ما المقصود بيقظة الضمير وحيويته؟

د. محمد السعيد أبو حلاوة |أستاذ الصحة النفسية المشارك، كلية التربية، جامعة دمنهور.

ما المقصود بيقظة الضمير وحيويته؟ هل يتضمن مجرد الانضباط والالتزام الأخلاقي؟ أم الاجتهاد والمثابرة كذلك؟

إذا طبق عليك مؤخرًا اختبارًا لقياس الشخصية وحصلت على درجة مرتفعة على ما يعرف بعامل “حيوية الضمير أو يقظة الضمير conscientiousness“، ربما يعتريك فضول يتعلق بماذا يعني هذا الأمر؟. 

ببساطة شديدة يقظة الضمير أو حيوية الضمير في سياق كد وكدح ودأب ومثابرة الإنسان في رحلة تحقيق أهدافه وتحقيق ذاته في الحياة وفي إطار ما يعرف اصطلاحًا في أدبيات علم النفس بنظرية السمات “العوامل” الخمس الكبرى للشخصية Big Five personality traits سمة مركزية أو عاملاً جوهرية ضمن تصور بنية الشخصية وتشمل هذه السمات أو العوامل: الانفتاح على الخبرة Openness to Experience، يقظة الضمير وحيويته وحضوره وفاعليته conscientiousness، الانبساطية extraversion، الطيبة والمقبولية والوفاق agreeableness، والعٌصابية neuroticism، وعادة ما يعرف عنها إجمالاً بصيغة  OCEAN Model عند الإشارة إلى اختبار العوامل الخمس الكبرى للشخصية Five personality test

ويجدر الإشارة إلى أنّ حصولك على درجة مرتفعة على بعد يقظة الضمير وحيويته Conscientiousness وفاعليته وحضوره في ضبط إيقاع حركتك في الحياة وجدك واجتهادك ومثابرتك فيها وسعيك في رحلة تحقيق أهدافك وإثبات ذاتك بتأدب والتزام وانضباط قيمي وأخلاقي ذاتي لا يعني أن بقية سمات الشخصية لا توجد ضمن بنية تركيبة شخصيتك، فهي ليست سمات منفصلة مغلقة على ذاتها إنما تتواجد جميعها ضمن ما يصح تسميته منظومة التكوين الكلي للشخصية، ورغم ذلك فإن كل سمة أو عامل أو بعد يتم التعامل معه على هيئة متصل continuum يستوعب الفروق الفردية ضمن توزيع ربما يتضمن تدريج ثلاث المستوي: مرتفع ـ متوسط ـ منخفض، بما يصح معه القول أنه وفي حالة حصولك على درجات مرتفعة على عامل حيوية الضمير ويقظته فإن السمة الغالية عليك أو ربما المهيمنة وتمثل الطابع المميز لك تتمثل في مؤشراته وملامحه، مع وجود مستويات معينة من بقية عوامل أو سمات الشخصية الأخرى. 

وتبعًا لهذا التصور تأتي أهمية نموذج “العوامل الخمس الكبرى في الشخصية” بما نتج عنه من أداة قياس في فهم سمات الشخصية وفي تعرف كيف يستجيب الناس لمختلف مواقف وسيناريوهات الحياة ووقائعها وأحداثها وبما تتضمن من ضواغط وشدائد ومحن وعثرات وظروف عصيبة.  

ويعد عامل حيوية الضمير أو يقظة الضمير Conscientiousness سمة مركزية من سمات الشخصية الكبرى، يتميز من تتواجد لديه بدرجة مرتفعة من التنظيم وترتيب الأولويات، والفعل الموجه نحو الهدف، والانضباط الذاتي، والدافعية للإنجاز، فضلاً عن إدراكه لتأثير أفعاله على من حوله في ضوء حسه الأخلاقي بهم وتجاوبه الإنساني معهم والشعور بالواجب تجاههم، مع التمتع بمستوى مرتفع من الطموح، يتضمن مصطلح حيوية الضمير كذلك معنى الاجتهاد القائم على اليقظة والانفتاح العقلي والمثابرة والتحمل. 

وتعد خاصية السلوك الموجه نحو الهدف Goal-Oriented Behavior من العناصر المركزية في بنية مفهوم حيوية الضمير، إذ أن سلوك ذوي المستوى المرتفع من يقظة الضمير ينبع من أهدافهم الشخصية، وهم في حالة من المبادرة الذاتية والتلقائية العامة في متابعة تحقيق أهدافهم والمثابرة مهما كانت التحديات والمصاعب، الأمر الذي يجعلهم يحشدون كل طاقاتهم ومصادرهم الداخلية لتحقيق هذه الأهداف، وعادة ما يترجم هذا المعنى باستخدام تعبير “ارتفاع مستوى الطموح خاصة في السياق الأكاديمي وسياق العمل، الأمر الذي يقترن باجتهاد تام ومثابرة مطلقة من أجل تحقيق النجاح الفائق في كلا السياقين. 

ومن أجل تحقيق أهدافهم يجتهد ويندمج ذوو المستوى المرتفع من حيوية الضمير في العمل الجاد مع تكريس كل انتباههم وطاقتهم لتحقيق مستوى الطموح الذي يرغبون فيها، وبالتالي يرتفع لديهم ما يعرف بوسيط تحمل الإحباط وعدم فقدان الهمة والدافعية مهما كانت العثرات والتحديات، الأمر الذي يسوغ ترجمة مصطلح Conscientiousness إلى الاجتهاد والمثابرة والدأب والتصميم والكد والكدح الإيجابي القائم على التحمل والمرتكز على الانضباط الذاتي والالتزام الأخلاقي والحس الإنساني. 

وتأسيسًا على ذلك ومع التوقف عند الدلالات الاصطلاحية لسمة أو عامل يقظة الضمير وحيويته يمكن نظم الخاصية الجوهرية لذوي المستوى المرتفع فيه في قدرتهم على ممارسة أعلى قدر من الانضباط الذاتي self-discipline والالتزام الأخلاقي Moral Commitment  وضبط الذات Self-Control وحسن إدارتها أخلاقيًا في سياق مثابرتهم واجتهادهم Diligence وجلدهم وكدهم لتحقيق أهدافهم وإثبات ذاتهم. 

وبينما يبحر بعض الناس في الحياة سعيًا وراء ما يمكن تسميته انتهاز اللحظة الحاضرة والاستمتاع بكل ما يتضمنه الحاضر من مباهج ومتع، يميل ذوو المستوى المرتفع من يقظة الضمير وحيويته وحضوره وفاعليته في تكوينه إلى إلى العمل بجد تام ومثابرة لا يتسرب إليها الملل أو اليأس لتحقيق أهدافهم، في ضوء استشعار المسئولية الشخصية عن الذات تفكيرًا وانفعالاً وسلوكًا، فضلاً عن الإبحار في الحياة بذهنية السلوك الموجه بالهدف والتعويل على الذات والاعتماد عليه واليقين بأن تحقيق الأهداف الذاتية في الحياة دالة للاجتهاد والعمل الجاد المرتكز على الحس الأخلاقي والانضباط القيمي.

من جانب آخر خلصت نتائج عديد من الدراسات العلمية إلى أن ارتقاع مستوى يقظة الضمير وحيويته وحضوره وفاعليته بالمعنى المشار إليه يرتب تداعيات إيجابية متنوعة منها ارتفاع معامل الإنجاز الدراسي وارتفاع مستوى الحس الأخلاقي في بيئة العمل بما يترتب عليه من سمعة طيبة تدور حول وصف ذوو المستوى المرتفع من حيوية الضمير ويقظته بصفات إيجابية مثل: الالتزام، الثقة، وارتفاع معامل الإثمار الوظيفي، بل وارتفاع معدل الدخل المالي الشخصي (Denissen, Bleidorn & Hennecke, 2018)

ورغم الطابع الإيجابي المرتبط بارتفاع معامل يقظة الضمير وحيويته وحضوره وفاعليته بالمعنى السابق، إلا أنه اتصاف ذوو المستوى المرتفع منه بالجدية التامة والتوجه ربما المطلق نحو الإتقان والالتزام الحرفي ربما يرتب بعض المتاعب والمشاق في الحياة التي تلزم قليلاً من اللطف والرقة والتحلي بروح المرح والدعابة والحس الفكاهي والتوجه نحو الاستمتاع بالحياة تخفيفًا من وطأة هذه الجدية.

من جانب آخر ربما وفي بعض الحالات يعاني ذوو المستوى المرتفع من يقظة الضمير وحيويته وحضوره وفاعليته وإلزاميته واقترانه بالاجتهاد التام والمثابرة المطلقة من بعض مظاهر الاحتراق النفسي نتيجة ما يمكن تسميته وطأة عبء العمل وزيادته، فضلاً عن احتمالية اقتران ذلك بالنسقية الشديدة التي تقترب من الجمود وعدم المرونة، بل وفي بعض الحالات الشديدة ربما الوقوع في دوامة “الكمالية perfectionism “، أو حتى اضطراب الوسواس ـ القهري “الوساوس ـ الأفعال القهرية obsessive-compulsive disorder، وإذا ما أضيف إلى ذلك الارتفاع الشديد في معامل الحساسية الأخلاقية Moral sensitivity خاصة إذا اقترن بارتفاع معامل الذكاء لأمكن تصور حالة الاستياء والكرب والمشقة الانفعالية التي قد يعاني منها نتيجة توقفه من المنظور الأخلاقي عند مختلف صور ومظاهر ما يمكن تسميته الاعتلالات الأخلاقية في عالم اليوم. 

والمفارقة الغريبة التي عادة ما توجب التوقف عندها أنه بينما يتصف ذوو المستوى المنخفض من يقظة الضمير وحيويته بإجادة ترتيب أولويات الاستمتاع باللحظة الحاضرة وعطاء الحاضر الفوري المباشر هنا والآن بما يجعلهم في حالة من الارتياح بل والراحة في التعامل مع الآخرين مع رفضهم لروتين الجداول الزمنية والتخطيط المكثف وصعوبة التنبؤ بسلوكياتهم، إلا أنهم قد يتصفون بخاصية التخطيط فيما يعرف بخارج الصندوق وقد يتصفون أيضًا بالقدرة على التجاوب الفعال لمطالب اللحظات الأخيرة.  

وتأسيسًا على ما سبق تأتي وجاهة طرح السؤال التالي كيف يؤثر عامل يقظة الضمير وحيويته على السلوك؟ سبقت الإشارة إلى أن ذوي المستوى المرتفع من يقظة الضمير يتصفون بأنهم أشخاص يعتمد عليهم ومحل ثقة ويجيدون التخطيط ومرتبون بصورة تامة، وقادرون على ضبط اندفاعاتهم والسيطرة عليها. 

ومع ذلك أمكن حد ست مكونات فرعية يمكن أن يطلق عليها “سمات فرعية sub-traits” توصف بها شخصية ذوو المستوى المرتفع من عامل يقظة الضمير وحيويته، تتضمن التوجه نحو الإنجاز، الحذر، الالتزام بالواجب، النسقية والنظام، الانضباط الذات، وفاعلية الذات، وفيما يلي وصف موجز لهذه السمات الفرعية: 

  1. التوجه نحو الإنجاز Achievement-Oriented

يسعى ذوو المستوى المرتفع من عامل يقظة الضمير إلى تحقيق مستويات مرتفعة من الإنجاز لذلك يطلق عليهم تعبير “مرتفعو الإنجاز أو المنجزون achievers“، وتراهم دائمًا في حالة من الاجتهاد والمثابرة والسعي للتميز والتفوق في كل شيء يقومون بأدائه، فضلاً عن تميزهم بارتفاع مستويات الطموح الشخصي والرغبة في تحقيق أهداف نبيلة في الحياة lofty goals.  

ورغم أن ذوي المستويات المنخفضة من عامل يقظة الضمير وحيويته قد يتصفون بالكسل أو التكاسل إلا أنهم أكثر رضا عن أقل قدر من العمل وأقل قدر من الإنجاز الذي يحققونه، فضلاً عن ميلهم إلى التقليل من مسئولياتهم إلى أدني قدر ممكن. 

  1. الحذر Cautious

في دلالته على الدقة والتدقيق والتدبر وعدم التسرع، بل التفكير والتوقف عند كل الوقائع والأحداث والمعلومات قبل صنع واتخاذ القرارات، مع الميل إلى التفكير في معظم الأشياء والنظر في العواقب أو التداعيات قبل التصرف أو الفعل.  

  1. التحلي بالطاعة الإيجابية والالتزام بالواجب Dutiful

يتميز ذوو المستوى المرتفع من عامل يقظة الضمير وحيويته وحضوره وفاعليته بالحس والالتزام الأخلاقي وتحمل المسئولية والوفاء بالعهود بصورة ذاتية وتلقائية وبإرادة حرة منفردة، فضلاً عن كونهم محل ثقة ويعتمد عليهم.

على الجانب الآخر يتصور ذوو المستوى المنخفض من عامل يقظة الضمير أن القواعد والتعليمات والضوابط قيودًا بل وحصارًا وتكبيلاً، فضلاً عن شعورهم بأنهم غير مسئولين إلا عن أنفسهم فقط، وعادة ما يدخلون في صراعات مختلقة ولا لزوم لها مع الآخرين.  

  1. النسقية والانتظام Orderly

يتميز ذوو المستوى المرتفع من عامل يقظة الضمير وحيويته وحضوره وفاعليته في حياتهم بالميل الشديد إلى التخطيط والتنظيم وترتيب الأولويات وفقًا لنسق محدد وروتين واضح ومسار محدد، وتكمن هذه الصفات وراء جديتهم والتزامهم واجتهادهم ومثابرتهم وتصميمهم لدرجة أنهم يوصفون بأنها مبادرون ذاتيًا  self-starters بنسقية ودقة. 

  1. الانضباط الذاتي Self-Disciplined:  

يميل ذوو المستوى المرتفع من يقظة الضمير وحيويته إلى “الالتزام والانضباط الذاتي الإرادي النابع من تكوينهم النفسي الداخلي في إطار ما يعرف بالمراقبة الذاتية لأنفسهم”، ويقترن بهذه السمة الفرعية عديد من الصفات منها تميزهم بالمثابرة  persevere رغم المشاق والمتاعب والتحديات، فضلاً عن القدرة على التركيز ومقاومة أي مشتتات لجهدهم دون سماح لأي عوامل بأن تحرفهم عن أهدافهم التي يتبغون تحقيقها. 

على الجانب غالبًا يخفق ذوو المستوى المنخفضة من حيوية الضمير في إكمال المهام التي يتصورن أنها تنطوي على صعوبات أو تحديات أو تتطلب جهدًا مضنيًا أو كثيرًا هم غير مستعدون للقيام به.  

  1.  فاعلية الذات Prone to Self-Efficacy

يتميز ذوو المستوى المرتفع من يقظة الضمير وحيويته وحضوره وفاعليته وارتباطه بالاجتهاد والدأب والكدح والمثابرة والتصميم بالثقة في قدرتهم على تحقيق أهدافهم وإثبات ذاتهم والنجاح في الحياة بشكل عام. ويميلون أيضًا إلى الاعتقاد في أنفسهم وفي قدراتهم ولديهم مستوى مرتفع من الطموح والتفكير الاستباقي وتصور الأشياء ورسم صورة المستقبل. 

على الجانب الآخر يتصف ذوو المستوى المنخفض من يقظة الضمير إلى الشعور بعدم الفاعلية الشخصية ونقص في الثقة في الذات، ويعتقدون أنهم غير قادرون على ضبط وتنظيم مسار ومحتوى حياتهم.

   المراجع: 

  • أولاً- المراجع العربية: 
  1. السيد محمد أبو هاشم (2010). المكونات الأساسية للشخصية في نموذج كل من كاتل وأيزنك وجولدبيرج  لدى طلاب الجامعة ( دراسة عاملية). مجلة كلية التربية، جامعة بنها، 17(70): 210- 274.  
  2. محمد السيد عبد الرحمن (2005). سمات الشخصية والاتجاه نحو السلطة والرفاق وعلاقتها بالسلوك العدواني لدى طلاب الجامعة. بحث مقدم إلى الأمانة العامة لاتحاد الجامعات العربية في مسابقة العنف في الحياة الجامعية، أسبابه ومظاهره والحلول المقترحة لعلاجه، عمان، الأردن.
  3. دعاء عوض سيد أحمد (2014). العوامل الشخصية المنبئة بالتوافق المهني لدى معلمي المرحلة الابتدائية. مجلة الدراسات التربوية والإنسانية، كلية التربية، جامعة دمنهور، المجلد (6)، العدد (4)، الجزء (4) ـ (أ)، ص ص: 237-295.

ثانيًا- المراجع الأجنبية

    1. Denissen, J., Bleidorn, W., Hennecke, M., Luhmann, M.. Orth, U., Specht, J. & Zimmermann, J. (2018) Uncovering the power of personality to shape income. Psychological Science, 29(1):3-13. 
    2. John, O., Naumann, L., & Soto, C. (2008). Paradigm shift to the integrative Big Five trait taxonomy: History, measurement, and conceptual issues. In O. P. John, R. W. Robins, & L. A. Pervin (Eds.), Handbook of personality: Theory and research (3rd ed., pp. 114–158). New York, NY: Guilford Press.
    3. Martin, L., Friedman, S,. & Schwartz, J. (2007). Personality and mortality risk across the life span: the importance of conscientiousness as a biopsychosocial attribute. Health Psychology, 26(4):428-36. 
    4. McCrae, R., & Costa, P.. (2008). The Five-Factor theory of personality. In O. P. John, R.. Robins, & L. Pervin (Eds.), Handbook of personality: Theory and research (3rd ed., pp. 159–181). New York, NY: Guilford Press.
    5. Roberts, B., Jackson, J. Fayard, J., Edmonds, G. & Meints, J. (2009). Conscientiousness. In M. R. Leary & R. H. Hoyle (Eds.), Handbook of individual differences in social behavior (pp. 369-381). New York, NY, US: Guilford Press.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى