الشعر الحر.. ازدهاره وانحداره

محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية

  يُعرف الشعر الحر أو شعر التفعيلة بأنَّه تلك الحركة الشعرية، وهذه الثورة الأدبية، التي اشتعلت في أربعينيات القرن الماضي، والتي كانت تقتضي الاكتفاء بالتفعيلة الواحدة كوحدة وزنية لقصيدة الشعر بدلا من البيت كما هو الحال في النموذج التقليدي القديم للقصيدة العربيَّةِ، منذ سالف عصورها الأدبيَّةِ، فترى بيتَ أو سطرَ شعر التفعيلة يطول ويقصر حسب عدد التفعيلات في كل سطر، لاختلاف عدد التفعيلات في كل بيت، بخلاف بيت القصيدة العمودية المُقفَّاه الذي يظلُّ متساويًا في طوله، محافظًا على عدد تفعيلاته، بشكلٍ ثابتٍ، ونظامٍ دقيقٍ راسخٍ، تم توارثه منذ العصر الجاهلي حتى يومنا هذا محافظًا على هيئته، مبقيًا على تماسكه، في قالبٍ متين، وإيقاعٍ وزني سليم.

  ومن المعروف أنَّ رائد هذه المدرسة هو الأديب علي أحمد باكثير الذي كان أوَّل من فطن له، ومال في بعض كتاباته إليه، لكنَّه اقتصر به على الشعر المسرحي فقط، ولم تعرفِ التفعيلة هذا النشاط الأدبي، ولم تقتحمْ عالم الشعر الغنائي، إلا على يد كل من “بدر شاكر السياب” و “نازك الملائكة” حيث كتبت “نازك” قصيدة “الكوليرا” الشهيرة التي كانت أوَّل ما نُشر في هذا المجال الجديد، وأوَّلَ ما عُلم من هذا النمط الحديث، بينما ظهرت مجموعة شعرية أخرى باسم “أزهار ذابلة” للسياب وكان أول ديوان يحمل شعلة تلك الثورة الفكرية، ويتضمَّن هذه النماذج الأدبية، وقد لقيت تلك الأعمال صدىً واسعًا، ورواجًا هائلًا، وقف وراءه كل رواد الحداثة من المجددين، فانتشر رغم معارضة الكثر من الأدباء المحافظين.

 وسُرعان ما ازدهر الشعر الحر في السنين التالية، وشاع في الأوساط الأدبية في العقود المتعاقبة، على يد كثير من الشعراء الذين كتبوا منه، وأسهبوا فيه، مثل:”بلند الحيدري” و”أحمد عبد المعطي حجازي” و”صلاح عبد الصبور” و”فدوى طوقان” و”سميح القاسم” و “عبد الوهاب البياتي” و”أمل دنقل” و”نزار قباني” و”محمود درويش”.

وانبهَرَتْ بهذا الفن الوليد فئةٌ غفيرة من الشعراء رؤوا في الشعر الحر تحرُّرًا من قيود القافية التي لا يستطيعون معها التعبير عن آرائهم، وتحول دون صياغة أفكارهم، فانتشر شعر التفعيلة وازدهر نمطه، وذاع صيته، حتى كاد يطغى على الشعر الموزون المقفَّى لعدَّةِ عقود.

 بيد أنَّه ما غابت شمس القرن العشرين وطويت صفحته، وانقضت مدَّته، حتى نجد الشعر الحر الذي وصل إلى قمة ازدهاره، وأرقى درجات تطوره، قد بدأ يتراجع ويتدهور، وينكفئ ويتقهقر، حتى دنا نجمه من الأفول، ومالت زهرته إلى الذبول، وظهر منذ أوائل القرن الحادي والعشرين اتجاهٌ تنامى بين الشعراء الجدد بِمَيْلٍ إلى العودة إلى نظام التقفيه القديم، والارتداد إلى أساليب النظم العريق، ولم تعدْ له نفس الأصداءُ التي رافقته عقودًا، ورفعته عصورًا، فانحسر حتى يكاد يتحوَّلُ إلى تراثٍ قديم على غرار الرباعيات والمسمطات والموشحات، فما هي الأسباب التي أدَّت إلى تراجعه، وما هي عوامل انحداره وانخفاض شعبيَّته؟

 وفي رأيي أن تراجع شعر التفعيلة يرجع أساسًا إلى عوامل فنية وتاريخية، أما العوامل الفنية فترجع أسبابها إلى أن الشِّعر الحرَّ طوال تلك المدة، وعلى امتداد هذه الحقبة، فشل في أن يتَّفق له أنصاره على خصائص معينَّةٍ، وسماتٍ مثبتة، مثل بقية الفنون الأدبية، فشعر البيت العمودي مثلا تراه مُقيَّدًا بمجموعة من القواعد الصارمة، والأسس الثابتة،تخصُّ عروضه وزحافاته، وتتحكَّم في تفعيلاته وأوزانه، لا من باب التعقيد، ولا بغاية التقييد، بل لكي تحفظ للقصيدة إيقاعها الثابت، ونسيجها المتناغم، مكسبةً لهذا الفن خصائصه التي تميِّزه عن غيره، وترفعه عمَّا هو دونه، وتجعل هناك فارقًا بينه وبين النثر، أما الشعر الحر فليست له أصولٌ ثابتة، ولا قواعد واضحة، يتَّفق عليها جميع أنصاره ومن كتبوا فيه.

 وقد حاولت “نازك الملائكة” أن تضع قواعدًا لهذا الفن الوليد، وتحدِّد اشتراطات لهذا الشعر الجديد، فيما يخصُّ عدد تفعيلاته ونطاقها، والعناية بالعبارات وكيفية ختامها، ولكن شعراء التفعيلة لم يعبؤوا بقيود، ولم يلتزموا بأصول، فمنهم من توسَّع في استعمال التفعيلات بلا نظام، ومنهم من  خلط بين أكثر من تفعيلة دون إطار، ومن شأن التوسُّعِ والتحرُّرِ غير المحسوب في هذا المضمار أن يَفقد الشعر الحرُّ هيبته، وتتهاوى منزلته، لأنه يخسر خصائصه وصفاته، وتختلط ملامحه، فيتماهي ويذوب بين سائر الفنون كونه دون معالم محددَّةٍ، أو أصولٍ ثابتة، ومنهم من ثار على التفعيلات كلِّها، وخرج على العَروض برُّمتها، ودعا إلى الاعتماد فقط على الإيقاع السمعي، وهو ما عرف لاحقًا بـ”قصيدة النثر”، التي اتفق الجميع أنَّها لا علاقة لها بالشعر، وكل تلك الأمور أضعفت شعر التفعيلة فنًّا، وحطَّت منه قدرًا.

 إلى جانب هذا فإن هناك من ظنَّ أنَّ تحرُّرَ شعر التفعيلة من نظام القافية ستتيحُ له حرية أوسع، ومجالًا أكبر، يعبر فيه عن أفكاره، ويصوغ فيه كتاباته، وهذا من الناحية الفنية وهمٌ، وسرابٌ وزيفٌ، لأن القافية لها دورها في إتمام الإيقاع الموسيقي لدى السامع بلا ريب، فإن تلاشى تلاشت معه القصيدة، وذهب معها روح الشعر، وكانت الأجيال الأولى من أنصار شعر التفعيلة قد كتبوا أيضًا الشعر الموزون المقفَّى، فجاءت نماذجهم من شعر التفعيلة قويَّةً متينةً، متماسكةً دقيقةً، ولكن جاءت بعدهم أجيال ظنُّوا أن شعر التفعيلة أسهلُ نظمًا، وأقربُ منالاً، فكتبوا فيه أول ما كتبوا، فجاءت نماذجهم ضعيفةً لا إيقاع فيها، مفكَّكة لا عمق بها، وقد قُورنت أعمالهم بأعمال الشعراء القدامى فكان الفارق واسعًا، والاختلاف ملحوظًا، فأين تلك النماذج الضعيفة من قوة القصيدة العمودية وعمقها، ومن متانتها وإيقاعها، وهذا كله أفضى إلى ضعف عموم الشعر في الفترة التي انتشر فيها شعر التفعيلة.

 أما الأسباب التاريخية لتراجع الشعر الحر فواضحةٌ ومعروفةٌ، وجليةٌ ومعلومةٌ، فالحقيقة التاريخية الثابتة أن كل الفنون التي تمخَّضت عن الشعر كالموشَّحات والرباعيات والمسمطات قد اندثرت جميعها، بعد فترةٍ من ازدهارها، والسبب في هذا ليس ضعفًا في هذه الفنون، ولكن لأن هذه الفنون تنشأ في ظروف معينة في عصر من العصور، فتزدهر مدة في تلك العهود، وما إن تنتهي تلك الحقبة وتنتهي خصائصها، وتذهب ملاممحها وصفاتها، حتى تنتهي تلك الفنون بانتهاء الدواعي لها، وزوال الأسباب التي أدت إلى وجودها، فالمسمطات والرباعيات على ازدهارها قرابة قرن في العصر العباسي الأول ما إن زالت عوامل اللهو والترف، وقلَّت مظاهر المجون والسرف، حتى ذهبت معها تلك القوالب الشعرية لأن وجودها من البداية كان متعلِّقًا بتلك المظاهر التي ما إن اختفت عنها، حتى زالت معها، وكذلك الموشحات بعد ازدهارها قرونًا نجدها خمدت وانحسرت، وذهبت واندثرت، بزوال الحضارة الأندلسية وانطفاء نورها، وانقضاء أيَّامها وانتهائها، وزوال ما فيها من ملامح وأسباب أدَّت إلى وجودها واختراعها، فتحوَّلت إلى تراثٍ قديم يتم تدارسه، ويمكن الاطلاع عليه.

 خلاصة القول أن قصيدة التفعيلة على وشك أن ينقضي زمنها، ويذهب أثرها، وأن القصيدة العمودية المقفَّاه قد نجحت في الاستمرار والدوام، وعاشت بمرور العصور والأزمان، ونجحت أن تتكيف مع العصور الحديثة محافظةً على قوامها، متمسِّكة بإيقاعها وملامحها، التي هي ثابتة من العصر الجاهلي حتى عصرنا هذا، واتضح بالفعل بما لها من سمات وخصائص عنفوان أنها قادرة على استيعاب مظاهر الحداثة، والاندماج مع قوالب التجديد، محافظةً على كيانها وأصولها، مُبقيةً على إيقاعها وقوافيها، فعاشت بينما ماتت كل الفنون الشعرية التي وُلدت بعدها.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى