بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية (1)

علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك – العراق

                               (1)
                    السقوط من ذهب !

قال لي الناقد حسب الله يحيى بعاطفة (الأم تيريزا) : هل تناولت غداءك؟
قلت :لا.
قال: اذهب إلى المطعم، وتغدَّ وسأخبرك لاحقا بمسألة ما.
كنت متكدّر المزاج بسبب متاعب النقل بحافلة ال”تويوتا الكوستر” القديمة المتهالكة التي يعود تاريخ استيرادها من اليابان إلى سنة ١٩٧٩ م وقد اكتسبت وقتها شعبية واسعة وكانت تعدّ كطائرة البوينغ في عالم الطيران قياساً إلى السيارات الأخرى قبل أن تسحب منها البساط سيارات “الكيا” ذات المقاعد غير المريحة .
وصلتُ بعد عناء إلى مقر جريدة (التآخي)  في شارع ٥٢ في حي الصناعة في الرصافة، وهي منطقة راقية تضاهي منطقة المنصور في الكرخ، وعلى الجانب الغربي من الشارع المقابل الموازي له يمتدُّ الشارع المرقم ٦٢، إذ  تنتشر محال أجهزة الحاسبات، وصيانتها ويعجّ الشارع بطلّاب الجامعة التكنولوجية طوال النهار، وتنعم المنطقة بهدوء مقلق في الليل ولا يسمع فيها الأذان. تحيط بالمكان الكتل الكونكريتيكة من جانبي الزقاق بما يشير إلى إستمرار الحرب، وعلى مقربة منه  يرابط حرس لإحدى الشخصيات السياسية المثيرة للجدل، وتجاورها  فضائية كردستان، وخلفها مقرّ الفرع الخامس للحزب الديمقراطي الكردستاني، وتشغل الجريدة مقر تنظيمات فرقة الرشيد (لحزب البعث المنحلّ) سابقا !!
هل يكتسب الخصم بعض صفات خصمه؟
تنازع بعض اتباع الحزبين الكرديين الديمقراطي، والإتحاد الوطني الكردستاني  بعد التغيير النيساني عام ٢٠٠٣ م على بعض البنايات، واتفقا على أن تكون حصة حزب  الاتحاد الوطني  بناية مطبعة جريدة (العراق) في كراج باب المعظم ليصدروا من هناك جريدة (الإتحاد) مؤقّتا قبل أن يتركوا البناية كي تكون مطبعة لجريدة (التآخي)، وينتقلوا إلى شارع فلسطين، ويقيموا مع قناة ( الحرية) الفضائية ثم إلى حي التشريع ويحتلوا مقرّ جريدة (القادسية) بينما آلت بناية حزب البعث إلى الحزب الديمقراطي  الكردستاني، وقد أقام شخص كان من المهجرين دعوى لاسترداد البناية مدّعيا أنها كانت بيته قبل أن يأمره رجال الأمن سنة ١٩٧٩ م بمغادرته بتهمة أنه إيراني، فترك البيت مرغما لكن القضاء رد الدعوى فعاد الرجل خائبا من حيث أتى !
يحلو لمدير الشؤون المالية والإدارية (سرمد فاضل شوكت) وصف مكان الجريدة، وتوزيع الغرف على طريقة الحوش البغدادي بأنه كسوق الخضراوات لا مكان جريدة !!
رددتُ  على الأستاذ (حسب الله يحيى) بالقول، وقد أحسستُ أن حدثا سيئاً في الطريق اليًَ وأني مرشح للتسليب :
أرجوك.. أبا بدران اخبرني ، مهما كان الأمر.
لم يكن إحساسي  هذا  ناتجا عن شعور مجرد بالفقد، بل يستند إلى وقائع عشتها خلال الأسابيع الثلاثة الماضية من عودة الجريدة إلى الصدور بعد توقّف دام عشرة أشهر ؛  في البدء كنت أردّد جملة  :  (عدنا والعود أحمد !) ولم أدر أن العود أحمق ! ثم صرتُ أعيد بيتا لشاعر ضاق ذرعا بحكم آل العباس، فقال  :
يا ليت جور بني مروان دام لنا
     وليت عدل بني العباس في النار !
واحد وعشرون يوما ، قضيتها وأنا أبحث عن تفسير لحالة الجفاء، ونظرة الازدراء التي يقابلني بها رئيس التحرير الجديد الذي كلّما نادوه بصفة (أستاذ) ينتابني شعور أشبه بشعور من يهوي من أعلى جبل إلى  أعماق واد سحيق، وأن شيئا خاطئا يحدث في العالم  إن استمر الوضع هكذا مما يعني أننا مقبلون على المزيد من الكوارث!
عشت أسوأ مدة  في حياتي الصحفية ذلك لأن أقسى شعور على المرء هو إحساسه بالنبذ، وأنّه  غير مرغوب فيه من دون ذنب، أو تصرّف بدر منه  سوى أنه يشكل ذاكرة لشخص ليس له من مهارة سوى إلحاق الأذى بالآخرين!
كانت ظهيرة يوم السبت الموافق  ٢٠١٥/٦/١٣ م ملتهبة، إذ تجاوزت درجة الحرارة الخامسة، والأربعين وأنا في الغرفة التي تجمعني مع زميلي القاص (سالم بخشي خدادا المندلاوي) ومسؤول الملحق الثقافي (حسب الله يحيى) الذي يحمل فوق ظهره  معارك صراعه مع التحديات بسنواته السبعين، وآلام داء الشقيقة مع ثلاثة جروح لم تندمل الأول : وفاة زوجته الأولى في ريعان شبابها والثاني مقتل ابنته الوحيدة في الموصل  على يد أعداء الحياة، ثم محنة اختطاف إبنه المتدرب على العمل الصحفي (أزل الجبوري) في صباح يوم ٢٠٠٦/١٢/١٠م  في شارع حيفا  واختفاء أثره لأربع سنوات ونصف، ثم التحقق من مصيره يوم الأحد ٢٠١١/٥/٨ م بعد ذهاب ابنه الفنان والتدريسي ( د. صميم حسب الله) إلى مستشفى الطب العدلي في الباب المعظم ببغداد، وقد تبيّن له أن (أزل) كان قد قتل بعد يوم واحد من اختطافه، وقد قامت منظمة إنسانية بدفنه بعد شهر واحد كشخص مجهول الهوية برقم معيّن في مقبرة بكربلاء.
كانت المراوح السقفية الحديثة تناضل لتخفيف موجة الحرّ التي تعزّز مقولة الشاعر الصعلوك جان دمو الذي تعجب بصيغة الاستفهام من ارتفاع حرارة المناخ في ظهيرة يوم تموزي بعد خروجه من جريدة (الجمهورية) فتساءل : هل هذا وطن لو فرن !؟
يومها، ما زال الإحساس بالذلّ، والهزيمة مهيمنا علينا بعد سقوط ثلث مساحة البلد بيد ( داعش)، وسقوط الثلثين الباقيين تحت وطأة الشعور بالهزيمة، واستئساد بعض شركاء الوطن على سلطة الدولة، والتلويح، بل التصريح بإعلان استقلال اقليم كردستان العراق ؛ واتخذ الخطاب الإعلامي لبعض  المسؤولين الكرد لهجة عدوانية، ووصفوا رئيس الوزراء ب(الدكتاتور) . والمثير في القضية أنّ رموز الحكومة الإتحادية يهاجمون في عقر دارهم حتى قيل :هل يسمح  في الإقليم أن يهاجم إعلامي مسؤولا كرديا في أربيل مثلما يهاجم الإعلاميون هنا في وضح النهار مسؤولين في بغداد؟
كنت أهم  بإعداد صفحة (تربية وتعليم) التي كلّفني بها (حسب الله يحيى) الذي يقوم بمهمات مدير التحرير، ولم يصدر فيه أمر إداري بعد لأنه تجب موافقة المكتب الإعلامي في الاقليم، وربما ظنّ (يحيى) أن الوقت صار مناسبا لفرض رؤيته بإدارة الصحيفة، فكان يتدخّل في جميع الصفحات، ويكتب بأسماء مستعارة كثيرة، وحصل على وعد من ( الأستاذ) بصرف مكافآت سخية للكتاب بما فيهم الأسماء الوهمية، فتراه يبكر في الوصول إلى الجريدة قبل الحرس، ولا يغادرها إلا بعد مغادرة آخر عامل.
كان أبرز ما فيه صراحته، و عدم قناعته بكثير من المواد التي تقدم له مما صنع له ذلك الكثير من العداوات مع الكتاب، وغير الكتاب، ولكن حلّت المسألة حين كلفت بإعداد صفحة (مدارات)، فصرت أتسلّم بعض الكتابات المرفوضة لكتاب عندهم أفكار مفيدة، وأعالجها، فأحفظ ماء وجوههم برغم أنّ هناك من يطلق عليها وصف( نفايات)!
كنت أكثر من التأكيد على هذه الفكرة : ترى ما جدوى وضع شروط صارمة لقبول مقال، ونشره بدعوى الاهتمام بجودة المطبوع مع كسر خاطر إنسان ؟ وماذا ينفع الحصول على الذهب الحقيقي إذا ذهبت قيم، وسقطت مبادئ يكافح المرء من أجلها لتعطي لحياته معنى، فكيف إذا كان ذهب المجد المزيف؟
كان تكليفي بصفحة (تربية وتعليم) بعيدا  عن توجهي الثقافي، والأدبي،  والمعرفي، ومع ذلك تكيّفت مع الوضع واتّصلت ببعض التدريسيين لكتابة عمود ثابت عنوانه (يوم في حياتي) يتحدّث فيه المعني عن يوم مميز في حياته في مسيرته التعليمية، وتعهّد الصديق المهندس (حسام صباح الدوري) بكلّ نبل، وكان يدرس الماجستير، ويدير عدّة صفحات بأن يزودني بآخر الأخبار العلمية والتربوية، ولكن  كل هذه الاستعدادات لم تعجب الأستاذ !
حاولتُ تغيير المصير الذي رسم لي بإتقان؛ أن أترك الجريدة بارادتي، فكتبت عدة مواضيع للخروج من دائرة الرفض، فجوبهت كلها بالرفض !
قال لي الصديق الكاتب( جمال الهنداوي) الذي يعد عدة صفحات منها الصفحة الأخيرة، وعرفتُ عنه فراسته التي لا تخطئ في كثير من الأحيان حتى وصف بأنه من دعاة نظرية المؤامرة. قال: ثق  يا أبا الحسن.. أنك لو كتبت (المعلقة) فلن تنشر !
رددتُ عليه : خير على خير ؛ فإن اتضحت نيات الجماعة في الإستغناء عنّي، فأنا على يقين أنّ هناك أبوابا ستفتح لي، ولم يخرج شخص من هذه الجريدة إلا وقد ناله التوفيق. ثم أردفت بسخرية  : إنّ من كان يعمل هنا على نظام العقد حصل فور خروجه من الجريدة على وظيفة في البرلمان، أما المرأة غير المتزوجة فيكون خروجها من (التآخي) فألا حسنا إذ أنها تحظى بزوج !
سأل  الهنداوي : وعلى ماذا يحصل المتزوج لو خرج من الجريدة ؟
قلت : يتزوج ثانية.!!
(السيرة مستمرّة … يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى