مفهوم السّحج والسّحّيجة

أ. محمد موسى العويسات | القدس – فلسطين 

السّحج أو السّحجة هي كلمة في الفنّ الغنائي الشّعبيّ تطلق على ضرب الكفّ بالكفّ  بطريقة معيّنة تتناسب مع الإيقاع الموسيقيّ للأغنيّة من حيث الشّدّة والسّرعة واتّجاه الضّرب وحركة الكفّ في أثناء الغناء في الحداء أو البدعة أو السّامر وغيرها، وهي غير التّصفيق المعروف، والكلمة أصلها عربيّ أصيل، وبالعودة إلى معاجم العرب وجدت اشتراكًا في المعنى بين سحج الفصيحة القديمة وسحج المألوفة في فنّنا الشّعبيّ من جانبين، هما: حكّ الشّيء بالشّيء للقشر، أو لإخراج الصّوت،  والثاني هو السّرعة وخفة الحركة، وما أخذتها العاميّة للفن الشّعبي إلا لتضمّنها هذين الجانبين، ثمّ تطورت هذه الدّلالة في السّنين الماضية، لتطلق على من يشايعون الحكّام  وأصحاب السّلطان ويؤيّدونهم في كلّ أمر، وإنْ كان باطلاً، ويكونون لهم أبواق إعلام، فيوهمون النّاس أنّهم على حقّ، ويوهمون النّاس أنّ الشّعوب راضية بما يفعل حكامها، وتتجاوز السّحجة والّتسحيج والسّحيجة في هذا الشأن الفنّ الغنائيّ والأدبيّ  كالشّعر إلى كلّ أصناف التّأييد قولًا وفعلًا، وتعمّ الرّقص في الشّوارع مظاهرة وتأييدًا. ووجدت بعض النّاس قد أجاز هذا المصطلح على تاريخ شعراء العربيّة الأفذاذ في عصور خلت، فيعدّ مدح الخلفاء والقادة وأولي الفعال العظيمة في ذلك الزّمان تسحيجًا، والحقّ أنّ هذا فيه تجنّ ومجانبة للصّواب من جانبين: الأول أنّ أولئك الحكّام كانوا من الأمّة، وما كانوا خونة ولا متأمرين، وما من أحد منهم استخذى أو أسلم أحدًا من رعيّته لعدوّ، وكانت مدائحهم تطابق بطولاتهم، ومن شواهد ذلك مدحة أبي تمّام في  الخليفة المعتصم العباسيّ في فتح عمّوريّة ومدائح المتنبّي في سيف الدّولة، أمّا الجانب الثّاني: فشعراؤنا كانوا في شعرهم يخلّدون لغة ويبدعون فنًّا راقيًا يخلّد فخرًا وتراثًا عظيمًا يبعث في النّفوس معاني الحكم المطلوب وبطولة الحاكم التي  يرنو إليها النّاس، فمدائحهم كانت وما زالت موائد القيم الدّسِمة ومعاني الرّجولة والمروءة التي نفتقدها اليوم، بل لولا الفرزدق وهو من شعراء بني أمّيّة لضاع ثلث اللّغة أو ثلثاها فشعره ديوان العربيّة.  فلا أرى ولن تسوّل لي نفسي أن أطلق مسمّى (سحّيج) على الفرزدق أو جرير أو المتنبّي، أو غيرهم من شعراء العصور الذّهبيّة، وإن كان من بعضهم هَنات وهنات إلا أنّها لا تقدح في مقاماتهم العليّة، ويغضّ الطّرف عنها، ويشفع لهم رقي الأدب وفعال الممدوحين الجميلة، وأهمّية شعرهم اللّغويّة،  والجدير بالذّكر أنّ هناك أشعارا كثيرة جدّا في نقد الحكّام أو التّحريض عليهم لم ندرسها أو نطّلع عليها، لطغيان شعر شعراء ارتبطوا بالقصور ومدح الحكام فاشتُهروا، بل من هؤلاء من كان يقف في وجه الحكّام إذا ما اقتضى الأمر وقفة، مثال ذلك الفرزدق عندما وقف في وجه هشام بن عبد الملك لمّا أنكر عليّا ابن الحسين بن علي الملقّب زين العابدين، عليهم السّلام، وقال قصيدته المشهورة (هذا الذي تعرف البطحاء وطأته…) فسجن عليها أشهرا. وهذا ابن عمّار الأسديّ يقول في حكّام بني أمّيّة:

وبنو أميّة أضرعونا للعدى…

لله درّ ملوكنا ما تصنع؟!

كانوا كتاركة بنيها جانبا..

سفها، وغيرَهم تصون وترضعُ

 (والمقصود بالعدى هنا قائد اسمه خالد القسريّ ولاه بنو أمّيّة قيادة الجيش في العراق)، وقد كان جلّ الخلفاء يعقدون مجالس للشّعر والخطابة واللّغة وغيرها، فكانت لهم مجالس علم وأدب، ليس المقصود منها الترويج للحاكم ومدحه والرّفع من شأنه فقط، بل كانت تقليدا مقصودا ورثته العرب كابرا عن كابر منذ العصر الجاهليّ، وقد أقرّه الإسلام فهذا رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، لا يأتيه وفد من وفود العرب إلا استنشد شاعرهم وطلب من حسّان أن يناظره ويردّ عليه، فقد شهد عام الوفود مجالس أدبيّة وشعريّة محفوظة إلى يومنا، وهكذا كان الارتباط بين الحكّام والشّعراء ارتباطا وثيقا ونافعا وسرّا من أسرار الإبداع والتألّق، ولما تولّى الحكم الأعاجم من المماليك ومن بعدهم الأتراك، انفكّت العلاقة بين الحكّام والشعراء فضعف الشّعر بشكل عام، بل كان كبار الشّعراء في العصر المملوكيّ لا يعرفون طريقا إلى مجالس الحكّام، ولا يتلقّون الأعطيات منهم، فعانوا الفقر والحرمان وامتهنوا مهنا شعبيّة طالما أبغضوها، ومن هؤلاء الشّاعر الجزّار وابن دانيال، وابن نباتة،  والبوصيري، وغيرهم كثيرون. يقول الجزّار:

لا تلمني يا سيدي شرف الدّين إذا ما رأيتني قصّابا

كيف لا أشكر الجزارة ما عشتُ حفاظا وأرفض الآدابا

وبها أضحت الكلاب ترجّيني وبالشّعر كنت أرجو الكلابا

 وهكذا كانت العلاقة بين الشّعراء والحكّام في سالف الأزمان علاقة إيجابيّة بل من الضّرورات ومن أسرار الازدهار الأدبيّ والشّعريّ،  فلا أراهم أبواقا أو طبولا للحكّام، وظاهرة المتنبّي ظاهرة أدبيّة فذّة إذ لم يكن بوقا للحاكم بل كان ندّا له، يمدح نفسه قبل أن يمدحه، فقد اتّخذ مدح الحكّام للرّفع من شأن نفسه وإشباع غروره. فشتّان ما بين شاعر أو أديب في عصرنا الحاضر يتردّد على حاكم في أدب كاذب، أليق اسم  به هو أدب التّسحيج، وبين شاعر أبدع وتألق ووصف بطولات فعليّة، وإن بالغ وكذب، فأجود الشّعر أكذبه.

٢ أذار ٢٠٢١

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى