أشواك البراري.. طفولتي (1)

جميل السلحوت | القدس – فلسطين

قبل الدّخول

      تردّدت كثيرا في كتابة شيء من سيرتي الذّاتيّة، خصوصا عن مرحلة الطّفولة الذّبيحة التي عشتها أنا وأبناء جيلي. فأنا المولود بعد عام من نكبة شعبي الأولى في العام 1948، عشت وأبناء جيلي تبعات هذه المرحلة التي كانت السّيادة فيها للجهل  والفقر والتّخلّف. لم يكن في طفولتنا ما يسرّ القلب، ولا ما يمكن أن يتمخّض عن ولادة تغيير نافع جديد، فآباؤنا الذين عاصروا نهاية العهد العثمانيّ، وما صاحبه من جهل ومظالم، عانوا الأمرّين في طفولتهم وشبابهم، وما أن تخلّصوا من العثمانيّين في نهاية الحرب الكونيّة الأولى، حتّى وقعوا تحت الاحتلال البريطانيّ، الذي مهّد لضياع فلسطين باتفاقاته” سايكس- بيكو”مع فرنسا على تقاسم المنطقة، وبوعد بلفور الذي استهدف فلسطيننا دون غيرها، واستمرّ اضطهاد آبائنا من قبل الاحتلال البريطانيّ الذي حاول “تجميل صورته” بتسميته انتدابا بدل احتلال، وهكذا كان آباؤنا وأجدادنا ضحيّة هم الآخرون لواقع فرض عليهم، فلم يعيشوا طفولتهم وشبابهم ولا حتّى شيخوختهم كبقيّة البشر، وبما أنّ “فاقد الشّيء لا يعطيه”، فقد عاش جيلنا من أبناء شعبنا حياة بائسة بكلّ المقاييس، وإن بشكل متفاوت.

    توقّفت طويلا أمام طفولتي المعذّبة، فكّرت كثيرا متردّدا في كتابتها، تساءلت حول الفائدة المرجوّة من نشرها!  وفي النّهاية قرّرت الكتابة والنّشر، لعلّ في ذلك ما يمكن أن يستفيد منه جيل أبنائنا المحرومين أيضا من طفولتهم؛ بسبب الاحتلال الذي أهلك البشر والشّجر والحجر. وأنا في تركيزي على طفولتي الخاصّة، لا أنقل معاناتي الشّخصيّة، بمقدار ما أكتب عن واقع اجتماعيّ عاشه الملايين من أبناء شعبي وأمّتي.

 وأستطيع القول أنّني وغالبيّة أبناء جيلي قد عشنا رغما عن سنن الطّبيعة، فقد كانت نسبة وفيات الأطفال مرتفعة جدّا، ومع ذلك عشنا؛ لنكون شهودا على واقع لا خيارات لنا فيه.

 يمكنني القول أنّ منفذ الهروب الذي أتيح لبعض منّا –وأنا من هذا البعض- ولمن سبقونا بعقدين قبلنا هو بوّابة التّعليم، رغم كلّ التّحفظات على النّواقص التي صاحبت العمليّة التّربويّة من نواقص وعوائق في بداياتنا مثل: الأبنية المدرسيّة، الملاعب والسّاحات، المناهج، المختبرات، المكتبات، وسائل الإيضاح، تأهيل المعلّمين، قوانين التّعليم، قِصَر مرحلة التّعليم الإلزامي، وغيرها، ومع أنّ جيل أبنائنا يعاني هو الآخر من نواقص تعيق العمليّة التّعليميّة، إلا أنّ الفوارق شاسعة بين جيلنا وجيلهم. لكنّ تعليم جيلنا ومن سبقونا بقليل هو من انتشلنا ولو قليلا من واد التّخلف السّحيق، وهذا دفعنا إلى توفير متطلّبات التّعليم لأبنائنا أكثر بكثير ممّا توفّر لأبناء جيلنا، ومع ذلك فإنّ جيل أبنائنا لم يستغلّ فرصه التّعليميّة كما يجب.

ففي مرحلة جيلنا لم تكن هناك أيّ جامعة محلّيّة، وكثير من البنات لم تتح لهنّ الفرصة؛ لتكميل دراستهنّ حتّى المرحلة الثّانويّة. وقد اختلف الواقع في جيل أبنائنا، فالآن يوجد في الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة المحتلّتين حوالي عشر جامعات في مختلف المدن، نسبة الطّالبات فيها تزيد على الثّلثين، وهذا أمر جميل ولافت، لكنّ السؤال يبقى حول تدنّي نسبة الأبناء الذّكور في الجامعات؟

مع التّأكيد أنّني لا ألوم جيل الآباء، بل بالعكس أنا فخور بهم، وأترحّم عليهم، فقد قدّموا لنا ما استطاعوه، ولم أكتب عن تجربتي الشّخصيّة إلا لتسجيل مرحلة عاشها أبناء شعبي، وللتّأكيد على قدرة الانسان على تحقيق طموحاته رغم كل المعيقات – إذا توفّرت لديه الرّغبة في ذلك-.

***

الجذور

       لا يمكن للمرء أن يتحدّث عن مسيرته الحياتيّة دون العودة إلى جذوره القريبة على الأقلّ، وإلى البيئة التي ولد فيها، وما صاحبها من واقع اجتماعيّ، اقتصاديّ، علميّ…إلخ. ومن هذا المنطلق فإنّني سأستذكر ما سمعته عن حياة جدّي لأبي  ابراهيم حسين السلحوت، الذي توفيّ ومن تبقى من أبنائه “موسى، محمّد وحسين” ولم يكن كبيرهم”موسى” قد وصل الخامسة من عمره، فعمّي موسى المتوفّى في 8-8-1974 بكر والديه كان يقول لنا: “أذكر أنّ رجلا نحيفا له ذقن يكسوها الشّيب، كان يضعني في حضنه، لكنّني لا أذكر من ملامحه شيئا!”

وممّا كان يرويه الأكبر سنّا من المرحومين والدي وأخويه أنّ المرحوم جدّي لأبي ابراهيم حسين السلحوت، قد تزوّج في شبابه عند منتصف القرن التّاسع عشر من صفيّة سليمان سلامة شقيرات، وكان في رعايته خليل وحمدان ابنا أخيه أحمد الذي قتل على أيدي قطّاع طرق، والمرحومة “قاليه” ابنة أخيه الذي قتل أيضا بنفس الطّريقة، وذات يوم عاد مساء إلى بيت الشّعَر الذي يسكنه في براري السّواحرة، ووجد “قاليه” بنت السّنوات الأربع قد غفت على صحن العجين، وكبت برأسها عليه، فاحتضنها متسائلا عن أحوالها، فأخبرته بأنّ زوجته تضربها وتجبرها على عجن الطّحين، فأشفق على ابنة شقيقه، وطلّق زوجته؛ لأنّها تظلم أبناء أخويه الأطفال الأيتام. وأعلن أنّه سيتفرّغ لتربية هؤلاء الأيتام وسيكتفي بهم أبناء له!

         عندما شبّ خليل ابن أخيه وجدّي هرم، خرج عن طوعه، فغضب من ذلك المرحوم علي شقير أحد وجهاء الشقيرات، وأقسم بأن يبحث عن زوجة لجدّي، وقام فورا وذهب لصديقه عليّان المصري كبير عائلة الهلسة، وطلب منه ابنته الأرملة صفيّة ابنة التّسعة عشر عاما حليلة لجدّي ابراهيم حسين السلحوت، فوافق والدها على طلبه، وتزوّجا، وأنجبا خمسة أبناء هم –حسب التّرتيب- “موسى، محمد، نوّارة، حسين وخضر”.ولأن جدّي كان هرما أشيبا، فقد أطلقوا على أبنائه”أبناء الشّايب” وهو لقب لا يزال يطلق على عائلتنا حتّى يومنا هذا. وكما يروى عن جدّتي لأبي صفيّة عليان المصري فإنّ الفارق العمريّ بين أبنائها لم يتجاوز الأحد عشر شهرا بين كلّ منهم على التّوالي، وعندما توفيّ جدّي كان أبي ابن أربعة عشر شهرا، وشقيقه الأصغر خضر ابن ثلاثة أشهر، وحسب وصف الجدّة فقد يكون أبي من مواليد العام 1902، لأنّ ما يروى عن الجدّة المتوفّاة عام 1946، أنّ حسين –الذي هو أبي- كان ابن خمسة عشر عاما، عندما احتل الانجليز فلسطين.

     مات جدّي ولم يترك لأرملته وأبنائهما سوى خمس نعاج، وقطعة أرض ورثها عن أبيه. فعاشوا عيشة كفاف، حيث تكفّل كبار حامولة “الشقيرات” بتزويد جدّتي بالطّحين، وبعدد قليل من الأغنام؛ ليعتاشوا على حليبها وأجبانها.

عندما بلغ العمّ البكر موسى سبعة أعوام من عمره رعى الأغنام عند كبير عائلة أبو سرحان من العبيديّة مقابل ستّة خراف أجرة سنويّة، وكذلك فعل أخواه لاحقا.

أمّا بالنّسبة للعمّ خضر فقد مات عطشا قبل أن يبلغ الثّانية من عمره، عندما ظهر على حنجرته دمّل، فكووه عليه، وأوصوا جدّتي بعدم سقايته الماء كنوع من العلاج، وتوفّي والدي عام 1992 وهو يروي الحادثة باكيا فيقول :” مات خضر وهو يئنّ ويقول “امبو”.

العمّة “خضرة” توفيّت هي الأخرى غرقا في بئر “السّوق”، في براري عرب السّواحرة، عندما بعثتها والدتها وهي في السّابعة من عمرها؛ إلى البئر لتأتيهم بالماء في يوم عاصف، فقذفت بها الرّياح إلى جوف البئر فماتت غريقة. 

         عندما انتهت الحرب العالميّة الأولى بهزيمة العثمانيّين، تقاسمت بريطانيا وفرنسا المشرق العربيّ حسب اتّفاقات “سايكس بيكو”، فاستولت بريطانيا على العراق، الأردنّ جنوب الجزيرة العربيّة وفلسطين، بينما استولت فرنسا على سوريّا ولبنان، ولم يتمّ استعمار شمال اليمن لوعورة أرضه وعدم قدرتهم على السّيطرة عليه، وابتعدوا عن السّعوديّة لوجود الأماكن المقدّسة فيها، وخوفهم من نشوب حرب دينيّة، ولأنّ البترول لم يكتشف في ذلك الزّمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى