مريم تأتي

 

 

سعدي يوسف/ العراق

وللحظةٍ غمرتْكَ بالقبلاتِ

ثم نأت متوجةً بخوصٍ أبيضٍ .

في أي نهرٍ سوف تنغمس الأناملُ ؟

أي ماءٍ سوف يبتلّ القميصُ بهِ ؟

وأيةُ نخلةٍ ستكون مُتّكأً ؟

وهل يَسَّاقطُ الرُطَبُ الجَنِيّ ؟

أكان جذعُ النخلةِ المهتزُّ أقصى ما تحاول مريمُ ؟

الأشجارُ موسيقى ،

وهذي الشقة البيضاءُ في بيروت ما زالت أمام البحرِ

تخفق في البعيد مدينة مائية أخرى

وألمحُ وجه جَدّي : زرقةَ العينين، والكوفية الحمراءَ

ألمحُ في الحواجز وجهَ مريمَ ،

في المحاور خطوةَ الملكِ المتوّجِ بالقذيفةِ

يدخل الرومانُ منتظمين كردوساً ،

وقوميون يقتتلون في الدكانِ .

مريمُ في مدينتها ،

وأنت تراقب الطرقَ البعيدة : هل تجيءُ اليومَ ؟

كانت عند مزبلة الرصيفِ

وأوقدتْ نيرانَها ،

ومضتْ متوجةً بأدخنةٍ ،

تباركت المدينةْ .

لهفي عليكَ وأنتَ مشتعلُ

في الليلِ خلف الساترِ الرملِ

هل كان ينبض دونك الأملُ

أم كان يخفق منتأى الخيلِ ؟

كلما جئتُ بيتاً تذكرتُ بيتا

كلما كنتُ حيّاً تناسيتُ ميْتا

غير أن الذي جئتُهُ

غير ان الذي كنتُهُ

لم يعدْ لي

لم يعدْ غيرَ ظِلّ

وليكنْ !

إن ظلاً يصيرْ

خيرُ ما يُرتجى في ظلام المسيرْ

– 2 –

لو كنتُ أعرفُ أين مريمُ

لا تَّبعتُ النجمَ نحو بلادها،

لكنّ مريمَ خلّفتني في المتاهة منذُ أن رحلتْ

وقالت : سوف تلقاني إذا أحببتَني .

في الرمل أبحثُ عن أناملها

وفي أطلال “عينِ الحلوةِ” السوداءِ عن عينينِ ،

في باب “الوكالة” أسألُ الشبّانَ : هل مرّتْ ؟

وبين صحيفةٍ وصحيفةٍ أتسقّطُ الأنباءَ

في المذياع، أمس، سمعتُ صوتاً : صوتَ مريمَ ؟

أم تراها تسكن الطلقاتِ

بين الليلكيّ وبين حيّ السلّمِ المنخوبِ ؟

بيروتُ التي استندتْ الى أحجارها

فزّتْ كطير البحرِ ،

والعشاقُ يمتشقون رشاشاتهم

والبحرُ يهدأُ

ينصتُ الأطفالُ للصوتِ المباغتِ …

في البعيد حرائق ” ،

والطائراتُ تدورُ في أفقٍ رصاصيٍّ

لكِ العشاقُ والطلقاتُ … مريمُ

تدخلين ، إذن ؟

تعالي …

هذا الفضاءُ نظلُّ نطرقهُ

حتى نرى في الوحشةِ العَلَما

حتى يدور الطيرُ نُطلِقُهُ

نحو النجومِ ليطلق القَسَما

في البراري فلسطينُ ، في قبّراتِ المخابيءْ

في الرصاص الكثيفِ

وفي صيحةِ الراجمةْ

في الأغاني فلسطين، في الخصلة الفاحمة

في قميص الشهيدْ

في حديدٍ يردّ الحديدْ

في يدٍ

في زنادْ

في اقتراب البلادْ

-3-

ها نحن، مريمُ ، نرسمُ الطرقاتِ في الليلِ الملبّدِ

نرصدُ الطلقاتِ تتبعنا

ونقفز مثل عصفورين مذعورين بين قذيفةٍ وقذيفةٍ

ها نحن، مريمُ ، نهبط الدرجاتِ نحو الملجأ الليلي ،

نحصي الطائراتِ مغيرةً

ونقولُ : آمَنّا …

ونمشي ، خلسةً ، للبحرِ

نجلس خلف أكياس الترابِ

ونرقب الأمواجَ تهدرُ ، والشبابَ مقاتلينَ …

ثيابُهم مخضّرة” كالصخر عند شواطيء المتوسطِ

انتظري قليلاً ، كي نقول لهم : سلاماً

كي نباركَ بالدموع سلاحَهم

كي نمسحَ الخصلاتِ بالماءِ القليلِ

ونمضغَ الخبزَ المجفف صامتينَ …

ومريم ، المرآةُ والرؤيا ،

بشارةُ أن نموتَ ممجّدينَ

وأن نعيشَ كما يعيش الرفقةُ البسطاءُ

مريمُ تسكنُ الميلادَ

تسكن في الدم العربيّ

نتبعها ، وتتبعنا

ولكنا، هنا ، في قسوةِ اللحظاتِ

ننسج من عباءتها هويتَنا

وندخلُ في القيامةْ

في الموقع الحجريّ رايتُنا

مغروزة في وقفةِ الزمنِ

سنظل نغرزها ونغرزها

حتى نفجّرَ نبعةَ الوطنِ

وليكنْ ما يكونْ

وليكنْ أن يجيء الجنونْ

وليكنْ …

إننا القادمونْ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى