المستشار طارق البشري ( سيرة ومسيرة )

د . أحمد حسين عثمان | دكتوراه في المقارنات التشريعية –  مصر

لا أدري وأنا أكتب عن شيخنا وأستاذنا البشري بأي شعر أتمثل، لربما جاز لي أن أقول:

وَإِنَّ  صَخراً  لَتَأتَمَّ  الهُداةُ بِهِ ….. كَأَنَّهُ  عَلَمٌ  في  رَأسِهِ  نارُ

جَلدٌ جَميلُ المُحَيّا كامِلٌ وَرِعٌ.. وَلِلحُروبِ غَداةَ الرَوعِ مِسعارُ

حَمّالُ  أَلوِيَةٍ  هَبّاطُ  أَودِيَةٍ…… شَهّادُ  أَندِيَةٍ   لِلجَيشِ  جَرّارُ

ولربما جاز في حقه غير ذلك من الكلمات، وإذا كنت مترددا فيما يليق به من جميل الشعر ، فلا يمكن أن أتردد في أن المستشار طارق البشري من الشخصيات التي تحمل في عبائتها خطوطا عريضة ، فهو رجل تربى في بيئة علمية تجمع بين العمائم وتدينها، ورجال  القانون وانضباطهم، كما أنه شاعر ومؤرخ ، كل هذه روافد صنعت منه شخصية لها ثقلها العلمي ، واستطاع أن يضع كل هذه الاتجاهات في بوتقة واحدة يحسن من خلالها التعبير عن همومه تجاه الأمة والدين.

 إننا كل يوم في هذه الآونة الأخيرة نفجع بموت علم من أعلام الأمة ويعتصر القلب لهم حزنا ، ولاندري ما مصير مجتمعاتنا إذا لم يبق فيها المصلحون الصالحون؟!! إنه أمر يبعث على القلق ، وبعيدا عن كل هذه المخاوف التي تجتاح فكري وأن أسطر كلماتي عنه، فلابد من إلقاء الضوء على هذه الشخصية؛ ليدرك المجتمع تاريخها ويتفهمون المشروعات التي عاشت من أجلها خاصة وهو أحد تلاميذ السنهوري الذين حملوا هم الإصلاح  القانوني والتشريعي للبلاد .

 

أولًا: الميلاد والنشأة

  • ولد طارق عبد الفتاح سليم البشري في (1 من نوفمبر 1933م) بحي الحلمية في مدينة القاهرة في أسرة البشري التي ترجع إلى محلة بشر في مركز شبراخيت في محافظة البحيرة في مصر.
  • تولى جده لأبيه سليم البشري شيخ السادة المالكية في مصر – مشيخة الأزهر، وكان والده المستشار عبد الفتاح البشري رئيس محكمة الاستئناف حتى وفاته سنة 1951م، وكان عمه عبد العزيز البشري أديبًا.
  • تخرج طارق البشري في كلية الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1953م، عيِّن بعدها في مجلس الدولة واستمر في العمل به حتى تقاعد سنة 1998م من منصب نائب أول لمجلس الدولة، ورئيسًا للجمعية العمومية للفتوى والتشريع.
  • بدأ تحوله إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967م، وكانت مقالته “رحلة التجديد في التشريع الإسلامي” أول ما كتبه في هذا الاتجاه، وهو يكتب في القانون والتاريخ والفكر.

ثانيا: من أهم مؤلفات المستشار طارق البشري

  1. الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي.
  2. بين الإسلام والعروبة – الجزء الأول، صدر سنة 1988م.
  3. بين الإسلام والعروبة – الجزء الثاني، صدر سنة 1988م.
  4. سلسلة كتب بعنوان ثابت “في المسألة الإسلامية المعاصرة” بدأ صدورها سنة 1996م .
  5. الفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر.
  6. شارك في وضع منهج الثقافة الإسلامية بجامعة الخليج العربي بورقة عنوانها: نحو وعي إسلامي بالتحديات المعاصرة، صدرت سنة 1988م.
  7. السياق التاريخي والثقافي لتقنين الشريعة الإسلامية.
  8. منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، صدر سنة 1990م.
  9. مشكلتان وقراءة فيهما، صدر سنة 1992م.
  10. بين الجامعة الدينية والجامعة الوطنية في الفكر السياسي.
  11. نحو تيار أساسي للأمة، صدر سنة 2011م.
  12. الحركة السياسية في مصر.
  13. العديد من المقالات والأبحاث في مجلة الأزهر وغيرها.
  14. الحوار الإسلامي العلماني.

 

ثالثا: روافده الفكرية وتحولاته

ثمة عدة عوامل ساعدت في تشكيل فكر المستشار طارق البشري وهي تتلخص في الآتي:

الأصول الاجتماعية والنشأة في بيئة علمية

فهو ينضم إلى تلك العائلات التي تعتني بالعلم وتقدره، فجده شيخ للأزهر، وعمه أديب، وأبوه قاضٍ، وبقية أعمامه من خريجي الأزهر الشريف، فقد عاش بين مزيج ثقافي يتلخص في العمامة والطربوش، ولكل كلمة مدلولها وفلكها الثقافي الخاص بها، الأمر الذي أثر فيه ونمَّى عنده روح تقبل الآخر، وزاد فيه القدرة على أن يكون أصوليًّا مستنيرًا وعصريًّا ذا مرجعية ثابتة.

مناخ الوطنية والكفاح

شب المستشار في تلك الفترة التي كنا نكافح فيها من أجل الاستقلال ورد هجمات المستعمر بكل أشكالها السياسية والثقافية والعسكرية، ولا شك أن هذه الأجواء ضخت في عروقه روح القضية الوطنية فعاشها واقعًا قبل أن يناقشها فكرًا، وعانها حاضرًا قبل أن يحاربها بالقلم.

 دراسته الرسمية ومشايخه

 سلك أستاذنا المسلك المعتاد في التعليم، لكن كانت هناك محطات وشخصيات أسهمت في تكوينه، منها فترة الثانوية حيث أُعجِب بالأستاذ محمود الخفيف الأديب والمؤرخ المعروف الذي يُعَد أحد كتاب مجلة الرسالة العظماء، فأعجب بفكره وقضاياه التي كان ينشرها ضد الخديوي توفيق وأبرزها “أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه” وفي المرحلة الجامعية أُعجِب بالشيخ على الخفيف، ومحمد أبو زهرة، وعبد الوهاب خلاف، ممن أثقلوا حسه الفقهي والقانوني.

تحوله عن العلمانية

كان المستشار طارق البشري ينظر إلى الدين على أنه علاقة المرء بربه، وبعد أعقاب هزيمة 67 تلك القاسمة التي أحدثت خللًا فكريًّا عند مفكري تلك الحقبة مما أفقدهم توازنهم ولا أريد أن أقول أفكارهم؛ فجعل كل منهم يتلمس سبب الهزيمة وسبل النهوض، ومن خلال كثرة التأمل والبحث والتحليل أدرك المستشار أن هناك بعدًا حضاريًّا وروحيًّا غائبًا، وأن أساس الاستقلال هو الشعور بالهوية المتميزة، وأن أساس هذه الهوية هو الإسلام بعقيدته وتراثه الحضاري، فعاد إلى تلك الثقافة وهذه الروح يختلط بها، وينفض عنها غبار الجمود، ويجعلها سلاحه الذي من خلاله يحقق الاستقلال ويضمد جراح الهزيمة.

رابعًا: مشروعه الفكري ومنهجه

يُعَد المستشار طارق البشري أحد المنشغلين بالقضايا القومية العربية، وأحد المدافعين عنها والمؤرخين لها، وأحد الباحثين عن الهوية العربية الإسلامية واستردادها من الغزو الفكري الغربي؛ إيمانًا منه بأننا أمة نمتلك مقومات الحضارة ومرتكزات التطور، ويمكن أن نصوغ أهم القضايا التي تشغل فكره وتعبر عن همومه في النقاط الآتية:

  • مناقشة التيار العلماني: فكانت له حوارات مع التيار العلماني حاول من خلالها ضبط مفهوم المعاصرة بما لا يتدابر مع ثقافتنا أو يتنازل عن مبادئنا، مع توضيح النتائج التي تترتب على هذا الفكر إذا تغلغل في مسام مجتمعاتنا.
  • تطوير مؤسسات الحكم: إننا نشاهد في مقالاته هذا الكم الكبير من الأفكار النيرة لتطوير المؤسسات وسبل إدارتها، واستطاع في الكثير من كتاباته أن يشير إلى مواضع الضعف التي لابد من التغلب عليها لتتم عملية النهوض.
  • الاهتمام بقضية فلسطين وإيقاظ الوعي القومي والعربي في اتخاذ كل السبل لحلها، وهو لا يناقش القضية بلغة القضاء والعروبة والإسلام فقط بل بلغة الاقتصاد والأمن الاستراتيجي للمنطقة.
  • إحياء الوعي التاريخي برجال النهضة: تمكن أستاذنا من لفت أنظار القراء إلى الشخصيات التي حملت شعلة الوطنية والقومية والتجديد الفكري في الساحة الإسلامية أمثال محمد عبده، والأفغاني، والسنهوري، ومصطفى كامل.
  • منهجيات العلوم: فهو أحد المهتمين بوضع منهجيات العلوم، فله نظرات لابد ألا تُغفَل في تقنين الشريعة، وفي المنهجية التي ينبغي أن يسلكها الباحثون حين يقارنون الشريعة بغيرها من النظم الوضعية، وأكد في أكثر من موضع أن رجال الفقه والقانون لم تقم بينهم معارك محتدمة فيما يتعلق بالخيار بين مصدرية الشريعة والقانون الوضعي؛ لأن كلًّا منهما يعرف أصالة الفقه الإسلامي وصياغته الفنية والبالغة أعلى مستويات الدقة، كما يعرف مدى الاحتياج إلى التجديد الفقهي والتشريعي ليتلاءم النظام التشريعي مع أنماط معاملات حادثة، وكل من الفريقين يعرف ويعترف بالحد الأدنى من الأسس التي تقوم عليها وجهة النظر المقابلة، وكل منهم مدرك الوسائل الفنية والمناهج التطبيقية التي تمكن من الملائمة بين عناصر الثبات وعناصر التغيير، فالخلاف في الحقيقة لا يوجد بين رجال الفقه والقانون، بل هو بين رجال الفكر السياسي والفلسفي بشأن موضوع يدركون بعض مشاكله، ولكنهم لا يحيطون به، وما يدركونه من هذه المشاكل لا تتوافر لديهم المعارف والمناهج التي توصل إلى حلول بشأنها، والحل لهذا الجدل على الساحة الفكرية هو أن يتولى رجال الفقه والقانون هذا الحوار.
  • تحليل التاريخ المعاصر: فله منهجه الخاص في تحليلاته التاريخية وهو بصدد التأريخ لمناطق حساسة في تاريخنا الحديث، يقول المستشار طارق البشري: “وليكون الباحث أكثر حذرًا في فرض مسلماته على المادة التاريخية، وأن يتفادى – بقدر الإمكان – أحكامه المسبقة عليها، ويمكن أن يجتهد في تحويل مسلماته إلى تساؤلات وهو يتعامل مع مادته وينظر فيما تجيب به المادة عليها، وأن يراقب ميوله ويوليها المزيد من الجهد والتحقيق… بمعنى أنه يجب على الباحث أن يدرس نفسه وأن يراجع مفاهيمه ومسلماته وهو يدرس مادته، وهذا مفاد ما ورد في صدر هذه النقطة من أن علاقة المؤرخ بمادته التاريخية هي علاقة حوار ويتكيف الاثنان معًا من خلالها”
  • الوحدة الوطنية: يمكن أن تكون من القضايا الهامة التي شغلت حيزًا كبيرًا من فكره هي قضية الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة “فكل ما نهدف إليه في حواراتنا ومجادلاتنا هو أن نسعى لتحقيق أكبر قدر من التماسك لجماعتنا الوطنية بين عناصرها ومكوناتها كافة، وأن نستطيع أن نشكل ما يمكن أن نسميه بالتيار السياسي الأساسي الذي يحيط بالمجتمع كله ويتقبل تنوعاته الفرعية، وأن يجد كل تشكيل فرعي في هذه الجماعات الوطنية ما يطمئنه على وجوده واستمراره مع غيره من التشكيلات الفرعية”.

لقد استطاع طارق البشري أن يبحث في مجالات عديدة يجمعها كلها المحيط العربي والإسلامي، إنه بحق “رجل التاريخ والاجتماع والقانون”

رحمه الله فقيدنا وغفر له ، ورزقنا الصبر بعده .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى