فكرة الوطن.. أفعال لا أقوال

الكاتبة المغربية | بشرى بوغلال
يا موطني حبي وكل مودتي.. أهديك من قلبي ومن وجداني.
في ^مَغْرِبٍ^ بات الفؤاد معلقا.. والقلب أنشد في هوى عمان.
ودموع حبي للعراق قد بدت.. شعرا وشوقي للخليج دعاني.
ما مر يوم قد نسيت حبيبتي.. ^مصر^ العروبة أو نسيت يماني.
فلطالما كان الوطن ولا يزال مزيجا من نفحات تراب مقدسة، وقصص حب خالدة، فقد خاب وكذب من قال أن الوطن مجرد حفنة تراب عفنة، فالوطن كان ولا يزال جزءاً لا يتجزأ من هويتنا، وقطعة غالية من تلك القلوب التي تنبض في منتصف صدورنا.
فمعنى الوطن يفوق أحرفه الثلاثة التي تحمل في طياتها الكثير من معاني العظمة والقدسية، فهو الملاذ الذي نشعر في أحضانه بالأمان، والعش الذي يجمعنا سويا في كنفه ويسقينا عاطفة وحبا.
فمنذ الأزل والأوطان تشكل هويتنا التي نحملها بكل اعتزاز وفخر أينما حللنا وارتحلنا، تلك الهوية المتغلغلة في عمق المكان والزمان على مر العصور، فهو المكان الوحيد الذي لا يمكن الإستغناء عنه ونسيانه مهما حدث.
وهو الحب الأبدي الذي لن نخون عهده أبدا ولو قاسينا كل الهوان في سبيل حماية آخر ذرة من ترابه المقدس الشريف، وقد نضحي بالغالي والنفيس ابتغاء رؤيته في الأعالي بعيدا عن منأى الخونة الحاقدين والذين لا يعرفون للوطنية سبيلا، والذين هَمُّهُمُ الوحيد هو النيل من من حمى الوطن والدين، غير مدخرين جهدا لإلحاق الضرر بذلك الحضن الدافئ الذي احتضنهم يوما، وكان مسقطا لرؤوسهم النجسة وشاهدا على أولى صرخاتهم الشيطانية.
فقد كان دأبهم كدأب الطغاة الذين سمعوا بأن الوطن غالي فَهَمُّوا لبيعه في أسواق الخونة الأبالسة، متنكرين لما حباهم به الوطن من صون وحب حتى ثاروا وتمردوا ،فأشهروا سيوفهم الغادرة في محاولة منهم لذبح وحدته الترابية، وطعن قدسيته المتجذرة في قلوبنا.
غير آبهين لأيادي الوطن البيضاء التي امتدت لهم وسدت جوعهم، واحتوت لحظات ذلهم و انكسارهم ، حتى أصبحوا قمة في الجحود و إنكار الفضل، ليستفيق الوطن على طعنات غادرة أدمت روحه، وهزت كيانه.
وفي ظل هذا الخذلان والغدر الذي يصيب أوطاننا من أولئك الذين افترشوا أراضيه يوما ما واتخذوا من سمائه غطاءً ،عندما لم يجدوا ملجأً غيره يحتويهم.
ليظهر في الواجهة محاربون شجعان ، نمت الوطنية في أنفسهم وكبرت، وازداد لهيبها اشتعالا في أفئدتهم كلما كبرت هموم الوطن وعظمت مصائبه ، ليشكلوا صرحا شامخا ودرعا واقيا في وجه سهام الخيانة والغدر.
مضاعفين جهودهم من أجل الفتك بالخونة المتربصين بسلامة وأرض الوطن، فتعلو أصوات بنادقهم المدوية كعاصفة رعدية في وجوه الخوارج من كلاب النار، والذين ظنوا أن الوطن سلعة تباع وتشترى على أرصفة وشوارع أفكارهم الملوثة.
لتتعفن بذلك مساعيهم القذرة، وتحترق أجسادهم النجسة في حفل شواء يقيمه جنودنا البواسل في حديقة الوطن الخلفية.
جزاء لِما كسبت أيديهم و كادت قلوبهم الغلف، فالله لم يكن ليهدي كيد الخائنين.
فما كان لنا سوى أن نلقنهم درسا في الوطنية والإنتماء لا ينسى، لعَلَّهُم يستفيقون من سباتهم العميق، وينتشلوا أنفسهم من دوامة التطرف والإرهاب التي باتت سلاحهم الوحيد من أجل إثبات وجودهم الوهمي، وفرض سيطرتهم التي ستظل حبيسة أحلامهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فأولئك المتأسلمون الأوباش الذين لا خلاق لهم يحاولون التسلل تحت أجنحة الظلام كخفافيش ليلية، متجهين صوب شبابنا ومستهدفين طراوة عودهم، ليَشْرَعُوا في غسل أدمغتهم الفتية ،حتى تصبح تربة خصبة لزراعة بذور التطرف والحقد ،وسفك آخر قطرة من دماء الوطنية التي كانت عالقة في قلوبهم.
ليصبحوا بعد ذلك وحوشا آدمية و روبوتات مبرمجة تحدث خرابا في الأنفس والبنيات التحتية، فتراهم يعيثون بالأرض فسادا بغير حق.
ومطلقين العنان لأنفسهم المريضة، وعقولهم المعطوبة بِداءِ التطرف في سبيل تحقيق شرعية شاذةٍ وغير مستحقة، وفي ظل هذه التجاوزات الإجرامية، والتطاول المستفز على حرمات أوطاننا والتعدي على حدودها المرسومة بالدم والعرق.
لِيَهُبَّ الفتية الأحرار مُلَبِّينَ نداء الوطن في مشهد يذكرنا بإعصار كاترينا المدمر، و انتفاضة كتلك التي يحدثها بركان سانت هيلينا، فَيثُورون في وجه كل من سولت له نفسه المساس بقدسية المكان.
فترى كل آلامهم الشخصية تتلاشى وتندثر كلما نزلت بالوطن الحبيب نازلة ،معلنين الولاء لأوطانهم من المحيط إلى الخليج، في مشهد مهيب ومعارك بطولية، محاربين ومقاتلين حتى آخر نفس تلفظه صدورهم المباركة.
مقتحمين التاريخ من أوسع أبوابه ومؤرخين أمجادهم الملحمية، وانتصاراتهم الباسلة على الخونة من حزب الشيطان، بدمائهم الطاهرة في كتابٍ عنوانه ” الشهادة في سبيل الوطن ليست مصيرا سيئاً.. بل هي خلود في موت رائع..”
فلم تزدنا تضحياتهم العظيمة واستشهادهم سوى رفعة وشرفا، لا بل ضخت في دواخلنا جرعات هائلة من عنفوان الشباب الحر و التشبث بقيم الولاء وروح الوطنية.
ومُوقِظَةً جينة المحارب في طفراتنا، فلم يعد يهمنا أين ومتى سنموت بقدر ما يهمنا بقاء الوطن.
وفي ظل حديثنا عن قيم الإنتماء والوطنية، ضربت لنا أرض الكنانة مثلاً في الصمود والتصدي لكل الكائنات الحشرية المتطفلة، وذلك من خلال تشكيلها سدا منيعا ضد كل معتد أثيم، وحاميا لِجُل الدول العربية المجاورة بحكم موقعها الجغرافي الحساس وريادتها في الميدان العسكري فقد تم تصنيفها كأول وأقوى الجيوش العربية والثامنة عالميا.
فأبطالها المرابطون صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فحاربوا بأقصى جهودهم واستشهد الكثيرون منهم فداءً لوطنهم وللأمة العربية كافة.
لِيُحظى الناجون بفرصة لسرد أحداث معاركهم الملحمية الخالدة، والتي تردد صداها في كل بقاع العالم، مخترقة حدود المكان والزمان، ومشعلة فتيل الشجاعة والمروءة في زوايا وطننا العربي.
ليَسْتحِقوا بذلك خير أجناد الأرض نعتاً ولقباً، فمصر ليست مجرد وطن بحدود لكنها تاريخ الإنسانية كله، والذي يستحيل بتر أرجله الثابتة في العمق.
فلطالما كانت أوطاننا على وجه العموم مسكونة بأهلها الطيبين، تماما كما كانوا هم مسكونين بها ،فبينها وبينهم من الأحاسيس ما لا يعلمه إلا هي وهم…
ولمصر على وجه الخصوص ،رجال عشقوها كالعمر، نحتوا جدرانها بأظفار أحلامهم، ورسموا فوق أهراماتها ونيلها العظيم ملامح حكاياتهم، ودفنوا أسرارهم النقية في سينائها، فناموا تحت سمائها يعدون النجوم ويبوحون للقمر بأشواقهم.
وفي بلد الأزهر أيضا ..ماتت حكايات تضحية وافترق أبطالها بصمت وطووها بانكسار العاشقين، فحملوها في الذاكرة بألم، فزمانهم لم يكن يعرف الغدر والخيانة ولا خديعة الوطن.
فأرض الأنبياء هاته ليست قطعة أرض نكرة كما يزعم “الإخوان الجهلة القتلة” ..فمن رحمها ولد الكتاب وعمالقة الأدب، وفوق ترابها وُجِدَ رجال لهم الآن شأنهم الرفيع في المجتمع.
وبينما قد حُظِيتَ بشرف التجول في ربوعها، سيخيل إليك أن جدرانها وصحراءها ما زالت تحتفظ بأنفاس أصحابها، وشهدائها الأبطال، وتسمع صدى أصواتهم الطيبة ما زالت تنام في الطرقات ،وكأنهم حين رحلوا بقيت قلوبهم معلقة في الأرض والمكان.
فلا يعرف قيمة هذه البقاع المقدسة إلا الذين كانوا يوما ما جزءاً من حضارتها وشموخها، غير غافلين عن شبابها المنصور بالله والذي لا يزال على العهد قائما.
فكلنا لا زالت رياح الحنين تقذف بنا في زوبعة حُبٍّ وطنيةٍ إلى صحرائها المترامية الأطراف ،وربما تجولنا فيها و أنوفنا مليئة برائحة “{المنسي وأبطاله}” فتنهمر دموعنا المليئة بلوحات بطولية لا زالت منقوشة على جبال سيناء وكثبانها الذهبية.
فالوطن هو أوسع من مجرد مكان، وهذا ما فسره د.جمال حمدان في كتابه ^ شخصية مصر^ .
قال فيه أن الوطن علاقة بين الجغرافيا والتاريخ، وأنه دراسة في عبقرية الزمان والمكان، كما ذكر أن الوطن هو الحضارة وإبداع الإنسان عبر القرون، كما عرج أيضا على أن الوطن عبارة عن مشاعر.
ومن لم يعرف المعنى الحقيقي للوطن لن يتولد فيه الإنتماء إليه ،وتتولد فيه طاقة سلبية تحثه على كل فعل شنيع ومدمر، رغم كل المزايا والمحاسن التي يجود بها الوطن.
فالسلام وكل السلام على الوطنيين الأحرار والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، وعلى أوطانهم يذوذون، والذين تعلو حناجرهم في صخب التخلي والهجران، قائلة” اللهم سجن الوطن ولا حرية المنفى”
وأخيرا وليس آخرا، إن كان لك في هذا الزمان بقعة أرض قادرة على تحريك الإحساس فيك..والدمع في عينيك..فأنت حتما إنسان محظوظ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى