موسيقى الحالة

عبد الله جمعة | شاعر وناقد من الإسكندرية

حين يُذْكَرُ مصطلح “موسيقى القصيدة” يسارع ذهن المتلقي بل الشعراء أنفسهم على غالبيتهم إلى بحور الشعر و تفعيلاته، وهذا من عيوب التلقي؛ فللشعر عناصر أخرى للموسيقى غير؛ فأصوات الحروف المتضمنة في الكلمات المنتخبة لمن أهم عناصر الموسيقى الداعمة و بقوة لأصوات الموسيقى الإيقاعية التفعيلية و عملية انتخاب الحروف بأصواتها التي تناسب الموجة الوجدانية عملية تلقائية ربما أفسدتها عمليات التشوش اللغوي التي صاحبت موجات مظاهر الحضارة الحديثة و ظهور مظاهر صوتية دخيلة شوشت على الأجيال الحديثة الفطرة اللغوية السليمة ؛ لذلك كان لزامًا على الشاعر لاستعادة تلك الفطرة أن يُعيدَ تدريبها بدراسة علم الصوت حتى يصل إلى إيقاظ فطرته و استعادتها لتكون قادرة على انتخاب الأصوات الصحيحة لمناسبة وموازاة دراماه النفسية .

ومن أهم ذلك إدراكه مبدئيًّا ببعض مصطلح عملية إنتاج الصوت؛ تلك التي تفسر لنا الخصائص المادية أو الفيزيائية لأصوات الكلام أثناء انتقالها من المتكلم إلى السامع . إن العملية الصوتية تتضمن ثلاثة عناصر:

– وجود جسم في حالة تذبذب.

– وجود وسط تنتقل فيه الذبذبة الصادرة عن الجسم المتذبذب.

– وجود جسم يستقبل هذه الذبذبات.

ومصدر الصوت يتمثل في أي شيء يحدث اضطرابًا أو تنوعًا ملائمًا في ضغط الهواء وهو في أصوات اللغة أعضاء النطق و لا سيما الوترين الصوتيين اللذين يتحركان في اتجاهات مختلفة وبأشكال متعددة وتنتج أصواتًا تسبب تنوعات في ضغط الهواء .

وعملية انتقال الأصوات تتم بسرعة من مصدرها إلى أذن السامع لدرجة تجعلنا نتخيل أننا نسمع في نفس اللحظة التي ينطق فيها، و لكن في الحقيقة يوجد وقت قصير بين النطق والسمع يسمى “زمن الصوت”؛ ففي حالة وجود مصدر صوت بعيد مثل بندقية أو مدفع أو برق مثلا فإننا نرى ضوء الانفجار قبل سماع صوته، ولنفهم هذه الظاهرة من المناسب أن نتصور الهواء بين آذاننا و مصدر الصوت كما لو كان مُقَسَّمًا إلى عدة أجزاء متتالية يسبب مصدر الصوت تحركات لهذه الأجزاء المتجاورة فتنتقل الأصوات من جزء لآخر متباعدة عن مصدر الصوت وهكذا حتى يمتد التأثير بعيدًا عن مصدر الصوت و ينتشر خارجًا حتى تلتقطه أجهزة السمع لدينا .

ثم تأتي حركة مصدر الصوت، فالصوت يحدث نتيجة حركة أو ذبذبة لمصدر الصوت، هذه الحركة قد تكون بطيئة فيمكن رؤيتها بالعين المجردة و قد تكون سريعة لا ترى بالعين…

و حركة مصدر الصوت نوعان:

– دورية منتظمة .

– غير دورية ، غير منتظمة .

كما تكون:

– بسيطة .

– مركبة .

ثم يأتي تعريف التردد و هو عدد الدورات الكاملة في الثانية الواحدة و كل جسم متذبذب له تردده الخاص الذي تتحكم فيه مجموعة من العوامل المتعلقة بالجسم المتذبذب مثل الوزن والطول و بالنسبة للوترين الصوتيين نسبة الشد وبالنسبة للتجاويف الكتلة والشكل والامتداد .

و يعنينا جدًّا تردد صوت الأوتار على اعتبار أن الحروف اللغوية تنتج عن الوترين الصوتيين .

فالوتر المشدود تردده أكثر سرعة من الوتر المرتخي و هذا ما يفرق بين صوت المرأة الحاد وبين الصوت السميك عند الرجل وكذلك شد الوترين الصوتيين من حرف لآخر من حروف النطق ليحدث الفوارق في النغمات الصوتية للحرف ذاته .

و قد أثبتت التجارب أن أقل تردد يمكن أن تستبينه الأذن كصوت حوالي من ١٦ – ٢٠ دورة في الثانية و أعلى تردد يمكن أن تسمعه الأذن حوالي (٢٠٠٠٠) دورة في الثانية … و فوق هذا أو تحته لا تستقبله الأذن أو تستبين صوته ؛ و هذا يفسر ظاهرة عدم سماعنا أصوات بعض المخلوقات برغم صدورها و مرور تردداتها أمام آذاننا كصوت النمل مثلاً حيث منح الله سبحانه و تعالى سليمان النبي قدرة في جهازه السمعي تمكنه من أن يستمع التردد الصوتي للنمل و المعجزة هنا كمنت في تغيير خواص الجهاز السمعي له ليصبح ذا خواص تستقبل التردد الذي هو أدنى من ١٦ تردد في الثانية فاستمع صوت النملة دون أدنى صعوبة، وهذا أيضًا تفسير علمي منطقي لكيفية سماع سليمان صوت النملة.

و عملية قياس التردد؛ إذ يقاس تردد حركة الجسم أو تردد الذبذبات بعدد الدورات التي يحدثها في الثانية و اصطلح عليها في علم الصوت بالرمز CPS و الدورة عبارة عن تكرار كامل لنمط الموجة أو بمعنى أوضح هي “ذلك الجزء من الموجة بين أي نقطة و النقطة التالية” ويطلق على الدورة كذلك اسم “الفترة الواحدة One period أو الذبذبة المضاعفة Double vibration .

و الموجة الصوتية هي مجموعة من الذبذبات الصوتية المتعاقبة التي تنتج إحداها عن الأخرى و قد سبق أن ذكرت أن مصدر الصوت يسبب تحركات في أجزاء الهواء المجاورة له و أن هذه الأجزاء تضغط على الذرات الهوائية المجاورة لها و هكذا… و لو حدث أن أوقفنا الجسم بعد أن أتم ذبذبة واحدة لكان ما حصلنا عليه هو ذبذبة الجسم وذبذبة الذرات المجاورة له ثم ذبذبة الذرات المجاورة للأولى ثم ذبذبة الذرات المجاورة للثانية وهكذا … ومجموع هذه الذبذبات كلها هو الموجة الصوتية .

و إذا سألنا كيف يمكن التفريق بين صوت وآخر قلنا: هناك عوامل كثيرة يمكن عن طريقها إنتاج أصوات مختلفة عن بعضها البعض وهي:

١- العلو: فإذا ضربنا على وترين متماثلين ضربتين واحدة برفق والأخرى بقوة فإن الصوتين الناتجين سيكونان مختلفين فالطاقة الأكبر تنتج سرعة ذبذبة أكبر و صوتًا أعلى .

٢- درجة الصوت: فأذا ضغطنا على إصبعي بيانو مختلفين بصورة واحدة أدت إلى أن يكون العلو واحدًا سيصدر صوتين مختلفين و يرجع الفرق الرئيس بين الصوتين أن أحدهما أعلى في الدرجة من الآخر و تكون درجة الصوت أعلى كلما كانت الذبذبة أسرع و عددها في الثانية أكثر و يوصف أحد الصوتين بأنه رقيق و الآخر بأنه سميك.

ونوع الصوت يعرف من خلال صدور نغمتين ربما اتفقتا في درجة الصوت وفي العلو ولكنهما أنتجتا بآلتين مختلفتين مثل بيانو وكمان .

ثم يأتي سؤال أخير و هو: كيف يتم إنتاج الكلام؟

إن القناة الصوتية تنتهي في أحد طرفيها بالأوتار الصوتية و هي في طرفها الآخر مفتوحة للهواء من بين الشفتين و فتحتي الأنف ؛ لذا فهي تُكَوِّن حجرة رنين في شكل معقد “سبحان الله”.

و حينما يوضع الهواء في داخل هذه القناة في وضع حركة يتذبذب بشكل مركب يؤدي إلى تكوين الموجات الصوتية التي نسمعها و يختلف شكل هذه الذبذبات تبعًا لمواقع أعضاء جهاز النطق و بخاصة تبعًا لتحركات “الحنجرة و اللسان و الشفتين و الطبق اللين” .

و قد ثبت عن طريق التحليل “الأكوستيكي” للكلام أن الاختلافات الصوتية التي يمكن إدراكها تعود إلى:

– درجة الصوت المتكون في الحنجرة بين الجهر و الهمس و الاحتكاك و الانفجار و التفشي …. إلخ .

– اختلاف الموجات الصوتية تبعًا لاختلاف مكان النطق و لاختلاف الشكل الكلي للتجويف ما فوق الحنجرة أثناء نطق الكلام .

كان ذلك عرضًا موجزًا لبعض المفاهيم في علم الأصوات الأكوستيكي للوقوف على خطورة ما اكتشفته من دلالات لتلك الحروف التي أحصيتها في بعض القصائد الشعرية لشعراء يعيشون بيننا؛ إذ اكتشفتُ أن مخارج الحروف عند الشاعر إنما تحددها الحالة النفسية له والتي هي محل التعبير عنها داخل القصيدة، وأن الموجة الدرامية للحدث الشعري داخل الإطار التعبيري في القصيدة إنما ترتبط ارتباطاً وثيقًا بصوت الحرف الناتج عن الشاعر مصاحبًا لكلماته و جمله الشعرية كجزء من نسيج الحالة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى