إشكالية الإعلام الثقافي: مَرُّ الجَهَالَةِ بِالنَّقْلِ أَمْ قَرُّ الحُثَالَةِ بِالعَقْلِ؟ 

د. آصال أبسال | أكاديمية وإعلامية تونسية – كوبنهاغن، الدنمارك

وهكذا من منظور آخر، وفي معرض الكلام عن تصاعد حدَّة الخلاف الإعلامي و/أو الصحافي الذي كان قد حصل قبل ما يربو عن حَوْلٍ من الزمان بين هيئة تحرير الصحيفة البريطانية الشهيرة The Guardian وبين الرسام الكاريكاتوري (السياسي) الإنكليزي، ستيف بيل.. ذلك التصاعد الذي نشأ حول رفضِ هذه الصحيفةِ نشرَ لوحتِهِ الكاريكاتورية (السياسية) «الجريئةِ أيَّما جراءةٍ»، إبَّانَئذٍ، وكلُّها تحسُّبٌ من قلقها الزائد عن حدِّهِ، وكلُّها ادعاءٌ مترتِّبٌ عليهِ بأن هذه اللوحةَ قد تُعَرِّضُهَا لحشدٍ من «تحدِّياتٍ قانونيةٍ» فيما يتعلق بالموقف «العنصري»، أو «العرقي»، تجاهَ معشر «العبرانيين» طرًّا، وقد جرى بالعادة على تسميته بـ«اللاسامية» Antisemitism، أو هكذا يتبدَّى للمعنيِّين بالأمر.. وهو كذاك الموقفُ «العنصري»، أو «العرقي»، المقابل للموقف المثيل تجاه معاشر العرب كُلاًّ الذي أشار إليه الجاحظ أول من أشار إليه اصطلاحا بـ«الشعوبية» في كتابه الألمعي «البيان والتبيين» الغنيِّ عن التعريف – ناهيك عن ترسُّخ المقيتِ والبغيض (مما هو «قَرُّ الحُثَالَةِ بِالعَقْلِ») من أمثالِ ذلك الموقف «الجنسوي-الذكوري» Male-Sexist، إزاءَ المرأة عامةً (والمرأة العربية المسلمة خاصةً) في ذهنيات أولئك «الرجال» الساسة الغربيين المعنيين بالأمر، ها هنا، حتى قبلَ نظرائهم الشرقيين، في المقابل .. في معرض كلِّ هكذا كلامٍ، وأكثرَ منه حتى، تكتبُ رئيسة تحرير تلك الصحيفةِ «العربيةِ» لغةً و«الفلسطينيةِ» اسمًا والمشهورةِ بالمُسَمَّى «القدس العربي»، تكتبُ في افتتاحيةٍ من افتتاحياتها الغزيرة التي تحمل العنوانَ، «الصحافة تسمح بتراجع حريات العالم أمام إسرائيل؟» /من صدور يوم 19 تموز (يوليو) 2019/، تكتبُ ما يلي:

/تُظهر اللوحة [الكاريكاتورية (السياسية) المعنية] بنيامين نتنياهو مع لعبتين يسميهما «ترمبي ومبي» و«بُوزي وُوزي»، وهو ما يشير عمليا إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قبل هزيمته في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة [وهو «الرجل» السياسي المعروف كأمقت وأبغض نموذج «جنسوي-ذكوري» يستهجن المرأة المهاجرة بالتعميم]،  وإلى وزير الخارجية البريطاني السابق، والمرشح الأكبر حظا في تولي منصب رئاسة الوزراء [آنئذٍ]، بوريس جونسون [وهو «الرجل» السياسي المعروف كذاك كأمقت وأبغض نموذج «جنسوي-ذكوري» آخر يستهجن المرأة المسلمة بالتحديد]، فيما يظهر [في المقابل] نائبُ رئيس «حزب العمال» توم واتسون يقول وهو يتراجع: «آسف، اعتقدتُ أنكما عضوان في حزب العمال»/.. اهـ

هذا، إذن، مثالٌ ملموسٌ شديدُ الوضوح على مدى تدنِّي المستوى الثقافي والمعرفي الذي يتسوَّى به نوعُ الصحافة العربية بالذات، وعلى مدى تجلِّي تجسيدات الجهل واللاوعي بما تكتبه هذه الصحافة بأغلبيتها الساحقة.. هذا، إذن، مثالٌ ملموسٌ تمثِّلهُ خيرَ تمثيلٍ أسرةُ تحريرِ صحيفةٍ «عربيةٍ» و«فلسطينيةٍ» مشهورة، كمثل «القدس العربي».. خاصة وأنها تدَّعي، في جملة ما تدَّعيهِ، بأنها «صحيفة عربية يومية مستقلة.. وهي من أكثر الصحف العربية انتشارا.. وأنها اكتسبت سمعة عربية ودولية طيبة، كونها منبرا متنوعا يؤمن بالتعددية وينشر الأخبار الدقيقة.. وأنها تلتزم بالمعايير المهنية والموضوعية، من خلال تغطيتها للأحداث، وتقديم التحليلات العميقة للقضايا العربية والعالمية».. إلى ما هنالك من أشكال «الخرطِ» و«الضرطِ» الصحافيَّيْن «الموضوعيَّيْن» الأعجفين، وإلى ما هنالك من أنواع التطبيل والتزمير الإعلاميَّيْن «الذاتيَّيْن» الأجوفين، ودون أية حاجة بتَّةً إلى عناء التعليق حتى على ركاكة النص الإنكليزي الذي تنشره هذه الصحيفة «العربية» و«الفلسطينية» في مقابل «خرطِها» و«ضرطِها» الصحافيَّيْن ذينك وتطبيلها وتزميرها الإعلاميَّيْن هذين، على العلن..

وقد كتبتُ وقتَها بما استوجب من دافعٍ إفاديٍّ من ملاحظات النقد الصحافي والإعلامي نقدا بنَّاءً لازما على عين المقتطف المذكور أعلاه، بكل ما كان يستوجبه الضميرُ المتجرِّد عن الناصبِ والجازم.. ولكنْ، كما يتجلَّى معنيُّ السلوكِ التحريريِّ المزاجيِّ الأرعنِ في أحايينَ كثيرةٍ، ولكنْ، قد رفضتْ رفضًا قاطعًا وباتًّا مقصَّاتُ رقابةِ الصحيفة «المخابراتية» بامتيازٍ، كمثل ذلك المقصِّ المأجورِ الذي يقترنُ على الدوام بالاسم الذكري قلبا و«الأنثوي» قالبا والمكتوب بالرَّسْم اللاتيني مصغَّرًا، كحال عقلها بالعين، nada، لا بالرَّسْم العربي «ندى» (وواحسرتاه على هكذا اِسمٍ!)، قد رفضتْ أن تنشر هذا النقدَ الصحافيَّ والإعلاميَّ البنَّاءَ كعادتها، لأنه ببساطة شديدة يفضحها على حقيقتها «المخابراتية» أيما فضحٍ على العلن أيضا – رفضت أن تنشره حتى في حقلها المخصص للتعليقات، تعليقاتِ القُرَّاء والقارئاتِ، وهو الحقلُ الذي يحفل بكل أشكال السُّخْفِ والتفاهةِ والهراءِ اليوميِّ ناشرةً إيَّاها، على النقيضِ، دون أيِّ تحفُّظٍ أو أيِّ تحسُّب.. ومن بابِ التذكير وبابِ التحذير لهذا العلن كذلك، كتبتُ بدوري في تلك الملاحظات ما يلي:

يا سلام، يا سلام على هكذا شرحٍ قادمٍ من أسرةِ تحريرِ صحيفة «القدس العربي» بالعين.. يا سلام على هكذا «تنويرٍ» مزعومٍ للقراءِ والقارئات العرب (وهم المساكينُ المُجَهَّلونَ أصلا، على أكثرَ من صعيدٍ).. يا سلام على هكذا جعلٍ ذميمٍ مذمومٍ لهؤلاءِ القراءِ والقارئات بالأعيانِ، جعلِهم تماما مثل «الطرشان بالزفّة» الذين لا يعلمون أيَّ شيءٍ عن القصد من وراء استعمال النحتين الاسميَّيْن المعنيَّيْن كما يظهران في اللوحة الكاريكاتورية المعنيَّة، «ترمبي ومبي» و«بُوزي وُوزي».. آهِ لو كانت أسرةُ تحريرِ هذه الصحيفة «القدساوية» تعلم أن هذين الاسمين المنحوتين، «ترمبي ومبي» و«بُوزي وُوزي»، إنما هما، في حقيقةِ الأمرِ، اسمان منحوتان قصدا وعمدا من طرفِ الرسام الكاريكاتوري (السياسي) المذكور أعلاه، إنما هما منحوتان على الإيقاع «السَّجْعي» لذلك الاسم الإنكليزي الهزلي والفكاهي المشهور، Humpty Dumpty.. وهذا الاسمُ بالذاتِ لَهو، في واقعِ الأمرِ، اِسمُ تيك الشخصية الإنكليزية المشهورةِ في أناشيدِ الأطفالِ منذ نهاياتِ القرن الثامنَ عشرَ حتى أيامنا هذه، على أدنى تخمين، حيث تصوِّرُها هذه الأناشيدُ كـ«رَجُلٍ» سمينٍ جدًّا وقصيرٍ جدًّا بهيئةِ «بيضةٍ ضخمةٍ» كان قد سقطَ ذاتَ يومٍ من على الجدار الذي اعتادَ أن يجلسَ في موضعٍ يتموضعُ فوق حافَّتِهِ (العليا)، وكان قد انكسرَ بالتالي كما تنكسرُ «البيضة» ذاتُها، ولم تعد أيَّةٌ من قوى الإنسِ والجنِّ تستطيع رَأْبَهُ كما كانَ على حالِهِ، بأيَّتِمَا هيئةٍ كانت.. وهناك، في اللغة العربية العامية في اللهجة الفراتية تحديدا (كما تعلَّمتُ من أستاذي الكريم غياث المرزوق)، هناك العديدُ من الأسماء المنحوتة قصدا وعمدا كذاك بشكل هزلي وفكاهي ساخر لكي تدلَّ على شخصيةٍ تتبدَّى بغرار هكذا شخصيةٍ جدِّ سمينةٍ وجدِّ قصيرةٍ، من مثل: «البُخُم» و«التِّيخُو» و«البَطْحِيش»، وغيرها من الأسماءِ المنحوتةِ الأخرى.. وهناك أيضا العديدُ ممَّا يقابلها في اللغة العربية الفصحى من ألفاظٍ «لامنحوتةٍ» يكادُ أن يطويَها النسيانُ الجَمْعي العربي من جهةِ الماءِ إلى جهاتِ المياهِ، من مثل، «البُؤْبُ» و«الإِزْبُ» و«الحُظُبُّ»، وغيرها!!..

وهكذا، أيضا، وقد «أدركَ شهرزادَ الصباح»، وهكذا، وقد «سكتتْ عن الكلامِ المُباح» – فما تنشرُهُ، في هذا الآنِ وهذا الأوانِ، جريدةُ «القدس العربي» من خلالِ الكثيرِ من افتتاحياتِها الغزيرة (وهذه قد كانت بدايةَ المطافِ بالحتمِ، ولا شكَّ فيها)، وما تنشرُه كذلك من خلالِ الكثيرِ من مقالاتِ كاتباتِها وكُتَّابِها الذين تتباهى بإمكانياتهم «المُثْلى» وبمستوياتهم «العليا» تباهيا نرجسيا، بطبيعة الحال، إنما هو أصدقُ دليلٍ ملموسٍ شديدِ الجلاءِ والبيان على ما قاله السياسيُّ الأمريكيُّ، توماس جفرسون، في قولِهِ التهكمي الساخر، ذاتَ يومٍ، بما معناه: «من لا يقرأ أيَّ شيءٍ على الإطلاقِ، على الإطلاق، إنما هو أكثرُ ثقافةً بكثيرٍ ممَّن لا يقرأ سوى الجرائد»!!..

……

28 شباط (فبراير) 2021

تعريف بالكاتبة 

ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتُها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا بموضوع ( بلاغيات التعمية )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى