عبد العزيز المقالح المشهور المغمور

 

د. قائد غيلان | اليمن

يتفاجأ الباحث الذي يقترب من عالم المقالح بندرة المعلومات عنه وشحة المصادر، وهي حقيقة صادمة؛ ذلك أن الشائع أن كتابات المقالح قد استحوذت على جل اهتمام الباحثين والنقاد. ربما لأن غزارة إنتاج الكاتب، وكثرة الدراسات والكتب التي تناولت إنتاجه الشعري والنقدي غير متيسرة بسهولة، تحتاج إلى جهود فريق تتبناه مؤسسة، وليس مجرد جهود فردية. إنه من المؤسف أن يبقى كل ما كُتِب عنه مُفرّقا ينتظر الجمع والتوثيق، لابد من قاعدة بيانات تيسر الرجوع لتراث هذا الشاعر والناقد والمفكر الكبير. فأنت عندما تذهب إلى موقع ويكيبيديا مثلا لا تجدهم يذكرون إلا القليل من المؤلفات يعتريها النقص وبعض العناوين مكتوبة خطأ، ولا تجد إلا القليل مما كتب عنه رغم كثرتها. والغريب أن بعض الباحثين يعتمد على تلك البيانات فينقلها كما هي بأخطائها. تتوقف الويكيبيديا عند كتاب المدن الصادر عام 2005 على أنه آخر ديوان شعري للكاتب، ولا تثبت إلا القليل من كتبه النقدية، ولا تذكر إلا القليل مما كتب عنه وهو كثير، أي إنك لا تجد حتى قائمة تضم كل إنتاجه الفكري والإبداعي. إن كل ما كتبه المقالح هو تراث لكل اليمنيين والعرب، ولابد أن ينال حظه من القراءة والمراجعة والنقد والتحليل.

موقفه من القصيدة العمودية:

عُرِف الدكتور عبدالعزيز المقالح كواحد من أهم الشعراء المعاصرين، وواحد من النقاد العرب اللامعين، كتب القصيدة المعاصرة ودافع عنها، ويعد كتابُه ” أزمة القصيدة العربية .. مشروع تساؤل” من أهم المراجع النظرية لقصيدة الحداثة أو القصيدة الأجد حسب تعبيره.

هاجم المقالح القصيدة العمودية بشدّة، واعتبر من يكتب القصيدة التقليدية كمن يسبح في بركة عمرها أربعة عشر قرنا لم يتغير ماؤها، أي إن شاعر القصيدة العمودية كأنما يسبح في مستنقع. لكن من يعرف ظروف القصيدة العربية في فترة السبعينات والثمانينان والتسعينات يعرف لماذا صبّ المقالح كل ذلك الهجوم، فقد كانت القصائد كلها متشابهة، ليس فيها إبداع ولا تأتي بجديد، تخوض في نفس الموضوعات وتستخدم نفس المفردات والصور والأساليب. 

لكن موقف المقالح تغيّر في السنوات العشر الأخيرة، بعد مجيء جيل من الشعراء اليمنيين الجدد الذين استطاعوا أن يجددوا من داخل القصيدة العمودية، فاعترف بإبداعهم ضمنا وتصريحا، وجاراهم على طريقتهم، فكتب مقطوعات عمودية وأهداها لبعضهم اعترافا بشاعريتهم. لكن مقطوعاته جاءت تحت مستوى التوقعات، لا ترقى إلى شعر المقالح، بل تدخل ضمن شعر المديح والمجاملات المرفوض من المقالح نفسه ومن سائر الشعراء والنقاد المعاصرين، فقد كتب مقطوعة من بيتين للشاعر هشام باشا:

هشامٌ شاعرٌ فَذٌّ حكيمُ

بِفنِّ الشِّعْرِ خَلَّاقٌ عليمُ

قصائدُهُ تُحلِّقُ في الأعالي

فتحسدها الكواكبُ والنجومُ

 

وأخرى للشاعر زين العابدين الضبيبي:

زين الضبيبي” شاعرٌ شهدتْ لهُ

     الأشعارُ والثوراتُ والأوطانُ

في شعرهِ سحرٌ وفي كلماته

  ِ تتراقصُ الأحلامُ والألحانُ

 

وثالثة للشاعر يحيى الحمادي لكنه زاده بيتا على زميليه:

يحيى.. ومِثلُك في مَتَانَةِ شِعرِهِ

                           تَحيا بهِ الأَشعارُ وهي رِمَامُ

يا عَبقَرِيَّ الشِّعر, دون مُنازِعٍ

                         وأَجَلَّ مَن شادَت بهِ الأَقلامُ

حَمَّادِيَ الوَثَبَاتِ, مَحمُودَ النَّقَا

                                 وبِمِثلِهِ تَتَوهَّجُ الأَيَّامُ

 وهذا تراجع من المقالح على مستويين: تراجع إبداعي من حيث هي مقطعات تفتقر إلى الإبداع والتجديد، وتراجع في الموقف من القصيدة العمودية التقليدية، وهذا الأخير نعدُّه تراجعا إيجابيا لصالح الشعر ولصالح الإبداع، لأن الإبداع لا يتحدد بشكل القصيدة بل بما يودعه فيها الشاعر من روح جديدة ومن طرح مغاير للمألوف، إنه الجنون النبيل حسب تعبير المقالح، فالشاعر مجنون نبيل ”  وإذا كان الشاعر هو المجنون النبيل فإن الشعر هو الجنون النبيل أيضاً، فهو يطلق الإنسانية من أسر سياقها المنطقي المألوف، ويحاول أن يسعى بها لتستنشق الهواء النقي بعيداً عن كل ما تواضع عليه الآخرون” (الكتابة البيضاء، ص: 124)

 

إخلاصه للشعر/ القصيدة:

لقد كان للمقالح اهتمامات متعددة لكنه كان مخلصا للشعر كاتباً ومنظرا وناقداً، فكلمة “شعر” أو “قصيدة” تزيّن جلّ عناوين كتبه وهي كثيرة، وكأنه قد كرّس حياته كلها مخلصاً للشعر عاشقا للقصيدة:

هطلت على دمي القصيدة

 ذات صبحٍ هادئٍ

كانت هي الغيمَ الوحيدَ

 على جدار اليوم

كان الأفق أبهى من جبين حبيبة ضحكت.

دنت مني القصيدة في ثياب الصبح

ألقت صمتها في ماء وجهي

فاغتسلتُ بعطرها

ومشيت مزهواً

كأني أرتقي معراج هذا الشعر وحدي

لا ينازعني أحد ..

هطللت على القلب القصيدة

كان مسكونا بحزنٍ باتساع الأرض

مشحونا بضوضاء البلاد وخوفها

لكنها اقتربت

 وألقت ماء معناها على جرح العبارة

فاستعاد الحائط المكسور وحدته

وطارت في شراييني

وطاب لها العروج

وأدرك الزمن الخروج ..

           (بلقيس وقصائد لمياه الأحزان)

 

ثم يربط بين وعي القصيدة ووعي الناس، وعي الإنسان البسبيط:

هطلت على الناس القصيدة

بعد صمتٍ باذخٍ

خرجت إلى اللاوقت

أصبح وقتها كل النهار إذا أراد الناس

أو كل المساء إذا أرادوا

لكنها اصطدمت بأول قارئ

يشتاق قبل الشعر

للثوب النظيف

عبثاً تحاول أن تكون قصيدة

في عالم أعمى

يجوع إلي رؤى المعنى

ويحلم بالرغيف !!

 

الحب الإلهي والقصيدة الروحية:

أخلص المقالح للحب والشعر والجمال، لهذا عاش جل حياته متصوّفاً، نشر مجموعة شعرية (أبجدية الروح ) عام 1998، بعد انقطاع دام 12 عاما أي منذ عام 1986 سنة نشر المجموعة التي قبلها، ويبدو أنه كان خلال تلك الفترة يعيش جواً صوفياً خالصا، صبّ عصارته في هذه المجموعة الشعرية المتميزة. تنتمي كل قصائد المجموعة إلى شعر الحب الروحي الإلهي، مزجت بين شعر التصوّف من حيث الموضوع، والقصيدة المعاصرة (الجديد والأجد) من حيث الشكل والبناء والأسلوب، فقد لخّص في هذا الديوان تجربة العاشق المتصوّف، معاناة شاعر ومثقف ومفكر وإنسان يعيش في هذا الزمن الرديء الفقير إلى الحب:

 

إلهي

انا شاعرٌ

يتحسس بالروح عالمه،

يكره اللمس ،

عيناه مقفلتان،

وأوجاعه لا حدود لأبعادها،

وتضاريسها،

كرهتني الحروب ،

لأنِّي بالحسرات، وبالخوف أثقلت كاهلها،

ونجحت بتحريض كلّ الزهور،

وكلّ العصافير،

ان تكره الحرب،

ان ترفض الموت يأتي به موسمُ للحصاد الرهيب،

ولكنها الحرب يا سيدي اطفأتني،

واطفأت اللوحات المدلاة في الأفق،

أقصت عن الارض نور السموات

واحتكرت ملكوت الجحيم. (من قصيدة ابتهالات في المجموعة)

يبتدئ المقطع بمناجاة القريب، الإله بتضرّع ” الهي”، فتظهر أنا الشاعر الحزين ” أنا شاعر” الذي سرعان ما يتحوّل إلى ضمير الغائب ” يتحسس، يكره، عيناه،أوجاعه” مستثمرا أسلوب الإلتفات في البلاغة العربية، وفي هذا التنويع الأسلوبي الذي يجعل ذات الشاعر تنقسم إلى ذاتين؛ ذات متحدِّثة وذات متحدَّث عنها، يصبح الشاعر هو نفسه وهو الآخرين وهو الوطن ” وأوجاعه لا حدود لأبعادها وتضاريسها”، وما دام هو شعر صوفي فالقيمة للروح، عن طريقها ندرك العالم ونصل إلى الحقيقة، لهذا لا داعي للحواس ” يكره اللمس .. عيناه مقفلتان”.

إن المقالح يستثمر منجزات الشعر الصوفي لكنه لا يغرق، كما فعل غيره، في مصطلحات التصوّف وشطحاته المثيرة للجدل. لا يستعرض ثقافته الصوفية ولا يُغرِق القارئ في تفاصيل لا تهم الشعر ولا تخدم القصيدة والموقف الشعوري، وهذا ما يميّز حداثة المقالح عن غيرها من الحداثات، فقد بقي لصيقا بالشعر قريبا من القارئ عاشقا للقصيدة ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى