سايكولوجية البنية السردية في رواية “وكر السلمان”  للروائي شلال عنوز!؟

عبد الجبار نوري | كاتب وباحث عراقي – السويد

 

الذي شوقني وشدني للكتابة عن رواية “وكرالسلمان” للروائي شلال عنوز: تحدث الروائي قائلاً أستغرقتُ في كتابتها قرابة الخمس سنوات ، ومشكورا وهو يهديني ملف الرواية وأنا بعيدا عن وطني الأم ، وتأثرت حين يبدأ الرواية بالكلمة المعتادة : أهدي هذا الجهد المتواضع إلى ضحايا الحرب الذين خسروا أمانيهم ، إلى كل الذين أكتووا بنارها ، إلى الأنسانية المعذبة بسبب حماقات مشعليها  ، ولتكن روايتي شاهدة دموية الحرب في تعاسة البشرية وشيوع الجريمة على الأرض.

وحقاً أن رواية ” وكر السلمان ” منجز كبير مكتمل الأوصاف في اللغة والأسلوب والبنية المعمارية والنسق السردي بالشكل والمضمون ، ونجح الروائي الشاعر في أظهار مأساة جيل الحرب العبثية والحصار الظالم على وطننا الحبيب وتأسى للذين ولدوا أبان تلك الحرب وأكتوت طفولتهم المبكرة بمأسي حصار الموت البطيء وتهجروا قسراً ويكشف للقاريء حكمته الشخصية { إن السعادة تنبثق من ليل الألم الطويل } ، فهو كاتب قدير محترف وخبير قانوني وسايكولوجي في البحث في أعماق البشرية وزواياها المظلمة ، فشلال أوغل – بروايته ” وكر السلمان “- بميتافيزيقيا الكينونة البشرية وبنهايات ممزوجة بالبراكماتية المطابقة للواقع .

أن سيميائية العنوان في رواية ” وكر السلمان ” تحمل كل مفردات السيمياءالتي هي أداة لقراءة السلوك النفسي البشري في مظاهره المختلفة بدءاً من الأنفعالات مروراً بالطقوس الأجتماعية والأنتهاء عند الآيديولوجيات ، لكون العنوان هو هوية النص والمدخل الذي يحتاجه المتلقي لسرديات المضمون النصيّة وهي التي جذبتني أسيرا رغماً عني لأدخل المتاهات المظلمة والموحشة لقبو الشيطان في قضاء السلمان مسقط رأس بطل الرواية نعمان ، والمتقاربة مع نكر السلمان  الذي هو سجن موحش في قلب صحراء بادية السماوة أبتكرها المحتل الأنكليزي وأستخدمتها جميع الأنظمة منذ تأسيس هذا الوطن الجريح ما عدا نظام الجمهورية الأولى بزعامة عبدالكريم قاسم ، لزج الأحرار من وطني.

 

أسلوب الروائي شلال عنوز في نسج عناصر الرواية وبنيتها

في سبيل السعي لتعريف الرواية يطرق الروائي العبقري شلال عنوز باب الأستخدامات والأغراض لروايتهِ ” وكر السلمان ” ويلقي الضوء الكاشف برشاقة وشفافية متناهية على سرديتهِ النصيّة ورؤية الحياة وتفسيرها والترويج للدعاية لتقديس المثل العليا القيمية وترسيخ السلام العالمي من خلال أستخدامه العقل واللاوعي ، وأثرى السردية بتعزيز الفكر والهوية لأثراء اللغة عند القاريء ، فهو بأعتقادي واحة فكر وخيمة أبتكار وبيت للحكمة وغيمة مطر تحطُ حيث الأبداع ، البطل الرئيسي في حوارات الرواية هو نعمان الطالب الجامعي شاب في مقتبل العمر يجمع كل صفات الجنتل مان من رجولة ومروءة وذكاء متوقد ذات شخصنة كارزمية ، وقع في شباك حبٍ حقيقي ملتهب مع  سناء طالبة بورجوازية ذات جمال بارع وأخاذ ، وكان الزمن المخملي الجميل لهما  فاق البطل نعمان من أحلام اليقضة الوردية الجميلة ، بتبليغ تجنيد قضاء السلمان مسقط رأسه لأداء الخدمة العسكرية ، ويسوقه قدره المحتوم إلى جبهات القتال في ثمانينات القرن الماضي ويخوض هذه الحرب القذرة التي وصفها الروائي والشاعر المبدع شلال بقوله في ص44 : { إن الحرب لا تورث سوى الويلات والدمار والقتلى والأيتام والمعاقين والنفوس المريضة ، توحش دمار تنكيل ظلم طغيان فهي عدو الأنسان ، ومن قال إن الحرب فيها منتصر ؟! وهي تسرطن النفوس } ، وتتصاعد ثقافة  المواطنة والمروءة والأنسنة في أعماق الذات للروائي المبدع شلال عنوز ، وكأني أراهُ وبيده شعار مكتوب عليه : متى يصدر قانون دولي بتحريم الحرب أياً كانت ؟! .

 وبروايته “وكر السلمان”  أبدع وهو يحتفي ضمن فصول الرواية بقضايا الرأي والثقافة والتأريخ والقانون والشعر ضمن المألوف مركزاً بعمله على الأشكال الأبداعية ويتواصل مع المبدعين أينما وجدوا ، والغريب أثناء السرد الباذخ والشهي لم يتقرب بالمساس من الأديان والقوميات والأقليات والثقافات المحلية وكل ما يثيرالنعرات والكراهية ، هو من كتاب الواقع على نحوٍ متميّز حيث الخيال والعمق دون غموض أو تقييد وعموم المبالغة ، نجح شلال في توظيف القانون في روايته ” وكر السلمان ” متقارباً مع توفيق الحكيم في روايته عصفور من الشرق، وتوظيف صبر همنغواي في روايته الشيخ والبحر ،وكذا توظيف تصارع الأضداد ( الجنون والعقل ، الخير والشر ، الرحمن والشيطان ، الحرب والسلام ، الحقيقة والزيف ) من ديستوفيسكي في روايته الأخوة كارمازوف.

وأعتبرهُ من رواد التحديث فكان في روايته هذه موفقاً في توظيف تقنيات الفن الروائي وأبعاده عن الخطابة والتقريرية التي ربما وجدت في أدبيات القرون السابقة ، فهو رسم الأحداث والشخصيات بشكل مقنع يدعو القارئ للغوص فيها ، وشكلت الرواية مدخلا أساسياً لمنظري تجار الحروب وعشاق السلام العالمي ، وأن دراسة تجربة شلال عنوز جعلتني أعتقد جازما أن هذا الروائي الشاعر قد أتقن مفهوم المتضادات والمتقاطعات مثل الحرية والعبودية ، السوي والمنحرف ، الحرب والسلام .

طرز روايته بالشعر ومن أرقى صنوفه الشعر الغزلي والعشق الممنوع ووصف الحرب الطاحنة ، يوحي للمتلقي أن الشعر أرقى أشكال التعبير اللغوي وهو من أوائل الفنون العربية الجميلة ، وللبحث عن التكامل الجمالي في روايته تألق في البحث عن الأيحاءات في أستلابات الوعي بالقهر فهو حقاً أبهجنا بأبيات قمة بالأشراق الرومانسي للحب ممزوجة بنفثات موجعة ، فهي إذاً ذات طابع درامي في بناء معماري رصين تبرز مركزية الأنسان والصراع الطبقي وتناقضاته يستحضرها الشاعر والروائي في هذه الأبيات – وهو يقول : على لسان سناء ممثلة الرواية الأنثوية وهي تداعب مشاعر حبيبها نعمان :

فأعلم إني أروض النفس على أن لا تفارق طيفك

متى يا ترى ترقص الأماني ويورق التوق؟!

ورد الشاعر والروائي شلال على لسان بطل الرواية الرئيسي نعمان

أيتها الغافية فوق مفازات روحي

الدافقة بالغناء على منائر الأحلام

وهو شاعر متمكن فذ له منجزات ثرّة وثرية مثل : مرايا الزهور ، وبكى الماء ، السماء لم تزل زرقاء ، ديوان حديث الياسمين ، ديوان صدى الفصول ) .

تمكن من رسم السعادة بأرق معانيها ورسم الوجع والحزن بأبشع معانيه ، وعرّى واقع الحرب المأساوية بكل جرأة ، وبيّن عبثية الحياة في جغرافية الصحراء المستلبة ، يأمر أبطال الرواية أن يعايشوا الجفاف الروحي على رمال تبتلع الدموع وعرق حمى اليأس والأستلاب النفسي والمادي كالثقوب السوداء في درب التبانة الموحش .

وكذا عمل على تكثيف القصة بأختصارٍ عاجل لينقلك إلى حدثٍ مستجد ( تقزّمْ) زمن العشاق بحسابات النظرية النسبية  (مجالسة الحبيب ليوم يختصرها الروائي البارع شلال بجلسة سويعات في كازينو البرازيلية في شارع الرشيد أو في مطعم دنانير في المنصور ) مع الميل الواضح للحداثة والتجريب بلغة جميلة مهذبة .

 التنويع في النص السردي بين لحظات رومانسية في شارع النهر والكافيتريات وذكريات لا تنسى على ضفاف دجلة الخير وإلى ساحات القتال حيث الموت المجاني ودخان كثيف ممزوج بعواصف ترابية وأصوات المدافع وتصدير الجنائز إلى العراق ، وهذا وذاك رسمها بواقعية مشهودة ويميل أحياناً إلى المزج بين تلك الأحداث بمزج الخيال بالحقائق الواقعية

وينقلنا برشاقة وشفافية روائي شاعر ورجل قانون إلى دراسة مفهوم الجريمة والذي هو الجزء البوليسي من الرواية ، فهو يقول في مفهوم الجريمة { الجريمة ظاهرة أجتماعية أزلية يرتبط وجودها ببدايات وجود المجتمعات الأنسانية ، والجريمة تحدث كسلوك عدواني جراء تضارب وتعارض سلوك الأفراد لتحقيق رغباتهم وأهوائهم ص11} ، نعم تكون رواية ” وكر السلمان ” شاهدة على دموية الحرب العراقية الأيرانية وأثارها المستلبة ودورها الخطير في تعاسة العراقيين وكان من مخرجاتها شيوع الجريمة في الأرض العراقية ، ولأن الحرب هي الجريمة الأم التي تفرخ الجرائم الفتاكة الأخرى ، وولدت أجيالاً من المعاقين نفسيا ً، فأصل الجريمة حدثت على جغرافية الحدود العراقية الأيرانية بطلها شخص معاق نفسياً وأحد ضحايا هذه الحرب ، وحظهُ النحس نعمان أصيب بأصابة بليغة خضع لتداخل جراحي خرج من المستشفى بتقرير طبي مشؤوم (بتر جزء من الساق مع ذكوريته ) ، ربما هي من الروايات القليلة التي نحت بهذا المنحى بأقترابها من الجرائم البوليسية .

وتلبسته شياطين سايكولوجي الأنسان الغير سوي أثر جينات الحرب الكراهية والحقد ، والأنتقام ، والقتل ، ولعبت آفة  (الأنا ) في رأس نعمان أن يخفي الخبر التراجيدي المأساوي عن سناء ، ويستدرجها بعد يوم من خطوبتها  إلى وكر الشيطان حيث سكناه في قضاء السلمان ، ويظهرإنهُ أدمن الدم والقتل وغدرأعز وأقرب أصدقائه ناظم ومهند وناصر ، وهنا ينقلنا الروائي بحركات رشيقة ومشوّقة مارأ بمدينة السماوة شاهدة التأريخ على مذبحة ” قطار الموت ” وأستلاباته الروحية ، ولعب الروائي وبمهارته الفذّة بمذهب الحب والعشق الملتهب بين الحبيبين ( نعمان وسناء ) وبفعل صواعق تراجيديات ومآسي الحرب أسدل الستار بذبح ذلك الحب العذري الملتهب بغدر العاشق الولهان بأن ينتهي بنهاية مأساوية يسودها الدم والجريمة بسكين العاشق الغير سوي نعمان ويذكرني برواية ” بائع الحليب ” لآنا بيرينز في مفهوم العنف ضد المرأة ، ورسم الروائي شلال عنوز نهاية سفاح السلمان بالتلاشي في تيه الصحراء ومتاهات الجفاف الروحي والجسدي وطعاما مرّاً للذئاب المتوحشة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى