من نوادر الشعراء (2)

خالد رمضان | تربوي مصري | صلالة – عمان
ما زلنا نسبح في بحور الشعر والشعراء ، جاهدين راغبين أن ننهل من معينهم، وأن نستخرج من مكنوناتهم، وأن نقتنيَ من ثرائهم اللغوي، ونستمتعَ بإبداعاتهم التي لا تبلَى مع كرّ الجديدين، فاجتذبوا القريب والبعيد، وساعدهم على ذلك سليقتُهم الثاقبة، وأفكارهم الصائبة، وعقولُهم الراجحة، فامتلكوا القلوب المرهَفةَ، وأسروا النفوسَ الشغوفةَ، ومعنا اليوم واحدٌ من هؤلاء الشعراء الأفذاذ، هذا الشاعر هو مسكين الدارمي، ذلك الشاعر العراقي ربيعة بن عامر الدارمي التميمي، لُقّبَ مسكينا لأبيات قالها : أنا مسكينٌ لمن أنكرني، والدارمي نسبة إلى دارم أحد أجداده، وله أبيات شهيرة منها:
أخاك أخاك إن من لا أخا له كذاهبٍ إلى الهيجا بغير سلاح
ومما يُروى عن هذا الشاعرِ المجيد وكان شاعرَ غزلٍ بارعا ملأ شعرُه السهلَ والوادي، ولكن مع مرور الزمن، وتقلّب الدهرتغيرت حاله، فدوامُ الحال من المحال، تقدّمت به السنّ، وتغيّرت طباعه، فأقبل على الله سبحانه وتعالى متعبّدا زاهدا، فترك الشعرَ كفعٔلِ سابقيه من الشعراء أمثال لبيد بن ربيعة وهو من أصحاب المعلقات، حيث دخل الإسلام، واعتزل الشعر، وعلل ذلك بقوله : أغنتني بلاغة القرآن عن إنشاد الشعر، وعلى نهجهم سار شاعرنا مسكين الدارمي، فاعتزل الشعر، وتنقل بين مكةَ والمدينةٍ، ثم استقرّ بجوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الوقت وفِد أحدُ التجار إلى المدينة المنورة وكان تاجرا يبيع خُمرَ النساء، ولكن للأسف الرجل كان غريبا فركدت صناعته، وبارت سلعته، وكسدت تجارته، وذلك لجهل الناس به، وعدم ثقتهم في فيه، فدله بعض المقربين على الشاعر مسكين الدارمي ليقولَ في تلك الخمرِ قصيدةً تروّج لها حتى يسهل بيعها، فتعذّرَ مسكينُ له، معللا ذلك بأنه ترك الشعرَ منذ زمن بعيد ولن يستطيع العودة له، ألحّ الرجل على شاعرنا حتى رقّ قلبُه له، ورثى لحاله، فوافق وأنشد هذه الأبيات قائلا:
قل للمليحةِ في الخمار الأسودِ
ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبّدِ
قد كان شمّر للصلاة ثيابَه
حتى وقفتِ له بباب المسجدِ
ردّي عليه صلاته وثيابه
لا تقتليه وحقّ دين محمدِ
فحينما انتشرت هذه الأبيات في المدينة، وأقبلت الفتيات على شراء الخمر وارتدائها، موقنةً أنها ستبدو كالبدر وسط الظلام، حيث يبدو وجهها الأبيض وسط الخمار الأسود كالبدر في ليلٍ بهيم، فالشاعر هنا جمع بين الضدين، بياض الوجه، وسواد الخمر، فالضدّ يظهر حسنه الضدّ، فاستطاع الشاعر بعبقريته الفذة أن يجعل الفتيات يقبلن على شراء كل الخمر وحصل التاجر بذلك مالا كثيرا.
هذا غيضٌ من فيض، ولنا لقاء ٱخر مع شاعر عبقري، وموقف سجله التاريخ بإذن الله تعالى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى