ع هدير البوسطة

 سهيل كيوان | فلسطين

كانت مهنة سائق حافلة عمومية من المهن المتقدمة في السلّم الاجتماعي، فالعمل في هذا المجال كان يعني عملاً منظّماً وراتباً جيّداً، وذلك أن الشَّركة الأكبر في داخل مناطق 48 كانت شركة «إيجد» ولم يكن دخول العرب للعمل فيها كسائقين أو مراقبي تذاكر سهلاً، فعمِل فيها فقط من كانت لهم واسطات قويّة، وهم قلّة نادرة.

حتى في المجتمع اليهودي، كان الدخول إلى هذه الشركة امتيازاً لأبناء عائلات من الطبقة المتوسطة.

كان العمل في قيادة حافلة عملاً سهلاً مقارنة بالأعمال الأخرى التي يمارسها العرب، الذين شكلوا قوّة العمل الأساسية في فروع البناء وشقّ الطرق ومقالع الحجارة وملحقات هذه الصناعات.

وقد حظي سائقو ذلك «الزمن الجميل» باحترام المسافرين وغير المسافرين، ونُظر إليهم قبل نصف قرن، كما يُنظر اليوم إلى قائدة طائرة ركاب بعد هبوطه بسلام في أرض المطار، وإذا كان المسافرون طلاباً في الابتدائية أنشدوا له «يا شوفير ادعس بنزين عل مية وتسعة وتسعين» و»يا شوفير دوس دوس الله يبعث لك عروس».

الأهم هو أن أخلاق البشر كانت أقل بهائمية، وحتى لو حدثت مشادة بين السائق وأحد المسافرين، فهي تبقى في نطاق لفظي، ويندر أن تتحول إلى صدام جسدي، وكان الاعتداء على السائق مخالفة جنائية ثقيلة، فينحاز الركاب إلى السائق ويلجمون المعتدي، ويقود السّائق الحافلة مع المسافرين إلى قسم الشرطة القريب كي يحظى المعتدي بنصيبه.

ورغم ذلك فهي مهنة متعبة جداً، بسبب اختلاف أمزجة الناس وخلفياتهم الثقافية والاجتماعية والقومية، ثم الظرف الذي دخلوا فيه إلى الحافلة، فقد يصعد إلى الحافلة المستهتر والثمل وثقيل الظل ومستعمل المخدرات الذي لا يملك ثمن التذكرة، والذي قد يغفو ويستيقظ غاضباً ليأمر السائق بالتوقف الفوري لأنه ابتعد عن محطة هبوطه، وقد يدخلها مبللٌ بمياه المطر، وموحل الحذاء، خصوصاً في المناطق القروية، وقد يكون مفصولاً من عمله للتو ومُحبطاً، وقد يكونا عاشقين ملهوفين شبِقَين لا يقيمان أي اعتبار أخلاقي لمن هم حولهما، وآخر يحث السائق على الإسراع أكثر لأنه مرتبط بموعد يخشى أن يفوته، وآخر يطلب تخفيف قوة المُكيّف وآخر يطلب رفعها، ويتوسَّل آخر للسائق بأن يتوقّف لأنه يريد قضاء حاجة لن يستطيع عليها صبراً، وهناك من يطلب سماع نشرة الأخبار، وآخر يريد أن يدخل برفقته كلبه الصغير، أو ابنه الصغير الذي يطلب إعفاءه من الدفع رغم أن حجمه أكبر من السائق نفسه.

حدثت طفرة كبيرة في عدد السائقين العرب في العقد الأخير، وذلك بعد فتح باب المنافسة بين شركات النقل وخصخصة الشركة الكبرى (إيجد) وهذا أدى إلى رغبة أصحاب الشركات بتشغيل أيدٍ عاملة رخيصة، فبقي الميدان لحديدان، ودخل العرب إلى الصورة بقوة، وفي إحصائية تقول إن أكثر من 50% من سائقي حافلات الركاب داخل الخط الأخضر هم من العرب، هذا يعني آلافاً من السائقين العرب يعملون على جميع الخطوط في طول البلاد وعرضها، وحظي هؤلاء في العام 2019 على أكثر من 600 اعتداء جسدي واضطروا لتلقي العلاج وقدموا شكاوى إلى الشرطة، إضافة إلى مئات آخرين لم يتوجهوا بشكاوى إلى الشرطة لأنهم لا يثقون بأن شكواهم ستأتي بنتيجة، وتقول الإحصائية إن 90% من هذه الاعتداءات وقع على سائقين من العرب الإبراهيميين، والبقية حظي بها سائقون يشبهون العرب.

أما الاعتداءات اللفظية العنصرية فلا مجال لإحصائها، فهي مثل مرحباً وصباح ومساء الخير والسّلام عليكم في مقهى أراجيل عامر، وهي تبدأ من العربي القذر وتمتد إلى أنه يجب إبادة كل أمة العرب، يشمل الممانعين والمطبّعين على حد سواء.

بعض هذه الاعتداءات ينفَّذ بقبضة يد فارغة، وبعضها بقبضة ممتلئة، أو بأداة حادة، وبما يتوفّر تلقائياً مثل جهاز الهاتف أو قلم حبر «بِيك» أو عبوة بيبسي كولا سواء من زجاج أو من تنك، أو بزجاجة ماء بلاستيكية، أحد هذه الاعتداءات كُلف به كلبٌ شرس، أطلقه صاحبه على سائق يدعى منتصر عيسى من شعفاط، لأنه احتج بأن الكلب دون واقٍ على فمه، فكان الرّد بهجوم فوري على اللحم العربي، كذلك فقد ازدادت الاعتداءات على خلفية مطالبة المسافرين بلِبس الكمامة.

وتتضاعف الاعتداءات على السائقين العرب مرات ومرات خلال وقوع أحداث على خليفة قومية بين العرب واليهود، الأمر الذي اضطر أعداداً كبيرة منهم على الاستقالة من العمل خشية على أنفسهم، بعدما تحوَّلت إلى مهنة رُعب، ولهذا يوجد نقصٌ في السائقين يقدر بأكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة سائق.

شاب أعزب قال لي: «تركت العمل يا خال لأنني أخشى ارتكاب جريمة، لا أستطيع مواصلة ضبط أعصابي، المسافرون وقحون وعنصريون جداً، وخصوصاً في ساعات الليل المتأخّرة في الخطوط الداخلية في المدن اليهودية، حيث السُّكارى والحثالات يستقوون على السائق العربي».

المواصلات العامة تعكس تنامي العنصرية بشكل سرطاني، وهذا يشمل القطارات والطائرات والبواخر، حيث يتعرض مسافرون من العرب في القطارات إلى اعتداءات عنصرية لفظية، وخصوصاً إذا كنَّ فتيات يرتدين لباساً يشير إلى انتمائهن الديني، أو إذا ما كانوا يتحدثون في لغة أهل الجَنّة، فقد ينبري فجأة من ينهاهم عنها، وقد يتطوّر الاستفزاز إلى الأيدي.

أما السفر في طائرات إسرائيلية مثل شركة «العال» و»ييسراإير» و»أركيع» فقد يتحوّل إلى كابوس، ولهذا تمتنع أغلبية المواطنين العرب الساحقة من السَّفر على أجنحتها الميمونة تجنّباً للمضايقات، وفي ضوء التجارب فإن هذه الشركات تقول للمسافر العربي، نتمنى لك الوصول بسلام ولكن ليس في طائراتنا، اذهب إلى غيرنا منعاً للإحراج.

آخر صيحة في فنون العنصرية أطلقها قبل أيام عدد من أعضاء الكنيست من الأحزاب الدينية، يطالبون بعدم وقوف الحافلات التي يسافر فيها يهود من الشّمال في محطات قرى منطقة وادي عارة، كي لا تنقل معها عرباً في طريقها إلى القدس، بحجة أنهم يتعرضون للأذى من عيون محمد وسميحة وعالية، يخرب بيت عيونك يا عالية شو حلوين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى