحرش في الحارة الشرقية في مدينة الناصرة، ساحة واسعة سميت بالحرش لأنها كانت سابقاً جزءاً من حرش اشجار صنوبر وسرو ، الساحة بعيدة عن بيتنا ، وعلي ان اصلها بسرعة قبل ان تعرف امي من احد غيري . فأنا انتظر هذا اليوم بفارغ الصبر ، لأنني احقق فيه بعض المكاسب .
اقترب منه، اجده واقفاً يقرع الجرس بملامح عصبية محشوة بالتذمر، على صدره صورة كبيرة ملونة، مربوطة بعنقه وعلى ظهره أيضاً صورة اخرى مثلها، وعلى ذراعه صورة لم تظهر تقاسيم الوجوه لكن ألوانها فاقعة، هناك من ثبت الصور بطريقة يصعب نزعها وازالتها .
دعاية متحركة ، ذكية ، وسريعة التأثير في مجتمع يحيا على الانتظار ، ونساء ينتظرن الرنين للخروج من الصمت البارد .
احاول قراءة العنوان ، الحروف متشابكة ، متدلية وفيها انحناءات تخرج منها أشعة نارية تضيء الوجوه . يتعلق نظري بوجه الرجل المرسوم بدقة وابتسامة المرأة ذات الفم الواسع والشعر المتجعد بإغراء وفتنة كأنها تغيظ النساء .
أقف أمامه ، مازال يقرع الجرس ، لم ينتبه لي او لغيري ، هو جاء بمهمة وعليه ان ينجزها بسرعة لينتقل الى حارة ثانية .
أبو دليلة .. أبو دليلة.. شو الفيلم .. لم يرد أبو دليلة علي وبقي يقرع الجرس ، انحشرت بين الأطفال ، زهقت ، لكن لو رجعت دون ان اعرف عنوان الفيلم لضربتني امي واطلقت علي لقب (الهبلة). كنت اعرف ان امي تنتظرني على احر من الجمر .
بقيت واقفة ، التصقت بامرأة كانت تقرأ عنوان الفيلم عن الصورة المعلقة على صدر ابو دليلة.. قالت لشاب يقف الى جانبها :
قول لأمك الفيلم لفريد الأطرش وسامية جمال ، اسمه ” عفريته هانم ” انسحبت من بين الجميع وركضت الى البيت ، وجدت امي والجارات في حالة انتظار مشتعل ، سمعتها وهي تقول بصوت عال .. “اجت مقصوفة العمر … ولك ليش طولتي ” ؟ ؟
لم أجبها شعرت ان العبء الذي احمله أثقل من لومها المعهود !! يما .. الفيلم لفريد الأطرش وسامية جمال اسمه … ضاع الاسم ، نظرت الى وجوههم فوجدتها معلقة بلساني الذي قطع …
شدت امي شعري .. شو اسمه ، شعرت بصفعة على خدي … ولم اتذكر .. هربت خجلة من العيون التي كانت متواطئة مع امي … !!
بعد فترة دخلت امي الى البيت وهي تردد “عفريته هانم “… “عفريته هانم” .. أكيد فيلم حلو ، نظرت اليها من تحت المنشفة التي كنت احملها كي اغطي وجهي غضباً منها ، ابتسمت ، قالت :
– يالله يا شاطرة … راح اشتريلك شقفة قماش مخمل احمر واخيطها فستان… اذا بتقعدي وبديري بالك على اخواتك يوم الجمعة .
رشوة أو مقايضة ، حالة كانت تتكرر بشكل دائم ، كلما جاء ابو دليلة معلناً عن عرض فلم جديد في سينما ديانا في الناصرة ، أراها تبدأ التعامل معي بأسلوب حريري ناعم ، صوت هادىء، تتركني العب دون ان تطالبني بالذهاب الى الدكان او حمل شقيقي ، حتى انها تتعمد ان لا تسألني عن وظائفي المدرسية ، اشعر بالانتصار على امي واعرف حاجتها لي يوم الجمعة، فأتمادى في الطلبات واللعب ، خاصة عندما تهمس في نبرة توسل :
– خلي بالك من اخوتك … وانا راح اشتريلك اشي حلو .
امي تحب السينما ، وتعشق فريد الأطرش لدرجة ان ابي كان يغار منه ، وعندما ارادت ان تطلق اسم فريد على اخي الصغير جن جنونه وخيرها بين الطلاق وبين وأطلاق اسم فريد ، لكن امي وجدت حلاً آخر فقد اطلقت على اخي اسم “فؤاد” تيمناً بإسم شقيق المطرب فريد الأطرش ، انتصرت امي على ابي الذي لم يعرف ان فؤاد شقيق فريد . وكانت جدتي تضحك على ابي مؤكدة أن امي تحب صورة ورق. وهل يشعر فريد بهذا الحب … – وهو ناقصه نسوان على رأيها- .
أبو دليلة هو الدليل الذي يرسله اصحاب سينما ديانا لكي يلف ويدور في الحارات والأزقة معلناً عن الفيلم ، كان يتنقل بين الحارات معلناً عن الأفلام التي تعرض في سينما ديانا .
يوم الجمعة للنساء ويوم الاحد للرجال ، هكذا كان التقسيم ، ثم اضيف العرض الليلي للعائلات لكن كان يوم الجمعة بمثابة مشوار نسائي هام ، تكون التحضيرات له قبل اسبوع .
النساء كن يفرشن مشاعرهن على الملأ ، لا يستطعن اخفاء اللهفة التي تسيل من الأعمال المنزلية السريعة والتحضيرات البيتية لكي يستطعن الذهاب الى السينما يوم الجمعة على راحتهن ، دون أي اعتراض ، وحتى لا تكون هناك حجة لأحد الأزواج او الآباء أو الأخوة للعرقلة ومنع الذهاب .
أبو دليلة هو الطقس الوحيد الذي يغير مناخ الحارة حيث يشعرون ان قدومه يحرك الأيام الراكدة، تتغير الأحاديث الروتينية وتصبح التوقعات عن قصة الفيلم وشكل الأبطال مادة دسمة خيالية، لعالم يدخلونه بمتعة، يطردون بواسطته الجفاف الذي يعيشون فيه .
يوم الجمعة كان اليوم الخاص ، المميز ، هذا اليوم للنساء، يتحول إلى عيد خفي ، وتتحول امي الى امرأة اخرى، أرى في ملامحها نشوة غريبة، تجهز فستانها الأسود، كانت تملك أربعة فساتين، أحمر وأخضر وبني وأسود، كانت تحرص على ان تكون انيقة رغم فقرنا، تلمع حذاءها الأسود، الحذاء الوحيد ، تضع القليل من الزيت على قطعة قماش وتبدأ بفرك الحذاء لكن يبقى الإهتراء يطل من جلده ، لا اجد الغضب على وجهها ، هناك شيئاً جميلاً يمر طيفه من بين شفتيها، لها ضحكة خفية ، تنزل من فوق جبينها لتستقر على ذقنها قمراً بصورة غمازة يطل فرحاً ، حين تضحك وتشير الى النقود في يدها .
لقد اعطاها والدي ثمن تذكرة السينما واضاف اليه ثمن حبة البوظة في الاستراحة. متعة مسروقة من أيام جافة .
الوقت يمر ببطء، الساعة الثالثة ما زالت في طي الساعة الواحدة، السينما تفتح أبوابها في الساعة الثالثة ويعرض الفيلم الساعة الرابعة، تعتقد أمي أن الساعة لا تمشي، تفتح الراديو على إذاعة القاهرة ، لا تثق الا بدقات ساعة جامعة القاهرة، ويمر الوقت، تنهي عمل البيت بدقة متناهية ،لا تصرخ مثل كل يوم علي وعلى اخوتي ، هادئة، ناعمة تقترب مني وتقبلني، اشعر ان القبلة رشوة وصلت الى حد لا مجال فيه للرفض .. وعلي الطاعة .
– لما يروّح ابوك حطيلوا يوكل، مش تتأخري، حتى لا يحكي ويعمل طوشه .. فهمتي ! اهز رأسي .. وبعدين قنينة الحليب جاهزة لأخوك بتطعمي .. وخللي يتضّرع مش ينام بدون ما يتضرع … اهز رأسي ، وبعدين بتغيري لأخوك الحفاظات ، مش تخليه بوسخو ، اهز رأسي ، واخوكي الثاني ما تخللي يطلع بره خوف ما يصير اشي يقولوا الولد وقع وامه في السينما، أهز رأسي .. ثم تقبلني بسرعة .
أراها امرأة أخرى، جميلة، حواجبها الرفيعة، الكحل الاسود الذي خرج من عينيها والتقى مع الظل الذي يحضن رموشها ، أحمر الشفاه الغامق ، الذي يضيف الى شفتيها سحراً اشبه بسحر الملكات.
يوم الجمعة الذي يذهبن فيه الى السينما ، يقفز من مظلة الايام العادية لكن لا يمر عادياً مثل باقي الأسابيع .
الساعة الثالثة …. تنادي جاراتها ، يتجمعن مظاهرة نسائية ضاحكة ، فساتين ملونة ، معطرة، يمشين بخطوة واحدة ، وينضم اليهن نساء أخريات ، كل ثلاث نساء او أربع يمشين مع بعض وتكبر المظاهرة ، تتسع ازقة الحارة ، هكذا نراها ، تختفي الحفر والمياه الآسنة ، يصبحن هن العنوان لحارة تتنفس عطراً .
يذهبن قبل عرض الفيلم حتى يتسنى لهن اختيار الكراسي المناسبة للجلوس لكي تكون المتعة كاملة ، غالباً ما كانت كل واحده منهن تعرف كرسيها ، لكن الذهاب قبل بدء العرض جزءاً من متعة المشوار .
ابنتي التي لم يعجبها تلفزيونها الخاص والفضائية التي تبث الأفلام العربية طوال اليوم سألت جدتها :
بعدك يا ستي بتحبي فريد الاطرش ؟
آه سقالله على ايام فريد ، بس فريد في السينما مش زي فريد في التلفزيون !! في السينما أحلى ..
ارى دموعها من بين التجاعيد ، اختفى بريق يوم الجمعة واختفت النساء ، حتى الحارة ضاقت واختفى الحرش بين زحام البنايات ، لكني مازلت اسمع صوت جرس أبو دليله .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى