الدكتور الطاهر مكي تحية وفاء

د.  جوان عبد القادر عبد الله  – جامعة سوران| إقليم كوردستان – العراق

   بدايةً؛ أُعرب عن مشاعري التي اختلط فيها التقدير بالحنين، لعَلَمٍ من أعلام الأدب العربي، وقامة أكاديمية كبرى، إنه العلَّامة الطاهر أحمد مكي (رحمه الله)، الذي شرُفتُ بـأستاذيته، وذلك حين أسعدني القدر بإشرافه على رسالتي العلمية لنَيْل درجة الدكتوراه، حينما ابتُعثت إلى مصر.

     ذات صباح جمعني لقاء برئيس قسم الأدب بكلية دار العلوم، طُرِحَتْ عدة أسماء للإشراف على رسالتي، وكم غمرتني السعادة حينما أُعلن اسم الطاهر أحمد مكي مشرفًا، أحسستُ بأنني أحلم، فلطالما قرأتُ له، ولطالما تعرَّفتُ إليه من كتاباته وإنجازاته الكبيرة، ولطالما حلمتُ أن التقيه مجرد لقاء، وكان اللقاءُ، وظلَّ ممتدًّا.

     التقيته لأول مرة في مكتبه بالكلية معجبةً بتواضعه الكبير معي، عرَّفته بنفسي، وكنت في داخلي أكاد أطير فرحًا، وازددتُ إعجابًا بقيمته حين دخل أحد الأساتذة الكبار في الكلية مُسلِّمًا على الدكتور الطاهر مكي ومُقبِّلًا يده قائلًا: هذه بركة أسبوع! يومها أيقنت أن الحب والتقدير للطاهر مكي لا يقتصر على طلبته، بل إن الأساتذة، والعاملين في الكلية جميعهم، يُكنُّون له محبَّةً وتقديرًا بلا حدود.

     أدركت منذ هذا اللقاء ما تتمتع به هذه الشخصية من قيم ومبادئ نبيلة، فقد كان لطلبته والدٌ قبل أن يكون أستاذًا، فما زلت أذكر سؤاله عن العراق وكوردستان، وظروف إقامتي في مصر، مطمئنًّا بحنانه الأبوي على أحوال معيشتي، حينها أحسستُ بالحب والعطاء والمشاعر الجميلة التي تسكن هذا الإنسان النبيل. وبدوري كنت أتمنى أن أطَّلع على شيءٍ من حياة هذه الشخصية الراقية، فسألته عن بعض نواحي الحياة والأدب، ثم دفعني الفضول فسألته عن أولاده: هل هم -أيضًا- يعملون في مجال الكتابة والأدب؟ وسألته عن عددهم، فأجابني: عددهم كثير! ثم استدرك قائلًا: أنتم جميعًا أولادي، أنتم ثروتي الحقيقية، ومن اليوم أنتِ ابنتي، وما زال صوته يرن في أذني وهو يناديني: ابنتي. صدقًا أحسست معه بأحاسيس الأبوة الحقيقية؛ لا سيما أنني كنت أفتقد أبي بعد رحيله عن عالمنا منذ مدة ليست بالقصيرة، فأدركت فعلًا أنني محظوظة بأستاذيته وأبوَّته معًا.

     أعطاني كذلك أول درس في مسيرتي العلمية معه، حينما منحني دعمه وأكدَّ ثقته بإمكانياتي وقدراتي، فكان يكتفي بتوجيهي في العمل، وأحيانًا كان لا يجد متسعًا من الوقت في الجامعة، فأتصل به، ويستقبلني في بيته، ويفتح مكتبته الكبيرة أمام استعاراتي، ويخجلني بكرم ضيافته بأن يقوم ويحضر بنفسه الشاى لتلميذته، ويسألني أكثر من مرة إذا ما كان هناك شيء ينقصني كوني طالبةً مغتربةً، الأمر الذي أكَّد طوال فترة عملي معه أنه ليس مجرد أستاذ كبير فقط، بل إنه أب حقيقي، يشاركني هذا الشعور كل من تتلمذ على يديه.

     وتمرُّ الأيام، وكلما اكتمل فصل من رسالتي كنت أضعه بين يديه، فكان يُغنيني بملاحظاته السديدة، مع عبارات التشجيع والتبريك لكل ما أكتب، وعندما وصلَتْ رسالتي إلى مراحلها النهائية،  مرض الدكتور الطاهر مكي، ودخل المستشفى، يومها أحسست بقلقٍ بالغٍ عليه، ولمدة أسبوعين لم أستطع الاتصال به، فعزفت عن الكتابة في تلك الفترة، لأن قلقي عليه كان أكبر من أن أتجاوزه، ثم عاد إلى عمله مُعافًى، ليعود معه الجهد والمثابرة، وبفضل جهد إشرافه أنهيت رسالتي، لأقدمها بين يديه، فيمنحني شرف موافقته على طبع الرسالة وتقديمها للمناقشة، لأحصل على درجة الدكتوراه بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى.

أستاذي القدير، أكتب هذه الأسطر في ذكرى رحيلك اليوم كي أخبرك أن ذكرك باقٍ معنا بما أودعته فينا من علم وخُلق، فإنك إن رحلتَ جسدًا فقد بقيَتْ روحك معنا، ترشدنا في كل خطوة نخطوها -نحن طلابك- نحو المستقبل، توجهنا في طريق العلم والحياة، وتدعونا إلى إحياء التراث والاعتزاز به، وتدفعنا إلى الأصالة والتمسك بالقيم والمبادئ الرفيعة.

     أستاذي الجليل، لقد تعلَّمت منك الكثير من الدروس: التواضع، والتسامح، وتقبُّل الآخرين، والإيثار، والمثابرة، وعدم التأخر على الآخرين بمدِّ يد المساعدة، وذلك من خلال تعاملاتك علميًّا وحياتيًّا.

     أستاذي الطاهر أحمد مكي:

     والدنا الحبيب، أنتَ معنا دومًا في صلواتنا لا يمكن أن نستثنيك من دعواتنا..

     فإلى روحك الطاهرة المحبة والسلام وخالص الدعوات بالرحمة والمغفرة والرضوان.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى