أدب

المجذوب

قصة قصيرة بقلم: طارق حنفي

يبدو أنيقًا في حلة سوداء ورابطة عنق رمادية فوق قميص أبيض وحذاء أسود كلاسيكي لامع، يحاول نقل قدميه -كعادته- بخطوات واسعة، لكنه يضطر أن يبطئ من حركته؛ فالزحام لا يتيح له أن يخطو الخطوة الثانية دون أن يتوقف لحظات بعد الأولى..

تحركه رغبة ملحة في الفرار؛ المكان من حوله يغرقه في مزيج عجيب من المشاعر، تبدو عليه الحيرة، يتحرك بعصبية دون هدي، تقوده قدماه إلى جزء حيث الزحام على أشده؛ فتوقف رغما عنه، ثم سيطر عليه إحساس بالعجز؛ تنفس بعمق في محاولة للسيطرة على مشاعره..

بدأ يمعن النظر في الأشياء من حوله، يستدعي منطقه، ينظر إلى التفاصيل الدقيقة ليجد ملمحًا، ثم ينظر إلى الصورة الكلية عله يجد المعنى. 

تمتم: “لقد قادتني قدماي إلى عمق المولد بدلا من الخروج منه، إنها الليلة الكبيرة لمولد أحد الأولياء الصالحين -الذي أشتهر بالكرامات- كما يردد الناس من حولي”..

نظر أمامه مستغلا طول قامته، ثم أردف: “آه، حلقة ذكر”..

عدد من الرجال يتراصون في دوائر خلف بعضها البعض، يتمركز في وسطهم شيخ يرتدي بعض الهلاهيل، يهزون الجزء العلوي من أجسادهم في حركة نصف دائرية، وهم يرددون كلمة (الله) في صورة جماعية..

قطع حبل أفكاره صوت يأتي من خلفه، التفت إلى مصدره فارتطم بصره بجماعة من المنشدين، فتمتم مرة أخرى: “هم إذا مصدر الأناشيد التي لم تصمت لحظة واحدة”، مزيج من الأغاني الشعبية والمديح والقصص الدينية، تلفت عن يمينه وشماله وأصوات الألعاب والطلقات النارية تكاد أن تصيبه بالجنون.

مرت الدقائق وهو لا يزال على حاله، ثابت في مكانه، يتأمل التفاصيل من حوله، وشعور العجز يملأ صدره..

زاد إصراره على المغادرة، تحرك في قوة، يحاول تفادي الصواني الموضوعة على الأرض قدر الإمكان، لكن هيهات، فمع العدد الكبير من الباعة الذين يفترشون الأرض بصواني الحلوى الشرقية والمشبك والبسيمة والملبن والجوزية؛ بدأ يصطدم ببعضهم، حتى كاد أن يتعثر ويقع فوقهم، لولا أيدي الباعة التي امتدت تمنع استمرار سقوطه، قبل أن تدفعه بقوة في الاتجاه المعاكس، وأصوات أصحابها تتهمه بالجنون تارة وبالغباء تارة أخرى؛ ارتسم على وجهه الضيق، يحاول أن يثبت في مكانه، لكنه لم يستطع، مال جسده واصطدم بأحد المارة ووقع على الأرض.

بذل جهدا مضاعفا في محاولة النهوض، صك أذنه صوت فُريرة وطفل ينفخها في وجهه بإصرار عجيب، وبجواره طفل آخر يهز يده الممسكة بشخليلة، استطاع أخيرا أن يقف معتدلا في مكانه، يحدق في الرجل الذي اصطدم به وأوقعه أرضا من البداية، والرجل يبتسم في بلاهة ممسكاً بالطفلين بكلتا يديه، ويضع على رأسه طرطور..

تعلقت عيناه بالطرطور والباعة الغاضبين ما زالوا يرددون كلمتي غبي ومجنون، صدى الكلمتين يتردد في عقله وصورة الطرطور يحتل المشهد في عينه، ودون أن يدري بدأت ذاكرته تعرض لقطات من أحداث يومه على شاشة مخيلته، انطفأت الأنوار في عينه، وكلمتا غبي ومجنون ما يزال صداهما يتردد قويا في أذنه، عندما توقف صداهما كان قد ضرب على أذنه صمتا مميتا، وبدأ العرض.

يراها الآن واقفة بفستان زفاف أبيض كملاك جميل، يتأبط ذراعها على ما يبدو شيطان رجيم، ومن ورائهما يقف إبليس  -نفسه- الذي رمقه بنظرة خرجت معها النار من عينه، كاد لهيبها أن يحرقه لولا نور عينيها، تطلع إليها، وجدها ترميه بنظرة حب يغلفها الحنين، والماء المحبوس خلف النور يكاد أن ينفجر عيون، كان على وشك الغرق لولا أن أخذ إبليس بيده يجره خارج قاعة الزفاف، لقد بدا صوت أبيها كصوت الجحيم وهو يصرخ فيه ويتهمه بالجنون، ويهدده إن لم يذهب سوف يستدع له الشرطة في الحال..

“حيييييييي”

أخرجه الصوت من شروده؛ فنزل الستار وأضيئت الأنوار، تطلع إلى حلقة الذكر أمامه، يتفحصهم من جديد، ودون أن يدري عاد ينظر إلى أدق التفاصيل، ها هو شيخهم الذي أطلق كلمة (حي)، والرجال من حوله لا يزالون يهزون أجسادهم في حركة نصف دائرية، وهم يرددون كلمة (الله) خلفه في صورة جماعية..

الشيخ ينظر إليه ويبتسم في غموض ثم أطلق الضحكة المميزة للمجاذيب، بادل نظرته بامتعاض قبل أن يرتسم على وجهه الضيق؛ لقد ميزهم هذه المرة، إنهم نفس الرجال الذين أدخلوه إلى المولد عنوة، أشاح بوجهه بعيدا قبل أن يعود إلى شروده وهو يتمتم بينه وبين نفسه: “لقد كانت جميلة في ثوب الزفاف”، ثم ظفر في ضيق قبل أن يضيف: “لماذا ذهبت إلى حفل زفافها الليلة؟ نعم لقد رأيت الدموع تملأ عينيها، وأبوها يجرني من يدي خارج القاعة.

 

هي الوحيدة التي شعرت معها بالحب، هي حبي الأول، وهي حبي الأخير، كان جمالها يشرق في عيني شمسا يبعث الدفء في جسدي، هي قمري الذي يضيء لي ظلمة الطريق”..

“قمر، قمر، قمر، سيدنا النبي، قمر.. وجميييييل، وجميييييل، وجميل، سيدنا النبي، وجميل”

أخرجه صوت المنشدين من شروده، التفت إليهم بحدة، وميزهم، لقد كانوا -هم أيضا- يسيرون مع نفس الرجال من حلقة الذكر، وكانوا ينشدون ويغنون على طول الطريق..

شعر بدوار يكتنف رأسه، تمتم بينه وبين نفسه: “أريد أن أغادر هذا المكان”.. 

انتابته الحيرة؛ انتبه إلى أنه لم يكن يتمتم بل كان يتحدث بصوت عال، يصرخ بكل قوته، لكن مع الأصوات العالية الكثيرة من حوله تاهت صرخته..

يتطلع إلى الأنوار التي تتلألأ في عينه، وقوة تضغط عقله وتجذب وعيه، زاد ازدحام التفاصيل والمشاهد حوله حتى فقد القدرة على التمييز..

كثرت الأصوات، وتداخلت، ضُرب على أذنيه بنوع من صمم الضوضاء..

“حييييييييييي”

تمتم بينه وبين نفسه: “لماذا أسمع هذه الكلمة وأميزها هي بالذات؟!”.

 

يخوض صراعا بينه وبين نفسه لا يدري له سببا ولا هدفا..

هجمت عليه ذكرياته مرة أخرى فأغمض عينيه، وانطفأت الأنوار وساد الصمت، وبدأ العرض، هو في عمله واليوم من بدايته، يدخل على مديره ليعرض عليه مقترح من شأنه أن يجذب مزيدا من العملاء، يتذكر كيف تطور بينهما النقاش واحتد، حتى وصل إلى أن اتهمه مديره بالغباء، قبل أن يعلو صوته ويطرده من مكتبه، بل ومن العمل كله..

تغير المشهد فجأة وحفل الزفاف يعود ليقتحم ذاكرته، واختلفت التفاصيل، فهي لم تكن تحبس دموعها ولم تنظر إليه نظرة حب ولا حنين، لقد كانت تنظر إليه بلا مبالاة، قبل أن تشيح بوجهها عنه وتلتفت إلى عريسها، وتضحك معه في سعادة واضحة؛ صرخ بأعلى صوته: “لااااااا، لا يمكن، لم يحدث، إن ذاكرتي تخدعني، أو، ربما أحلم!”.

تسارع شريط ذكرياته، إلى تلك الدقائق قبل أن يدخله هؤلاء القوم إلى المولد رغمًا عنه، تمامًا  بعد أن طُرد من حفل الزفاف، حين قرر الانتحار..

يقف على حافة النهر وكاهله مثقل بخيبة الأمل، وكيف لا؟! فهو بلا حب ولا عمل، يشعر بأن كل من حوله لا يريدونه، وينشدون رحيله، يشعر بأنه مشرد لا يجد مكانًا على ظهر الحياة..

قرر أن يلقي بنفسه في الماء، أخرج جسده خارج الحاجز بالفعل، وبينما يفلت يده ليقفز أمسكت بها يد أحدهم وجذبته خارجًا، تسلمته يد أخرى وسلمته بدورها إلى أخرى، وجد نفسه في النهاية محمولا على أكتاف بعض الرجال، يسيرون في موكب خرج من مكان ما للاحتفال بمولد أحد الأولياء، ينشدون الأناشيد ويذكرون الله على طول الطريق، بمجرد أن وصلوا ألقوه في عمق المولد، وتركوه.

ما زال على حاله، مغمض العينين، يعيش مع ذكرياته، تسلل إلى أذنيه صوت أحد المنشدين يقص قصة يونس والحوت على المستمعين، ورسخ في عقله منها بعض الكلمات (يقفز من السفينة في الماء) و (يلتقمه الحوت) و (ظلمة بطن الحوت) و(من المسبحين) و (الحوت يلفظه على شاطئ اليم وهو معاف سليم)، غمره الهدوء، فتح عينيه وغادر ذكرياته..

“حيييييييي”

لم تزعجه الكلمة هذه المرة بل شعر بها تهز كيانه!

“الله، الله”

ثلج يغمر قلبه، يعقبه شعور بالطمأنينة!

“مددددددددد”

بدأت المشاهد تتداخل من حوله..

“قمر، قمر، قر سيدنا النبي، قمر”

ساد عقله الصمت، وسكنت السكينة قلبه، وفاضت بالرضا نفسه، هدوء تام لم يعد يسمع معه أي صوت..

في نعومة بدأ الناس من حوله يتحولون إلى كيانات بيضاء دون ملامح أو تفاصيل، كيانات تشع بالضياء، ثم برز له جناحان طار بهما في السماء وسط رائحة ذكية أنعشت روحه..

رأى على مرمى البصر جنة خضراء، رفرف بجناحيه في سعادة وهناء، غاص في بحر من النور وهام في الصفاء..

وعندما عاد، دلف بقدميه إلى حلقة الذكر، والشيخ يأخذ بيده ويوقفه بجواه في وسطها تماما، وهو يضحك تلك الضحكة المميزة، ضحكة المجذوب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى