رسالة إلى أبي

رحاب يوسف | فلسطين

إلى أبي الراقدِ في قبرهِ  – جعله الله روضةً من رياض الجنّة – أمسكت قلماً وورقةً بيضاءَ ؛  لأكتب لك رسالتي وأنا أموت   شوقاً لرؤيتك، وجُرح الفِراق بالجمرِ مازال يكويني، والبَرد استباح الرُّوحَ والجَسَد، وعيْنايَ تبوحانِ بكلّ ذلك سِراً وجهراً، أبدأُ من اللحظةِ التي رحلت فيها يا أبي إلى مأواك الأخير، وكيف ودّعتُك بالدعَوات، والحَسراتِ، والزّفَراتِ، وكيف استقبلت الحياةَ بالبكاءِ الذي لستُ  أعرف أهو عليكَ , أمْ على نفسي بعدَك؟ الفاجعةُ الكبرى التي فُجعْتُ بها كانت بكَ يا أبي، تجرّعت مَرارتها حتى تغَلغلت إلى أعماق أحشائي .

   لا أظنّ أنّ هناك قلباً احتمل ما احتَملهُ قلبي، ولا أظن أنّ هناك فتاةً وفيةً لأبيها إلى هذا الحدّ مثل ابنتك ,  أغلقُ عينيّ قبلَ النّوم على الدعاء لك،  وأستيقظ و أنا أدعو لك ،لا يتراءى لي شيءٌ عظيمٌ في هذه الحياةِ إلا وجدت وجهكَ فيه، أراك على صَفَحات أوراقِ الأشجار التي زرعتها، أراك في ثمارِ الأشجار شامخاً في أعاليها،  أراك ما ثلاً أمامي وجبينك الأسمر قد لفَحَته أشعة الشمس، وزِنداكَ المشدودتانِ بالشرايين البارزة، بحنانك بصلابتك، بشجاعتك،  بكَرمك، أراك بلحيتك البيضاء تشع بالنور ,  أراك وأنت ترسم أحلامنا فردا فردا ، فكان كما أردت وخططت، أراك برحمتك مع الكل.

 ذكراك يا أبي لا تفارق مخيّلتي، أتذكرك كلمّا دخلت بيتنا القديم , و يا أشدّها من لحظة صعبة  ! لا أملك فيها إلا الدعاءَ  والدموعَ،  صدّق يا أبي ما زالت أنفاسُك الطيبةُ في البيت، وصوتُك الحنونُ بين حفيف الشجر، وطيْفُك في مِحرابه، وشعاعُ قلبِك يا أبي ما زال يمدُّني بالدّفْء يا قطعة من الًروح يا أبي !

 ما أصعب الحياة من بعدكَ يا أبي ! وما أشدّ برودَتها وظلمتَها ! كنت أستمدُّ قوّتي منك، وها أنا  اليوم أقلّب تفاصيلَ الماضي , أبحث فيها عمّا يحييني ويعينني على متابعة المَسير، أقبضُ على قلبي الحزين براحتي و أربّت عليه بعد أن كانت يدُك هي التي  تربّت عليه يا أبي !

 في قلبي وسَريرتي يا أبي الكثير الكثير. لكن لا أستطيع البوح به، يكفي أن أقول لك إنه مازال لا حاجة لي عند أحدٍ بعدَك إلا الله ! أستمدُّ ثباتي وقوتي منه – سبحانه وتعالى – اقتربتُ منه أكثر,  وابتعدتُ عن النّاس أكثر فأكثر.

    حبيبي يا أبي ..أنت الذي لو أراد تغييرَ مجرى نهر لفعل بهمّتهِ العاليةِ ، فأنتَ مختلفٌ عن جميع الآباء، لم تكن أبا اعتيادياً.. لم تجلسْ على قارعة الطريق يوماً، ولم ترتدِ المقاهيَ،  والحانات، والأماكن المزدحمة، كنت توقظُ الشمسَ من نومها، تبكّر بكور الطير؛  لتذهب إلى أراضيك التي أصبحت قِبلةً للناس عندما يتمشون في المساء .

   أنت مصدرُ فخري واعتزازي في هذه الدنيا، رحمك الله مقدارَ حبي لك.. مقدارَ حزني عليك.. مقدارَ ما لامستْ يداك ذراتِ التراب.. مقدارَ عِشْقك للأرض يا مَن أورَثْتنا هذا العشق الأبدي الذي هوَ باقٍ ما بقيًت السماوات والأرض.

 أبي حبيبي – رحمك الله – هذه الحياة ُالدنيا إلى زوال وعَدَم، وكلّنا لاحقون بك إلى الدار الباقية ، أنتظرُ اقترابَ الرّحيلِ إليها بشوق ؛ لألتقي بك وبأخي وأختي، لم يَعدْ يُخيفني لون الكفن الأبيض بعد ما أصبحتْ  قلوبُ البشر بلون الفَحم، ولم أعُدْ أخافُ الموتَ بعد أن رأيتُ كيفَ يمكنُ للإنسان أن يموتَ مئات المرات قبلَ موتته الأخيرة ،عندما يموت فيه الأملُ،  والتفاؤلُ والإحساس؛ والإشراق , فيحملُ نَعشَه على كتفيْه، ويشيّع نفسه بنفسه إلى مأواه الأخير،  ويدفنُ جُثتَه وهو على قيْد الحياة، سأزور قبرَكَ الذي هربْت من رؤيته  ؛ لأنه بجانب المدرسة التي كنتُ أعملُ فيها قريبا إن شاء الله،  لم أكنْ أقوى على النظر إليه، وهذا لا يُرضي الله – سبحانه وتعالى -فالمؤمن الحقّ القويّ يواجهُ أقدارِ الله بالحمد والصبر والرضا، وأنا مؤمنةٌ بقضاء الله وقدره، وأنكّ ما زلتَ حياً تسكنُ قلبي ودُنيَتي، وما شهادةُ وفاتِك إلا ورقةٌ حبيسةُ الأدراج، لا تُلغي وجودَكَ بينا إلى آخر الزمان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى