تاريخ

خمسون عامًا على ثورة القرنفل في البرتغال.. “لكنها تدور يا ملوك الطوائف”

بقلم: د. خالد سالم
تحتفل البرتغال بمرور نصف قرن على ثورتها النموذجية، إذ امتلأت شوارع لشبونة بعربات الجيش وعشرات الآلاف من المواطنين يحملون في أيديهم زهرة القرنفل، رمز ثورتهم التي قادها الجيش ليخرج بالبلاد من غياهب الاستبداد والتخلف. ففي لحظة تاريخية قامتوحداتمنالجيشالبرتغاليبثورةالخامس والعشرين من أبريل 1974 وقبل أن ينتهي خريف العام التالي رحل آخر المستبدين في أوروبا الغربية، الجنرال فرانكو، ليترك أفقًا غامضًا ماانفك الحرس القديم، طواعيةً، يجلس إلى مائدة المفاوضات مع المعارضة المهزومة في الحرب الأهلية الإسبانية (1936/1939) بحثًا عن أفضل الطرق لركوب عجلة الحضارة، وهو ماكان للبلدين الأيبيريين.
مر نصف قرن على ثورة القرنفل، الثورة النموذجية التي غيرت البرتغال ووضعتها في سياقها الأوروبي بعد عقود من التردي والتخلف في بلد ليس بالفقير، بلد كان قوة استعمارية تمتد مستعمراتها إلى أميركا الجنوبية وإفريقيا وآسيا.
قام بثورة البرتغال فريق من شباب ضباط سلاح البحرية، ذوو ميول يسارية، معظمهم برتبة نقيب تحت قيادة رائد، ما يذكرنا بحركة الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر، مع الفارق في أن قادة الثورة البرتغالية آثروا اللحاق بالديمقراطية بينما ارتأى ناصر ورفاقه طريقًا أخرى للنهوض بمصر.
جاءت ثورة شباب ضباط سلاح البحرية البرتغالي ردًا على تكلس النظام الاستبدادي الذي كان وراء إنزال هزائم حربية بالجيش المترهل في المستعمرات الإفريقية وتخلف البلد عن سياقه الأوروبي بعشرات السنين. كانت تلك الثورة نهاية لنظام جثم على صدر البرتغاليين أربعة عقود، النظام المستبد الذي أسسه أنطونيو أوليفيرو سالازار سنة 1926، وأدت إلى استقلال آخر مستعمرتين برتغاليتين في إفريقيا، أنغولا وموزمبيق، وإنهاء الاحتلال البرتغالي لهذه المنطقة الذي استمر 470 عامًا. وتعد ثورة القرنفل، بعد ثورة الضباط الأحرار في مصر، أقل ثورات العالم في القرن العشرين إسالة للدماء إذ لم يمت فيها سوى أربعة أشخاص.
كان النظام الاستبدادي، بعد عزل سالازار ثم وفاته قبل الثورة بخمس سنوات، قد واصل حكم البلاد بيد من نار وأخرى من حديد ممثلاً في رأسه مارشيلوكايتان وقد بالغ في غيه وتشبثه بالحكم، بحماية الشرطة السياسية، أمن الدولة، التي أجهضت أي محاولة للإصلاح وأذاقت البرتغاليين الأمرين. كان النظام يزداد عزلة وهِرمًا وتكلسًا، لدرجة يمكن معها وصفه بالأحفوري، فأصبح نشاذًا في سياقه الأوروبي، في قارة كانت في حالة فوران على المستوى الإجتماعي والفكري، انطلاقًا من ثورة الشباب، ثورة مايو 1968،في فرنسا، وراتدادتها في سياقها الأوروبي.
وبينما كانت حركة إزالة الإستعمار من إفريقيا في الستينات قد أتت بأكلها كان النظام البرتغالي يتمسك بمستعمرتيه في القارة السوداء، أنغولا وموزمبيق، دون أن يدرك أن الأمر أصبح خارج السياق والتاريخ، ما حمّل البرتغال فوق طاقتها، ممثلاً في تخلفها عن سياقها الجيوسياسي. كانت القوى الإستعمارية الأخرى تبحث عن مخرج من مستعمراتها الإفريقية بينما تشبثت لشبونة بما كان لها في القارة السمراء. وبالإضافة إلى استنزاف الاقتصاد البرتغالي أدت حروب الاستقلال إلى صراعات بين المجتمع المدني والقادة العسكريين.
وكان النظام يزداد في غيه وتضليله لعامة الشعب، وكان نموذجه الإقتصادي قائمًا على الاكتفاء الذاتي وتصدير المواد الخام، مع نمو صناعي ضعيف، ما جعل البرتغال تقبع في مؤخرة أوروبا الغربية، وتصبح الأكثر فقرًا، الوضع الذي أسفر عن موجات هجرة إلى الأميريكتين وأوروبا.
وكعادة الشعوب المقهورة خرجت جموع البرتغاليين تساند الثورة البيضاء فور اندلاعها بعد دقائق قليلة من منتصف ليلة 25 أبريل 1974، رغم مطالبة الضباط للشعب بملازمة بيوتهم، وقدموا للجنود ما تحت أيديهم من مؤن. إلا أن جنديًا طلب من إحدى شابة سجائر، فكان ردها “إنني لا أدخن، وأهدته ما توافرت عليه وهي عائدة من عملها في مطعم، وكان قرنفلة وضعها الجندي في فوهة بندقيته، ثم واصلت توزيع هذه الزهرة، زهرة العشق، عشق الوطن والاخلاص له، فقلدوا زميلهم بوضعها في فوهات بنادقهم، وسرعان ما قلدها الشعب والجنود، وتحولت هذه الزهرة إلى أيقونة لثورة قادها العسكر، فكانت من أرقى ثورات العالم في القرن العشرين، ثم آثروا العودة إلى ثكناتهم بعد أن وضعوا بلدهم على درب الديمقراطية وقطع طريق العودة على رجال النظام الفاشي الذي أعاث الفساد في البلاد عقودًا طويلة.
الملفت للنظر أن هذه الثورة أو الإنقلاب خطط له ونفذه العسكريون ولم ينسبوه إلى أنفسهم بل سعدوا بالمسمى الشعبي الذي أطلق عليها، أي ثورة القرنفل، لتظل الزهرة رمزًا فريدًا. وهو أمر لا يزال البرتغاليون يحمدوه لجيشهم الذي خلصهم من الطاغية ثم عاد إلى ثكناته.
وبذلك أصبح القرنفل، هذه الزهرة الأبريلية، ثاني أيقونتي هذه الثورة. أما الأولى فتمثلت في كلمة سر إنطلاق الثورة، أغنية “غراندولا، فيلا مورينا”(Grândola, Villa Morena)، غراندولا، أيتها المدينة السمراء، التي بثتها في اللحظة المتفق عليها إذاعة تابعة للكنيسة الكاثوليكية، لتبدأ معها وحدات الجيش في السيطرة على مفاصل الدولة، وهو ما كان لها في ساعات قليلة. ومع هذا الحدث تحولت الأغنية إلى رمز للثورة والديمقراطية في البرتغال، ولا يزال يتغنى بها عشاق الحرية والديمقراطية في أوروبا في الذكرى السنوية وفي جلسات السمر والحنين.
كانت هذه الأغنية، التي تتحدث عن الأخوة والمساواة وتؤكد أن الشعب هو صاحب الكلمة العليا في مصيره، قد منعها النظام البائد منذ أن غناهها الفنان جوزيه أفونصو. وظلت أسيرة إلى أن غنتها متحديةً النظام المطربة البرتغالية العالميةأماليا رودريغيش- أم كلثوم البرتغال- في أكبر مسارح لشبونة قبل الثورة بشهر في حضور بعض ضباط “حركة القوات المسلحة” الذين كانوا قد اقتنعوا بضرورة تفجير ثورتهم، فاتخذوها كلمة سر بمباركة الكنيسة الكاثوليكية.
وقد اتخذت إشارة إنطلاق الوحدات العسكرية التي أحاطت بسرعة بالعاصمة، لشبونة، وبعد مقاومة ضعيفة احتلت المطار والاتصالات الهاتفية والإذاعة والتلفزيون والوزارات. تلاحقت الأحداث بسرعة مذهلة وفي المساء كان الطاغية مارشيلو كايتانو قد استسلم لسادة البلاد المؤقتين، وفي اليوم التالي خرج إالى المنفى.
مع سيطرة القوى العسكرية اليسارية على مقاليد السلطة احتفل الحزب الشيوعي بكل قواه بعيد العمال بعد سنوات طويلة من الملاحقة وقام العمال برفع الرايات الحمراء والتف الشعب حولهم. كان الشيوعيون هم القوة الأكثر تنظيمًا وفاعلية، وساندتهم الطبقة العمالية. إلا أن الكفة مالت، سنوات قليلة، لصالح الحزب الاشتراكي بعد أن عاد قادته من المنفى، فنظم الإشتراكيون صفوفهم بسرعة رغم أن الحزب الإشتراكي كان ضعيفًا وبلا حضور شعبي تقريبًا عندما قامت الثورة. وسرعان ما حقق الحزب الإشتراكي نتائج إيجابية في الانتخابات النيابية وتمكن من أخذ زمام الأمور.
في هذه الأثناء أخذ الجيش يتراجع تدريجيًا إلى ثكناته بعد أن سلم البلاد إلى المدنيينن الأمر الذي لم يكن سهلاً على بعض قادته، وهو نموذج آخر يضاف إلى سجل العسكريين الذين قاوموا بريق السلطة، النموذج الذي يذكرنا في الوطن العربي بدور وزير الدفاع السوداني الأسبق المشير عبد الرحمن سوار الذهب، في منتصف الثمانينات، الذي شغل منصب الرئيس لفترة إنتقالية، مدتها سنة، ثم سلم السلطة إلى المدنيين، دون أن يسير وراء سراب السلطة وبريقها. لكن دخول عالم الحريات والديمقراطية وسلامة البلاد كان أهم لغالبية قادة الجيش من السلطة.
لم يكن المشهد سهلًا فقد تخللته محاولات انقلابية من اليمين ورجال النظام القديم وبعض القادة العسكريين إلا أنهم لم يفلحوا، ودخلت البرتغال عالم الديمقراطية من خلال معبر الجيش ضاربًا بذلك مثالاً للآخرين دون أن يطمع في السلطة. عادت البرتغال إلى محيطها الأوروبي، فقُبلت عضويتها في المجموعة الإقتصادية الأوروبية، أي الإتحاد الأوروبي اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى