للمخرج علي أبو ياسين.. بصقة في وجوه الأبوات

الدكتور خضر محجز | فلسطين

قبل سنوات، تفضل الصديق المخرج علي أبو ياسين، بدعوتي لمشاهدة مسرحيته الجديدة (القفص)، التي عُرضت طوال أيام، في غزة على خشبة مسرح مركز المسحال، ضمن نشاطات مؤسسة عشتار لإنتاج وتدريب المسرح.

بدأت المسرحية بمشهد افتتاحي صامت، مكون من عدة صور فوتوغرافية ساكنة، لمجموع الممثلين، فيما كان صوت ما ينطلق معلقاً على الصور التي تبدو كما لو كانت تبثها كاميرا، فيما هي في الواقع ممثلون ملقون في أوضاع مختلفة على خشبة المسرح.

كان صوت المعلق الإذاعي يتخلل أصوات إطلاق نار، فيما القصف الجوي من الطائرات يمارس مهمة معتادة في غزة.. لقد ابتدأت المسرحية إذن تعود بنا إلى لحظة من لحظات انهيار البيوت على رؤوس ساكنيها في غزة، في الحرب الأخيرة، كما في حروب سابقة.

تتوقف اللقطات الفوتوغرافية، ويبدأ المشهد بالعرض الحي: لمصاب هنا أو هناك، لحظات إخلاء منزل مصاب، نتج عن مجاورته لمنزل تم قصفه، بعد أن تم تحذير ساكنيه، الذين رحلوا بصمت دون أن يخبروا جيرانهم. مناضل ينجو بأسرته، ويؤمن له التنظيم مسكناً موائماً، فيما يدع جيرانه ليموتوا جزاء جيرتهم له.. شهداء بالعشرات هنا وهناك على الخشبة، ثم الدخول إلى منزل ينعقد فيه مؤتمر صحفي. فيما المذيع أبو شادي يعلن حقيقة الموقف. والأصوات المختلطة للناس وسيارات الإسعاف تعلن سيادتها للمشهد.

يمكن اعتبار كل ما مضى الصورة الخلفية للواقع الذي يعاد إنتاجه على الخشب، قبل أن نجد أنفسنا داخل إحدى مدارس الغوث، التي صارت الآن مركز إيواء للمقصوفين. من هنا يبدأ العرض المسرحي، ومن هنا يبدأ المخرج يعرض علينا تفاصيل مأساة أخرى، لا تقل ألماً عن مأساة القصف ذاتها، حين نرى الفتاة التي كانت يافعة (حنين)، وقد أصبحت الآن قعيدة الكرسي المدولب، تحيط بها دنيا غزة، التي لم تنج من استثمار بعض أبنائها لمعاناة أبنائها الآخرين.

الآن نحن نرى على الخشبة (حنين) وأباها (شكري) وعمها (أبو تامر). ويبدو أن جعل العم يحمل كنيته (أبو تامر) بدلاً من اسمه ــ الذي لا نعرفه ــ كان اختياراً مقصوداً؛ فلا شك أن لدى الجمهور الفلسطيني مشكلة مزمنة مع (الأبوات).

منذ اللحظة الأولى يبدو الفرق واضحاً بين الأب والعم: فبمقدار صبر الأب واندماجه في مشكلة ابنته، نرى كيف يحاول أبو تامر أن يستحلب من مأساة ابنة أخيه فائدة ما، من هنا أو هناك. تبدو أصابع المخرج ــ الذي كان هنا هو كاتب النص كذلك ــ واضحة في رسم اللوحة وتلوينها. لوحة فلسطينية يرسمها المهمشون، تختلف كثيراً عن الشعارات الزاعقة التي يرفعها (المناضلون) الذين يرد النص ان يقول بأنهم ليسوا دائماً أكبر المتضررين من النضال الذي صنعوه. يبد بالفعل أن مآسي الشعب الفلسطيني تعود على كثير من الأبوات بالفوائد، أولئك الذين يقدم لهم أبو تامر صورة حقيقية.

 الأبوات غائبون ساعة القصف، حاضرون لحظة التصوير.

فرغم أن (أبو تامر) هو عم المصابة حنين، ورغم أنه من المهمشين، إلا أنه يبحث له عن موظن قدم بين الأبوات. لهذا يسميه النص (أبو تامر) ولا يذكر اسمه.

أبو تامر يتكلم. وحنين صامتة، تنظر إليه نظرة تقول أبلغ كلام. يبدو أن حنين هنا تمثل ألم شعب يعرف أساس معاناته، بنفس القدر الذي يعرف به حقيقة وجوده. أو يمكن أن تحيل حنين إلى فلسطين ذاتها، فلا فرق بين ألم الشعب وروح الوطن. يبدو أن صمت حنين يريد أن يقول للأبوات: أعرفكم جيداً. بل إن المسرحية كلها تريد أن تقول لأمثالهم: أعرفكم جيداً.

وعلى أطراف المشهد أبو صابر: الأب الحقيقي للمأساة، رب إحدى العائلات المنكوبة تماماً، فلسطيني بسيط يشهد استشهاد عائلته أمام عينيه، وانهيار بيته وانهيار ذاكرته وعقله.

أبو صابر يقف ويدخل ويخرج وعلى وجهه نظرة ساهمة، وعلى شفتيه عبارة يرددها، يبدو أنه سمعها من بعض تجار الحروب الفلسطينيين من الأبوات الكبار:

“حق الدم الغازي نزفو راح تبقى غزك يا أرضو”.

في المسرحية الواقعية التي نشهدها هنا، كما في الواقع الغزي تماماً: حيث حجم تعاطف الناس مع الشعار، يتناسب عكسياً مع قيمة تعاطفهم مع المنكوب، الذي يردد كلاما لم يعد أحد يصدقه، وإن صدقه فلن يصدق نوايا رافعه.

ولكي يسلط المخرج بعض الضوء على نوايا رافعي الشعار، يجعل صحفياً يدخل ليجري مع المنكوبين مقابلة صحفية مصورة، كأنه يريد أن يقول: انظروا كيف يستخلص الناس من مصائب الآخرين فوائد شخصية.

لا يكتفي المخرج هنا بلمز الصحفي الذي يرتزق من معاناة الناس، بل يظهر لنا كم هو مقيت استغلال العم لمأساة ابنة أخيه، في محاولته للحصول على مكاسب. لقد استحق بالفعل أن يكون من الأبوات دون اسم شخصي!

وتبلغ السخرية قمتها حين تتلقى المقعدة حنين من إحدى جمعيات الـ(N.G.O,s) درعاً خشبياً نظير معاناتها.

هذه هي الحكاية الرئيسية في النص، وعلى جانبيها تدور حكايات مشابهة، تردد نفس الثيمة التي تعزف على ناي، يغني حكاية غروب قضية، كانت ذات يوم قضية وجود، قبل أن تتحول إلى مجرد معاناة يومية، لمسحوقين من البشر يحاولون البقاء على قيد الحياة.

لقد استطاع الممثلون أن يقدموا نصاً مقنعاً، بأدائهم المتميز: فالممثلة، التي أدت دور الفتاة القعيدة حنين، نجحت في استخدام وجهها، للتعبير عن مكنون كلام لا تقوله، وحين تقوله تنتزع التصفيق. كما استطاع الشاب الذي أدى دور أبو صابر أن يقدم بملامحه ما يشرح معاناته.

الممثلون الآخرون قدموا عرضاً معقولاً، استجاب لحاجات النص.

أما الشعار الذي رفعته المسرحية، فلم يكن هذه المرة ممجوجاً، رغم أن الموضوع مباشر بالفعل. فقد يكون المباشر فناً إذا أُحسن توظيفه. ونحن لا ننسى أننا هنا نشاهد عرضاَ مسرحياً للمهمشين. وإن من شأن المهمشين أن يصرخوا، حين نرفع عن أفواههم الكمامات.

مسرحية القفص بصقة كبيرة بحجم غزة، ليس في وجه الاحتلال فحسب، بل كذلك في وجوه السياسيين وتجار الحروب، الذين من يصنعون مأساة غزة، ثم يتاجرون بها، فيما هم معزولون عن معاناة نتائج ما يصنعون.

مأساة على الخشبة، انتزعت التصفيق والدموع معاً أكثر من مرة.

فإلى الأمام يا صديقي علي أبو ياسين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى