كُومَار عاشِقًا قصَّة قصيرة [i]

الأديب السُّوري موسى رَحُوم عبَّاس

     موسى الخضر شاب من مدينتي الرَّقة السُّورية، وكان زميلا في معهد المعلمين بحمص، موهوب في الموسيقى والغناء وفنون أخرى، عشقتُ الأغاني الهندية عندما سمعتُهُ يؤديها على مسرح المعهد أول مرة بصوته الشَّجي، بالتأكيد لا نفهم الكلام، وأظنُّه حتى هو كذلك، لكننا نشارك فيه سماعيا، كنا نرقص على شكل حلقات متداخلة كما يفعل الهنود، بدأنا نتسلل مجموعات صغيرة إلى سينما الزهراء القريبة من السَّاعة القديمة في مركز المدينة، قصص الحب التي تتحدث عنها الأفلام الهندية بخاصة تثير لواعج الحنين لنساء غامضات نرسم لهن صورا دافئة، وجوه تشبه الحنطة لوحتها شموس الفرات، وجدائل طويلة تخفي هضابا وأودية قد لا تكون موجودة إلا في خيالنا نحن القادمين من الصَّحراء إلى قلب البلاد الجميل، عِشْقُ الأغاني الهندية تحوَّل لعشق الهند بألوانها الصَّارخة، ورقصها المتناغم مع الروح، وأطواق زهورها البرتقالية والحمراء التي تفرش على دروب العاشقين، ظننتُ أنَّ ذلك زمن قد ولَّى، دُفِنَ في الطَّوابق السُّفلى من الذاكرة، في مقبرة الأحلام البعيدة، لكن، لا،  هاهو ذا يعود مُعْلِنًا عن نفسه وأنا أعمل في أقصى الخليج العربي قريبا من فم صحراء الرّبع الخالي مع زملاء العمل الهنود الذين صاروا بسرعة أصدقاء في شركة المقاولات التي نعمل بها، وفي عطلة نهاية الأسبوع نقيم حفلة للرقص والموسيقا  الهندية، ولو أنني أشركتهم في بعض أغانينا ورقصاتنا لكنها لم تَرُقْ لبعضهم، وحركتها بطيئة كما يقولون، ترجمتُ بعضَ كلماتها للإنكليزية فبكى بعضهم، وبكيتُ أنا لكن لأسباب مختلفة عنهم، هذه الأمسية الحفلة صاخبة، الموسيقى والإيقاعات الهندية تعلو، يشكِّل الراقصون دوائرَ متداخلةً، يقفزون فجأة، يدورون كالدَّراويش في حلقة الزَّار، أشعلتُ لهم البخور، وطفتُ به في الحلقة، كان يتصاعدُ على شكل غيمة تعلو رؤوسنا، يغنون للحب وللوطن ولطفولتهم الضَّائعة، تهتزُّ أجسامهم بخفة وكأنَّها فراشةٌ تعلو بعيدا عن النَّار، يسكت الإيقاع فجأة، ثم ينطلقُ أسرع مما كان، لكنَّه هذه المرة سكتَ تمامًا!

 انقسم الرَّاقصون إلى جيشين متحاربين، سالت الدماء على أرض الملعب وسط السَّكن العمالي، سكاكينُ تلمع لا أدري أين كانت مُخبَّأةً، عِصِيُّ، أدواتٌ حادةٌ، سِباب وشتائم لا أفهمها، لكني خمَّنت أنَّها كذلك من خلال تشديدهم على نطق حروفها وهم يكزُّون على أسنانهم، ويلوحون بأيديهم، هرب الكثيرون، وبقي آخرون، وفي كل مجموعة كان هنالك من يُحمِّس على استمرار القتال مشيرا بيديه إلى الطرف الآخر، رغم أنَّه ينأى بنفسه عن المنطقة الخطرة، ويبقى بعيدا عن الإصابات، أو مكان سقوط الأحجار، وربما قام بجمع حافظات النقود والسَّاعات المتطايرة من المتقاتلين بعيون لامعة لا تُخفي تشفِّيها بما حدث، وآخرون يعيدون تزويد الطرفين بالحجارة والأسلحة البيضاء، هذا آخر ما أتذكره وأنا أحاول أن أتفادى تلك العصا المنطلقة كَسَهْمٍ نحوي!

  في حديقة المستشفى كُنَّا نتشمَّس أنا وكومار صديقي الذي يربط يده المكسورة إلى عنقه، لم نملك أنفسنا من الضَّحك عندما التقت عيوننا، ونحن نتحايل على عُمَّال الحديقة ؛ ليتغاضوا عن مخالفتنا الجسيمة في التَّدخين في مِنْطقةٍ محظورةٍ، همستُ له، هلَّا شرحتَ لي ما الذي حصلَ تلك الليلة المشؤومة! أشار لي بالصَّمت، أغمضَ عينيه، وبدا كأنَّه يحلم!

   أنا كُومار الرَّاقص القديم في الفرقة الفنية الاستعراضية في مقاطعة” كيرلا” لا أجيدُ سوى الرَّقصِ والغناءِ والحبِّ، درستُ الهندسة، لكنني بقيتُ وفيًّا للرَّقص، عندما وصلتُ هنا على تخوم العالمِ، قلت لم يبقَ لي سوى هذا القلب العاشق للحياة والألوان، كنتُ أُغنِّي ما نحبُّه في مقاطعتنا، لم أعرفْ أنَّني دخلتُ في المِنْطقةِ المحظورة، توقف أولئك الرَّاقصون عن المشاركة، إنَّهم يرفضون أغانينا، معظمهم من مقاطعات مجاورة لنا، ذاكرتهم مليئة بثقوب سوداء، ربما ذكرتُ أسماءَ أبطالنا الذين هم مجرمون عندهم، نكأتُ جِراحًا لمَّا تندملْ بعدُ، أشعلتُ حرائقَ لمَّا تندثر، هذه لعنةُ الذَّاكرةِ ، والحصادُ المرُّ لسنين القهر.

 اعتقدتُ أنَّه كان يبكي، وهو يمسح على الجبيرة في يده المكسورة، بينما كنتُ أفكِّرُ في مقاضاةِ موسى الخضر مُحمِّلا إياه وِزْرَ ذلك الجرحِ الغَائرِ في صدغي، وأنَّه لم يُحْسِنْ ترجمة تلك الأغاني وأسماء أبطالها، بينما كنتُ وكُومار نمسحُ دموعنا، ونغنِّي للحبِّ ولنساءٍ لا نعرفهن، ربما تعود سينما الزَّهراء القريبة من السَّاعة بحمص القديمة إلى بث أغاني الحبِّ لكن هذه المرة لابد أن تكونَ الترجمةُ دقيقةً!

[i] أهدي هذه القصَّةَ إلى الصديق الفنَّان والملحن موسى الخضر، بانكوك، تايلاند

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى