صور الإنسان والإنسانيّ في شعر عبد الرزاق الربيعي

زكرياء الزاير | شاعر وباحث من المغرب

 

وأنت تبحث عن اسم عبد الرزاق الربيعي، يلفت انتباهك كثرة الأعمال الأدبية المتميِزة للرجل في مختلف الأجناس، من شعر ومسرح ونقد وغيرها، كما تلمَح من خلالها ذلك الزخم المعرفيّ الذي تحمله هذه المؤلفات. فهو قارئ نهم ومطَّلع حَصيف وأكاديمي متبحِر في دروب المعرفة على اختلاف أشكالها ومشاربها، مما جعل أعماله مفتوحة على أبعاد ثقافيّة مختلفة. ولا بد، وأنت تحاول الاقتراب من أعمال عبد الرزاق الربيعي، أنْ يثيرك ذلك الملمَح الإنسانيّ المتجسِّد في أعماله الشعريّة، من خلال التصوير البديع في مته، راسما من خلاله أبعادا فنية وجماليّة ركيزتها الإنسان، وفي ذلك دليل واضح على دفاعه على الإنسان في شموليّته وكونيّه.

أهم شروط الكتابة عند عبد الرزاق الربيعي: اللغة والموقف؛ فاللغة الشعريّة عنده تحمل صورا محبوكة بعناية شاعر تمرَّس في المجاز وأَتقن نسج القوافي، لا يغوص في المعاني المركبة بقدر ما يبحث عن اللحظة الشعريّة، المتمثلة في التقاط التفاصيل اليوميّة الصغيرة والمدهشة، التي تغوص في طبيعة الإنسان الأولى بكل ما تحمله من خصوصيّة برهافةٍ وحسٍّ.  أما الموقف لديه يتجسَّد من خلال القضيّة؛ قضيّة الإنسان، دفاعا عنه وانتصارا له، فيحضر في شعره الحب والحرب والصداقة والطفولة والمرأة، متمثلة (القضية)كلها في صور تحكي انشغالات الإنسان المعاصر وتطلعاته وخيباته وانتصاراته.

 ويتضح أن جُلّ قصائد عبد الرزاق الربيعي تحتوي أشخاصا وأمكنة ارتبط بهم الشاعر، يَظهر ذلك بشكل صريح أحيانا عن طريق الإهداء، أو بشكل ضمني انطلاقا من سياقات القصائد. كما يغلب على القصائد أيضا طابع التكثيف الملحوظ في المقاطع التي تحمل أشكالا تصويرية ذات دلالات عميقة متجذرة في وعيه ولاوعيه.

 

يقول في قصيدة “المشهد الأخير” من ديوان “ليل الأرمل”، متصدِّرا القصيدة بإهداء إلى الأخ والصديق في ذكرى موتهما، مبرزا فيضا من المشاعر:

إلى صديقي، وأخي سالم بهلوان

وإلى أخي، وصديقي محمد جبار الربيعي

كلاهما وضع يده بيد الثاني

في رحلة الغياب المفاجئ“(1)

(..)

في راحة الأمير

يبسط الطائر جنحيه

على الرمال

حيث المشهد الأخير

الملاك جاهز

و(كادر) السماء

جاهز

العرش والضياءْ” (2)

وفي قصيدة “ما تبقى من ظلام” من ديوان “ليل الأرمل”-وهي مهداة إلى الفنان العراقي موفق أحمد الذي يعيش وحيدا- لمحة إنسانيّة بارزة، يقول:

صباح كلِّ يوم

اعتاد أن يزيح الثلج

عن نافذة الوحدة

من على الطابق العاشر

يلقي نظرة على ما تبقى من ظلام” (3)

وفي قصيدة “على حائط يوليوس قيصر” من ديوان “ليل الأرمل”، يُظهر شكلا من الارتباط الوجداني والعاطفي نحو الأصدقاء، فيه نوع من الانكسار والخيبة. يقول:

طعنة نجلاء

في القلب

وبرق خلَّبُ

أصدقائي

خارج التقويم

لما طُلبوا

زرعوا الخنجر

في الوردة

ثم انسحبوا” (4)

وفي قصيدة “ثياب (عَزّة)” من ديوان “قليلا من كثير عَزّة”، تجسيد للعمق الإنساني، بحيث فتح صوره على الوجد والشجا والحزن، نتيجة فقده لزوجته عَزّة، وكما يقول عنه حاتم الصكر “كم ستبدو كلماتنا فارغة وقاسية ونحن نتقصى الألم الفادح الذي يقطره ويكشفه الشاعر عبد الرزاق الربيعي في مرثيته الطويلة لزوجته عَزّة”(5). يقول:

ذكراك المعلقة

في دولابك

وحائط أحزاني

من ينزلها من عليائها

سوى يداك التي أورقتْ

في الغياب” (6)

تتجلى في هذه المقاطع صور ارتبطت بعلاقات إنسانيّة قوية متجسِّدة في الأخ والصديق والزوجة التي غيّبها الموت، وفي ذلك استجلاء ورسم لأبعاد إنسانيّة يَبثُها ويصورها الشاعر عبد الرزاق في متنه الشعري، معلنا عن موقفه الإنسانيّ ومجسِّدا إياه تجسيدا راقيا. يتجسّد هذا الرقي من خلال الأشخاص ومن خلال الأمكنة كبواعث على المشترك والحضاري فالإنسانيّ. فيرتبط ذلك بالمتلقي بدون سابق إنذار من خلال حمولة تاريخية راسمة أحداثا وملابسات عديدة بطلها الإنسان والإنسانيّ. 

يستمر هذا التجسيد دائما ضدا في الحرب والعنف، فيظهر من خلال قصيدة “شرفة” من ديوان “خرائط مملكة العين”. يقول:

إطلالة فوق دجلة

من شرفةٍ كالسماوات مفتوحة

للطيور الأليفة

وهي تمدّ مناقيرها

في الهواء الحنون

أهذا الذي

يبقى لنا

مقعدان

وطاولة من الخشب المتهالك

أنات روحين غارقين

بماء الهشاشة” (7)

وفي قصيدة “طيور (سبايكر)” من ديوان “طيور سبايكر” تجلي آخر لرفض الحرب والعنف. يقول:  

تعبت البنادق

ولم يتعبْ منجل الموت

من تهشيم المهج الفضّة

في محرقة وادي الرافدين” (8)

كما يتحلى هذا الرفض في قصيدة “قميص مترع بالغيوم” من ديوان “قميص مترع بالغيوم”، وقصيدة “غدا تخرج الحرب للنزهة” من ديوان “غدا تخرج الحرب للنزهة” قصائد ضدّ الحرب ومشتقاتها. يقول:

مرة أخرى يتكرر المشهد

رجل مطرز في المقعد المرتّب

مثلما

طُرّزت امرأة

في المقعد المعدّ لكِ” (9)

(…)

غدا تجرج للحرب للنزهة

زينو المستشفيات بالأدوية

والضمادات والمشارط ” (10)

إنّ أسلوب عبد الرزاق الربيعي الشعري الجميل والدافئ يسري بك نحو الإنسان، بسهل ممتنع يراقص من خلاله الكلمات ويختار العبارات برشاقة وخِفة، وفي ذلك نوع من الاشتغال المموسَق الذي يجمع بين العبارة والإيقاع، لينفتح على رؤية إنسانية.  فيستمد رونقه وسحره من صوره التي تُحدِث في نفس المتلقي ذلك الإحساس العميق بالمعاني التي ويغوص في كنهها ويستجلي رموزها. والصورة في شعره ركيزة أساسية في بناء القصيدة، بحيث تُعدّ عنصرا ضروريا في تشكيل بنية القصيدة لديه من الناحية الفنيّة والدلاليّة. فهي باعثة على محاكاة تذبذبات النفس وتطلعات الوجدان إلى هذا العالم المحيط بنا لتشكيل معرفة غير ثابتة حوله ومن خلاله. ثم هي محاولة للتعبير على هذا العالم تعبيرا استشرافيا وبحث في تفاصيل الواقع/ المكان. هذا المكان/ الأمكنة التي يقرنها عبد الرزاق الربيعي بالأشخاص راسما من خلالهم (الأمكنة والأشخاص) صورا تفاعلية ذات مرجعية في ذاكرة الشاعر أولا والذاكرة الجمعية ثانيا.

يتماشى هذا الأمر مع طبيعة الشعر الذي يسعى من خلاله الإنسان إلى البحث في أشكال الطبيعة لتحقيق تكامل وانسجام مع إيقاع الحياة، وتكسير الأنماط السائدة عن طريق التمرّد والرفض والهدم أحيانا، في كل ما من شأنه أن يجعل العالم في انسجام وسكون. وفي ذلك تكامل يقوم على عدّة أسس فنيّة وجماليّة بين الشاعر وقضايا الإنسان ” والذي تقوم على أساسه فلسفة الصورة في شعرنا الجديد خاصة”(11).

فالشاعر، بتعبير عز الدين إسماعيل،” حين يستخدم الكلمات الحِسيّة بشتى أنواعها لا يقصد أن يمثل بها صورة لحشد معين من المحسوسات، بل الحقيقة أنه يقصد بها تمثيل تصور ذهني معين له دلالته وقيمته الشعورية. وكل ما للألفاظ الحِسيّة في ذاتها من قيمة هنا هو أنها وسيلة الى تنشيط الحواس وإلهابها” (12).

وبذلك فالشعر عند عبد الرزاق الربيعي هو لهب يسري بعروقه في مسيرة بحثه عن الإنسان في دواخله والإنسانية في شعره. وهي خصيصة لا توجد إلا عند كبار الشعراء، أمثال لوركا وأودن وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش … وغيرهم من الشعراء الذين حافظوا على القضية بروح إنسانية خالية من الشوائب.

هوامش:

  1.  عبد الزراق الربيعي، الأعمال الشعرية الكاملة ج1، ط1- 2019، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، ص05.
  2. نفسه، ص 11.
  3. نفسه، ص 15.
  4. نفسه، ص 21.
  5. نفسه، ص 77.
  6. نفسه، ص 90.
  7. نفسه، 179.
  8. نفسه، ص 379.
  9. عبد الزراق الربيعي، الأعمال الشعرية الكاملة ج2، ط1- 2019، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، ص 09.
  10. نفسه، ص 77.
  11. عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الفكر العربي، ط 3/ 1966، ص 127.
  12. نفسه، ص 132.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى