عشة أم نوسة… قصة قصيرة

 فرحات جنيدي | قاص وكاتب مصري

فى حى روض الفرج لا أحد ينام ، وكان السوق يصنع حالة من الزحام وتدفق البشر إلى الحى كالطوفان الذى لا يستطع أحد أن يوقفه وانتهى السوق وانتهى عهده , لكن ترك لنا الزحام كما هو وظل أبناء صعيد مصر لا ملجأ لهم غير هذا الحى , وكانت حارة درب كشك رغم صغرها والتى إن صح الوصف يمكن تسميتها زقاقاً أو عاطفاً . كان الكل يتصارع إلى السكن بها لرخص الثمن ولأنها تحتوى على مجموعة من البيوت التى تسمى بيوت ” سويسى ” , والتى تميزت بالغرف المنفردة والتى كان لى الحظ أن أسكن أحدها برغم إصرار صاحب البيت وأهل الحارة على عدم التأجير للعزاب . تدخلت” أم نوسة ” وابتسمت فى وجه صاحب البيت فكان لها مفعول السحر فوافق صاحب البيت والجيران لأن أم نوسة هى التى تتحمل مشاكل العازب الذى سيكون جارها . كان بين” أم نوسة ” وزوجها رباط من الحب والصداقة فكل منهما لا يجد راحته إلا بالقرب من الآخر إلا أنهما مختلفان تماماً في الطباع , فالرجل هادئ ولا يغضب في أصعب الظروف وعلى العكس أم نوسة حادة وتغضب لأقل الأمور ومن النادر أن تبتسم .
وذات يوم ضربت الأمطار الحى وبعدها ثارت عاصفة رياح شديدة عصفت بكل الكراكيب التى على سطح البيت كادت أن تودي بحياة أم نوسة التى حاولت إنقاذ عشة الفراخ التى تعد ثروتها الأولى والأخيرة . فرح صاحب البيت وارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهه وهو يحدث نفسه بصوت مرتفع اليوم أستطيع أن أبنى غرفتين فوق السطح بعد أن تنهى الرياح على كراكيب وعشة أم نوسة التى احتلت السطح منذ سنين . تهدأ العاصفة قليلاً لكن المطر يعلن العصيان ويتساقط بسرعة غير مشهودة من قبل وتعود العاصفة وتهتز السماء من صوت البرق والرعد وتستمر الرياح والأمطار الهائجة وأم نوسة لم تستسلم وتمسك بطيورها واحداً تلو الآخر .
امتلأت العشة بالمياه وانتشر الذعر والخوف بين كل سكان البيت وهربت الابتسامة الكبيرة من على وجه صاحب البيت . أنا أقف كالتمثال لا أعرف ماذا أفعل , الكل يحاول الهروب من البيت وأنا أتابع أم نوسة دون أن أقدم لها يد العون حتى وقعت عيناى على ديك شركسى فأمسكت به فابتسمت أم نوسة . أدركت الخطر فهرولت إلى أسفل وأنا أمسك بالديك وارتفعت أصوات الصراخ من الجيران وامتزجت بصياح الأطفال الذين يصرخون فرحاً بالمطر وصوت البرق واالرعد يعلو أكثر . وها هو صاحب البيت أدرك أنه في خطر وأن فرصة النجاة تحتاج إلى معجزة من الله فهرب إلى أسفل . لم تتمالك أم نوسة أعصابها فأخذت تصرخ لا تعلم ماذا تصنع , ذهبت مسرعة نحو زوجها لعلها تجد حلاً للنجاة من هذا الموت وعيناها على ما تبقَى من طيور وبعض الأشياء الهامة التى فى غرفتها , ولكنها فوجئت بالزوج كعادته جالساً هادئاً ، فازدادت غضباً و إتّهمتهُ بالبرود واللامبالاة .
نظر إليها الزوج وبوجه عابس وعين غاضبة واستل سكينًا ووضعه على صدرها وقال لها بصوت حاد : ألا تخافين من السكين ؟
نظرت إليه وقالت : لا .
فقال لها : لماذا ؟
فقالت : لأنه ممسوك في يد من أثق به .
فابتسم وقال لها : هكذا أنا ، كذلك هذه الأمطار وتلك الرياح جند من جنود الله وأنا أثق به وأحبه فلماذا الخوف إن كان هو المسيطر على كل الأمور , والبيت يا حبيبتى رغم أنه قديم لكنه مسنود من البيوت التى حوله وهم الآن يحمى بعضهم البعض فادخلى الغرفة أنتِ وطيورك , وإن كتب لنا الموت سنموت فاجعلينا نموت بغرفتنا مستورين أفضل من أن نموت بالشارع وتكون أجسادنا عرضة لمن نعرف ومن لا نعرف .
استسلمت وارتمت فى حضنه .
استمرت الرياح والأمطار وصياح الأطفال وصراخ النساء , وفجأة عم الصمت ثم عادت الأصوات تعلو تدريجيًا لكنها أصوات حزينة حيث سقطت إحدى قطع الخشب على رأس صاحب البيت فسقط على الأرض ميتاً . وانتهى صوت البرق والرعد وهدأت الرياح وانخفض المطر وظل البيت صامدًا مقاومًا وأم نوسة بحضن زوجها ، أغمضت عينيها بعد أن أرهقها النظر إلى باب الغرفة المفتوحة والنظر إلى الأمطار وضوء البرق , ولم تفتحهما إلا عندما سمعت صوت الديك يضرب بجناحيه بين يديّ فابتسمت فى وجهى ونظرت إلى زوجها وابتسمت ابتسامة كبيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى