مجموعة كونسيرتو دنيسوس للقاصة التونسية لامعة العقربي

حميد عقبي | فرنسا

الخمر والبرد والشوارع الفارغة

نشتم رائحة الخمر يفوح بقوة  وفراغ الشوارع وقسوة البرد وشخصيات مدمرة من الطقس والخمر والمجتمع وعوامل عديدة نحتاج لتأملها والبحث عنها في “كونسيرتو دنيسوس” للقاصة التونسية لامعة العقربي،   والتي ستصدر قريبا جدا عن دار الثقافية للنشر و التوزيع بالمنستير، كما ستشارك القاصة في ملتقى القصة القصيرة العربية في رحاب المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح والذي ينطلق من 6 إلي 11 أبريل الجاري وستكون فرصة اخرى لنستكشف لامعة ومعها 24 قاصة وقاص يشاركون في 11 ورشة خلال هذا الملتقى بوجود أكثر 30 شخصية أدبية من النقاد والكتاب وضيوف الشرف وهذا سيمنح الكثير من الفائدة والتفاعل لمحبي القصة القصيرة ومبدعيها.

لنعد لهذه المجموعة باكورة جديدة وتجربة أولي للمبدعة لامعة العقربي والمعروفة بالشعر وكتابة بعض المقالات النقدية وتنشط أيضا في تنظيم الفعاليات الثقافية مع منتدى الرواية العربية بباريس والعديد من المنتديات التونسية وهي باحثة وطالبة ماجستيرفي مجال النقد الأدبي، وقد أخذت هذه المجموعة منها جهد ما يقرب من عام وعدة أشهر وتمت طبعتها تقريبا وبانتظار توزيعها قريبا.

الخمر والأمكنة

  تصور لنا الكاتبة شخصيات منهكة أتعبها السُكر، شخصيات غير مرئية وهامشية في فراغات قد تكون شوارع مرهقة خاوية كما في قصتها الأولى “شارع ضيق لعابرين كثر”، أو “ذاكرة اليل” والتي تميل من اللحظة الأولى لتصوير الزمكان ولا أقول وصف “يجر قدميه على الرصيف مترنحا متبعا انارة الشارع الطويل التي تنير بتذبذب بين الحين واألخر، كانت الساعة الواحدة ليال عند عودته من الخمارة حامالا في يده قنينة خمٍر رديء.”

 مشهدية كئيبة

هذه هي لامعة تربط بين الخمر والأمكنة مفتوحة ومغلقة، الشخصيات مرهقة، منكسرة، حالمة، متعبة، تعزف القاصة لحنها بشكل تصويري لخلق مشهدية كئيبة، في قصتها (معطف ) بمكان داخلي ضيق وبارد، البرد يخلق ما لا تخلقه الشمس، يحبه من لهم موقد ومعاطف وخمرا جيدا ولكن هذه المخلوقات المرهقة التي تتابعها لامعة فالوضع مختلفا وكارثيا، وهي لا تكفي بالتلصص عليها، بل تقترب بشجاعة للتصوير من قريب الأيادي والأصابع المرتعشة، الشفاة الداكنة بزرقة من نكهة خاصة تشبه بصمة ملك الموت الذي يتركه على أجساد الجوعى وضحايا الكوارث.

“لم يكن المطر مستقيما في هطوله، كان مائلاً أخًذا اتجاه الهواء فتسرب الماء من تحت خشب الشباك الخلفي مما اضطره لوضع قطعة كبيرة من القماش أو ربما قميص قديم على حاشية الشباك وهكذا يطمئن من أن المياه لن تغمر أشياؤه الصغيرة عند ذهابه للعمل.”

الرسم بالكلمات

تمتلك القاصة مفراداتها الذكية ولا تتنازل عن الرسم بالكلمات وربما الملكة الشعرية نجدها تثري بقوة خيوط السرد ولكنها تبتعد عن تعقيدات بلاغية وحشو رمزي ليتفجر نوعا جميلا فخما وسهلا “لم يكن المطر مستقيما في هطوله، كان مائلاً أخًذا اتجاه الهواء…” بعيدا عن التقرير والوصف تُطعم القصة بمذاقات شعرية دون أن تخرج القصة القصيرة من جنسها الأدبي فهي تتشابك مع شعرية نثرية وكأنها نوعا من الزخرفة الجمالية مفعمة بميتافور، كأن كل شيء أصبح مخمورا حتى المطر يتلاعب به الهواء ويتسم بالميول والترنح، تقدم لامعة نموذجا أنيقا فهي ككاتبة شابة تحاول شق طريقها دون الاعتماد على النقل من هذا أو ذاك.

تتشابه الشخوص قد يقول أحدهم كأنها شخصية واحدة!

بالتمعن ندرك أن هنالك مشتركات مكانية وزمانية، مناخات باردة، الخمر في أياديها وحتى الحار من الأشربة ككاس الشاي تذهب سخونته، هذه الإشتراكات تُقدم بصيغ مختلفة، القاصة تتلصص من بعيد، تقترب، تصور، تأخذ زوايا متنوعة وهذا يحسب لها وليس ضدها.

محاولة لقراءة  الواقع  بكل تناقضاته

هنالك إيقاعات بعض الجمل أشبه بالعزف في وصف الأماكن المرهقة وساكنيها وأشعر أنها أكثر حرفية وشاعرية من وصفها مثلا للفندق الفخم أو زبائن هذا الفندق الذين يسلمون الشخصية معاطفهم ولولا محافظة القاصة على متابعة هذا المرهق حتى في هذه الفخامة ظل متعبا وأجد أنها أكثر براعة في تناولاتها للبرد والخمر والفراغات والشخصيات المخمورة المترنحة ولم أشعر بنفس براعة التصوير لشخصيات برجوازية، أقصد بقصتها المعطف وهذا لا يقلل كثيرا من قيمة القصة وما تحاول النبش في الواقع  بكل تناقضاته فالأناقة لمن يعمل في الأمكن الفخمة تعجز أن تستر بؤس أولئك الخدم والبذلات والزي يظل مجرد أقماشة تحتها أجساد منهكة ولعلي تمنيت أنها قدمت تصويرا لهذا لجسد هذا المتعب ولحظات لبس زي العمل لآن ذلك يتطلب منه تحولات فيزيائية وروحية فعليه أن يجعل جسده مستقيما ويملئ وجهه بالإبتسامة ويوحي لكل زبون أنه أيضا سعيد ومبتهج، فهنا الزي كأنه بل هو جلدا ثانيا وتتطلب منه روحا أخرى.

في قصتها الخامسة “عقل و نصف”، كالعادة شخصية بائسة ومسحوقة وأيضا سجينة، تكاد البداية تقودنا بعبارات تتبع مخلوقة صغيرة في فضاء رحب وإنسان سجين بزنزانة ضيقة لكنها يبدو على مشارف العالم الخارجي، نستنتج في الأخير أننا مع سجين سياسي وهو من البسطاء الذين لا يتذكرهم أحد أذا دخلوا السجن أو حتى خرجوا منه، النملة لا تشعر بضيق المكان وقد تجرفها نسمة هواء، شخصيا كنت مستمتعا بالقصة ولم أستحب النهاية وفضلت إستشعار هذه العلاقة الحميمية والجدل بين السجين والنملة ومفهوم الحرية، وقلت في نفسي أمسكت يا لامعة بدهشة ممتعة ليتك تمسكت بها للنهاية وأعجبني هذا التصوير ” هنالك منافذ عدة لنملة صغيرة بحجم فتات خبز رقيق ، ويشير بأصبعه المرتجف و المحدودب كظهر القوس.”

وأيضا أستحسن مشهدا قرب النهاية.. يقترب وقع الخطى أكثر و بحركة لا ارادية يضع أصابعه في أذنيه ثم يلتقط اللحاف و ينبطح أرضا و يغطي نفسه و النملة حتى لا تدوسه الخطوات الثقيلة، تحت اللحاف يطوق النملة الصغيرة بكفيه و هو يهمس : لا تتحركي حتى لا يكتشفو أمرنا .”

ربما كانت النهاية هنا أقوى وتدعو القارئ للمشاركة وشخصيا لا أفضل النهايات الحتمية وأميل للمونتاج الجدلي الغير مباشر كونه يخلق عوالم شعرية أو على الأقل شاعرية، أشياء عدة تعاملت معها الكاتبة كمصورة تلتط المرآة التي فقدت نظارتها وتربطها بالقاطن هنا الذي يتحأشى النظر إليها أو لنفسه وأجد التصوير أصدق من الوصف الذي قد يهبط بالنص.

شخصيات لها رؤية مغايرة تتصادم مع مجتمعها

شدتني قصة “بيرة ونصف” وشعرت بها كسينمائي كأنها نواة خصبة لفيلم سينمائي مدهش للفكرة وأيضا المعالجة بغض النظر أن تحولات أو تعديلات ممكن أن تُنضج القصة أكبر وهي ليست كثيرة، فهذا السكير يغضب لارتفاع سعر البيرة ويفضل إرتفاع سعر الخبز، فعلا شخصية لها رؤية مغايرة والبيرة كما نفهم أنها تجعله قادرا وشجاعا على سب الساسة لا يفرق بين اليمين واليسار، تم اللقاء مع رجل عجوز على الرصيف يطلب خبزا، جدلية اجتماعية وتصوير لواقعنا المصاب بالنكبات وليتك يا كاتبتنا لامعة لا تذهبي وتفصحي فالصورة لا تحتاج لشروحات ولو كانت قليلة، لدى القاصة التونسية لامعة العقربي الكثير من الأدوات بحاجة لتطويرها أكثر.

وحتى لا ظلم القاصة نختتم بقصتها العاشرة (كونشيرتو) وهي  أيضا تتناول شخصية محبطة في ليل أسود وكأنه عائد من حانة، يركل الحجر والهواء في شوارع خالية إلا من بعض الكلاب المتشردة وهنا يسمع صوت بكاء ويقاوم في رفض السماع، عاطفته تقوده للبحث عن مصدر الصوت، يمكننا أن نفسر الشابة بأكثر من مجرد خيالات سكير قد يرى ما لا يراه غيره، وهنا أيضا شعرت أن النهاية أفسدت كثيرا وهي نهاية يستخدمها الضعفاء في الكتابة أن تكون القصة مجرد حلما، كان الوصف التصويري جيدا وحتى تعريف الشخصية لليل جذابا عدا كلمة أشباح شعرتها تُخرب أشياء كثيرة بنيت رغم أننا مع قصة قصيرة إلا أن كلمة واحدة قد تحرق لذة التذوق، هذا السكير يلتقي بالهواء ويركله ويركل الحجر ويقول أو يردد”وإن كانت تبكي ذلك أمرُ لا يعنيني، فالليل لهكذا طقوس كان، للدخان والمشي والبكاء والصمت إنه قابل لكل الأفعال أقدسها وأشنعها.”

تتوفر عناصر الصراع حتى لو كان الحدث بسيطا وهذا يجعلني أدعو القاصة ألا تقع في مشكلة دعم المتلقي بإيضاحات قد تكسبك قارئ وتجعلك تخسر عشرة.

قد تكون لغيري قراءة مخالفة وخاصة أن هنالك بقية القصص لم اتطرق لها وستناقش هذه المجموعة في الجلسة الختامية لملتقى القصة القصيرة العربية في رحاب المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح وبحضور ضيف شرف الملتقى د. مصطفي الضبع والناقدة د. ثريا بن شيخ وضيف الورشة الفنان التشكيلي عبدالهادي شلا وذلك مساء الأحد 11 أبريل عبر منصة المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح، نتمنى لها ولكل مبدعي ومبدعات القصة القصيرة التوفيق وتقبل النقد بروح أدبية فالإبداع يحتاج لممارسة وتفاعل ولا يمكن الوصول إلى الكمال التام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى