أبله منيرة.. يوميات من كورنيش الإسكندرية (2)

محمود عبد المقصود | نائب رئيس تحرير الأهرام

فى حجرة صغيرة وعلى كنبه عربى مغطاة ببطانية صوف ولحاف قطن تكسوه ملاءة قماش بفتة ناصع بياضها كان مرقدى فى طفولتي. و كنت أتخلص من مساندها عندما يحل المساء لتتسع الكنبة لتقلباتى التى تصفها أمى دوما بأنها مكوكية حلزونية دائرية شيطانية!

وفى أيام الشتاء القارس كانت أمى تحرص على تدفئة حجرتنا فكانت تأتى بـ وابور الجاز لتعد لنا الطعام وهى بجوارنا. ولا أدرى سر سعادتى بهذا المشهد الرهيب واحتفاظى به فى ذاكرتى واستدعائى له بين الحين والآخر ليدخل على نفسى السرور والسعادة والأمان؛ حتى إننى حرصت بعد زواجى على شراء وابور جاز لأحاكى زمنى الجميل ولم يحول دون استمرارى فى تحقيق حلمى هذا إلا حساسية صدر ابنى فتوقفت مضطرا عن ممارسة طقوسى الروحانية؛ ليبقى مشهده محفورا فى مخيلتى.

صوت وابور الجاز الساحر تعلوه حلة نحاس قديمة مملوءة بزيت طعام تسبح فيه كور بطاطس صغيرة و خبز متسخن على صاجة حديد ملفوف فى قطعة قماش ليحتفظ بدفئه، وطبق لفت مزركش بقطع الفلفل الأحمر وبجواره قطع الجبن القريش المنقوش على سطحه خطوط متوازية لحصير من صانعها، وحول طبلية خشب نفترش الأرض فى انتظار لعودة أبى الذى خرج فى مأمورية انتحارية متحديا تقلبات الطقس وصقيع الشوارع ليدخل علينا تعلو وجهه ابتسامة رضا وحب وسعادة وهو حامل إلينا وتحت ذراعه قرطاس فلافل منتفخ ملفوف فى عدد من أوراق الكراريس القديمة ليحتفظ بسخونتها.

وليبهرنا بدخانها المنبعث منها مجرد الكشف عنها حيث تنبعث رائحتها فيتحفز لها أفراد أسرتنا ويهرولون إليها مهللين فرحين لنلتف جميعا حول إفطار دافئ وسط طقس شتوى رمادى اللون يلقى بظلاله من خلف نوافذنا الزجاجية المغلقة والمحشوة أطرافها بملابس قديمة لمنع سرسوب هواء يأتى إلينا من من هنا أو من هناك.
ومن وراء هذا الكون الفسيح كانت تأتينا بين الحين والآخر أضواء البرق مصحوبة بأصوات رعدية مرعبة يشيب لها الولدان شيبا؛ فنقترب دون أن ندرى بعضنا فى بعض فى حركة لا إرادية حتى الذوبان.

وكثيرا ما كنت أتمنى أن يتوقف الزمان عند هذه اللحظات الدافئة الحالمة إلا أن انتهاءها كان قدرا حتميا لصيرورة حياتنا وكان انتهاء الشيخ محمد رفعت من قراءته التى يصدح بها من خلال الراديو الضخم المعلق على الرف الخشبى على الحائط نذيرا لنا بالفراق؛ إبى إلى عمله ونحن إلى مدارسنا
وكثيرا ما كانت تروادنى فى تلك اللحظات أفكار طائشة بأن أحتال على أمى بأسباب مرضية لتمنعنى من ذهابى للمدرسة؛ ولكن كعادتى منذ نعومة أظافرى لم أكن أمتلك يوما مهارة المكر والكذب فكانت أفكارى دوما مفضوحة لا تخيل على أبسط الناس فما بالكم بفطنة أم مثل أمى! ولذلك كنت دائما أتراجع عن فكرتى الشريرة خشية افتضاح اأمرى وانكشاف سترى واهتزاز صورتى التى أحافظ عليها أمام أفراد أسرتى.
وفى الحقيقة أنا لم أكن يوما كارها لمدرستى ولكننى كنت أتحسب منها ابله اسمها منيرة كانت امراة مطلقة ضخمة البنيان تتشح ملابسها دوما بالسواد ترتدى نظارة غليظة غامق لونها تخفى وراءها نظرات عينيها وتمسك بعصا طويلة تكسوها بخرطوم من الجلد.
ليتحقق بداخلها لذه مرضية دفينة وهى ترصد الرعب من رؤيتها فى عيون تلاميذها.. فكنت أراها امراه متوحشة فظة فى معاملتها معنا ورغم حرصنا أنا وزملائى على الامتثال لها إلا أنها كانت لا ترضى عنا إلا قليلا .. واختزلت سعادتها كلها فى تصيد أى خطأ لتلميذ
.. ومشكلتى معها على الجانب الشخصي أننى لم أكن أستطيع أن أتقبل ما تفعله مع غيرى من توبيخ وإهانة وضرب فكرامتى أمام نفسى وأمام زملائى كانت أهم عندى من أى علم أو نجاح وكانت هذه هى مشكلتى الوحيدة فى الذهاب للمدرسة (أبله منيرة) خاصة وأنها لم تجبر خاطرنا يوما بغيابها أو تاخرها عن المدرسة حيث كانت من أحرص المدرسين على الحضور والانصراف بالدقيقة والثانية وكأنها قادمة من كوكب اليابان
وهكذا كان ذهابى للمدرسة يشكل عبئا على نفسى لم أستطع البوح به لأحد فحرصى على الالتزام المطلق على عدم الوقوع فى الخطأ أمر شاق على من فى مثل عمرى، وفى المقابل كان غيابى بسبب أو بدون سبب أمر مرفوض من جانب أسرتى فمازال صدى صوت أبى يرن فى أعماقى بمجرد ان يلمحنى غير مهتم بالذهاب وكان يكفينى أن أسمع صوته؛ حتى يبعث فى داخلى الهمة والنشاط وحب قهري للمدرسة فأقوم مسرعا فى لمح البصر مهرولا أرتدى مريلتى بلونها الكاكى الفاتح وأحمل على ظهرى حقيبتي المصنوعة من القماش المنتفخة بـ(كرة شراب) تطل من أعلاها كراسة رسم تالفة الأطراف متهالكة الأركان ويخترق أسفلها سن مدبب لـ(برجل/ فرجار) مادة الهندسة، وفى مشهد جنائزي كنت ألملم نفسى متجها نحو الباب منزوعا من دفئ وحنين أسرتى لصقيع أبله منيرة وحنيّتها!!

وبينما أنا أقبل على الباب يستدعينى أبى بصوت عطوف قائلا: نسيت يا حبيبى تاخذ مصروفك فأتجه نحوه وأقبل يده، بينما لسان حالى يقول له ساخرا حبيبك؟ منك لله يا شيخ! متاخدش أنت المصروف وتروح بدلا عنى لأبله منيرة !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى