حكايا من القرايا.. فلسفة طابة، وطيبة الحج سليمان

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

لم يكن لنا ملعب خاص نمارس فيه ألعابنا… كنا أطفالاً بلا ملعب… لكن الدنيا كلها كانت ملعبنا… نلعب الكرة في الشارع، وعندما تضرب برأس أحد المارة أو بطرف من أطرافه، نطرد من الشارع، إلى شارع آخر… وعندما ضرب سليم الكرة ضربة جزاء بعد طوشة ومناقرة مع الفريق الخصم، نزلت في دار (أبو خالد)، فكان جزاؤها أن مسكها أبو خالد بيد، وفي اليد الأخرى حمل موس الثلث طقّات، وشقّها ورماها… وشتمه لاعبو الفريقين في سرّهم… لعبوا في ملعب المدرسة، فطردهم مديرها مدّعياً أنهم يخربون المزروعات والمرافق… نزلوا بكرتهم إلى الأراضي السهلية، فطردهم أصحابها، بحجة أنهم يعيثون فساداً في المزروعات المجاورة… ويدكّون الأرض دكّا حتى تصبح صلبة لا تصلح لحراثة أو زراعة… طفولة فقيرة، يعدم أطفالها ألعابهم… لا مؤسسة ترعاهم، ولا أهل يدبرون ألعابهم… ولا… ولا… بل يطردون… ويطردون…

وفي عصر يوم من الأيام، خرج الأطفال من القرية إلى حدودها الأخيرة، وهناك هداهم الله إلى مسار سكة الحديد العثمانية، سكة مستوية مقطوعة في الجبل مستوية بلا حديد… تبعد عن الناس… قلعوا ما نبت فيها من أشواك ونباتات برية… ثم نصبوا حبلاً من الشرايط التالفة وكانت بمثابة شبكة قطعت الطريق نصفين، وكان ملعب كرة الطائرة، وتشكل الفريقان… صفر الحكم الواقف قرب حبل الشرايط المربوط وبدأ اللعب… وبدأ الهدوء يجتاح الملعب والكرة في الفضاء، وإذا لامست الأرض دار الصخب والصياح، وبدأت التكهنات والاجتهادات هل تحسب نقطة لهذا الفريق أو ذاك، وكان آخر شيء ينظر إليه في ذلك قرار الحكم الواقف قرب الحبل… يستشار في اللحظة الأخيرة… بعد تعب الفريقين في المناقرة…

واستمر الحال، اللاعبون في ملعب ( الطرنشة ) هكذا كانوا يسمونه، واندكّت أرض الملعب، وتشقق سطح الطابة البلاستيكية، لدرجة أنهم حشوها من خلال شقوقها بالشرايط وقطع القماش التالفة… وفي ذات عصر مرّ الحج سليمان قرب الملعب في طريق عودته من عمله في الأرض، أوقف حمارته، وبدأ يرقب حركة الأولاد والطابة… وكأن المشهد شدّه وأراحه واستمتع به… وفي اليوم التالي، مرّ الحج سليمان ونزل عن الدابة يتفرج على مجريات المباراة، وتطوع أحد لاعبي الاحتياط فربط الدابة في شجرة قريبة، ووقف الحج… ووقف، وهو يتحرك مع الكرة بسكناته وبسماته، ويبدو مستمتعاً مقهقهاً حيناً، وصائحاً حيناً آخر، يوجه اللاعبين وينصحهم. بعد أيام أصبح الحج سليمان مكوّناً أساسياً يتابع اللعب…

ويكبر الشق في الكرة، وعين اللاعبين بصيرة والإيد قصيرة… ويتذمر اللاعبون، والحج يتابع، ثم يسأل: لماذا لا تشترون غيرها؟ ويخرج اللاعب خليل صاحب الضربة الصاعقة يخرج من خجله، ويحرك أمام وجه الحج إبهامه فوق سبابته بشكل متواصل، بطريقة تدل على السبب… قلة ذات اليد… وكم ثمنها يسأل الحج: يتابع خليل سبعة قروش ونص: شلم، وقرطة قرشين وتعريفة… يوقف الحج اللعب، ويذهب إلى حارة البلدة، ويتبعه قسم من اللاعبين… إلى دكانها الوحيد، ويشتري طابة، ويشتري قطعة كبيرة من الحبال، بدل شبكة الشرايط… ويستمر اللعب… ويموت الحج سليمان ويستمر اللعب، والرحمات تنزل تترى على روحه… وما زالت الحكاية يتناقلها الناس في نواديهم ومجالسهم…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى