مُتعةُ أكيل.. وحسرةُ صياد!

صبري الموجي| رئيس التحرير التنفيذي لجريدة عالم الثقافة
هُناك قِبلي القرية بني الحاج محمد عبد الشهيد –  رحمه الله – لأسرته دارا من الطوب الَّلبن، عبارة عن طابقين : أرضي وعلوي، الدور الأرضي له بابٌ ضخم عبارة عن درفة واحدة، تسمعُ لها عند الفتح والقفل أزيزا كأزيز الطائرات، يُؤدي الباب إلي بهوٍ ضيق إلي حدٍ ما يسمي وسط الدار، يقود إلي غرفة مَفروشة بالكنب (الإسطنبولي) تُسمي(المندرة) أو حجرة الجلوس، وفي الطابق العلوي كانت حجراتُ معيشة الأسرة التي عُرفت باسم (المقاعد)، وكان المقعدُ، إلي جانب الحضير، والحمام هو بيت الزوجية الذي تُرحب به أي عروسة، فتشعُر أنها مَلكت الدنيا، وذلك قبل حُمى المُغالاة في المهور والمفروشات، التي كسدتْ بسببها سوقُ الزواج.
كان إلي جوار تلك الدار شجرةٌ توت مالتْ أغصانها علي ترعة جرت قُبالة الدار، فصنع ميل الأغصان خيمة من غصون الأشجار وأوراقها، كثيرا ما جلس الغادي والرائح تحتها لينعم بظلها الظليل، وماء الترعة الصافي، ويستمتع بأسراب البط والأوز وهي تسبحُ في ماء الترعة كما لو كانت بوارج بحرية.
وإلي جوار تلك (التوتة) كانت هناك مصطبةٌ نجلس عليها ونأكل من ثمار التوت التي تدلت أغصانها علي تلك المصطبة، فنشعر مع تلك الأبهة أننا في جنة الخُلد، بجوار تلك المصطبة كان هناك إناءٌ من الفخار، مخروطيُ الشكل مُتسعٌ من الوسط، ويقل اتساعُه قليلا من أعلي حيث توجد فتحة الإناء، التي يُوضع عليها غطاءٌ مُستدير من الخشب عليه كوبُ للشرب يسمي (كوز)، ويضيق هذا الإناء من أسفل، ليُتاح وضعُه في حاملٍ من الحديد، وقد عُرف هذا الإناء في ريفنا المصري باسم (الزير)، دأبت أسرة صديقي علي ملء هذا الإناء مساء، ليتنفس الصبحُ وقد برد ماؤه، فيُقبل عليه الناسُ يشربون منه ماء عذبا، يروي ظمأهم في هاجرة الصيف، وقيظ الظهيرة.
كانت هذه الدارُ هي مُتنزه (الشِلة)؛ لينعموا بجمال الترعة والأوز وهو يسبح ويصيح، فيمتلأ المكان بضجيج مُستَملَح، يختلفُ عن ضجيج اليوم الذي تشيبُ له الولدان، وينعموا أيضا بنسمات الهواء العليل، حيث الفضاء الواسع من جهات الدار الأربع، وهدير الحمام، الذي تتوالي فيه أصوات الحمام بنغمات عذبة لا تجد فيها صوتا نشازا.
كان هذا المكانُ الساحرُ ملاذنا للفسحة والاستجمام، أو قُلْ هو المَشفي الذي نهرع إليه مُحمَلين بالهمّ، فيستحيلُ همنا فرحا وخوفُنا أمنا، وحدث أن دب الضيقُ إلي نفسي يوما، فيممتُ وجهي شطر تلك الساحة الغناء؛ وإذا بصديقي إيهاب قد خرج في رحلة صيد سمك من تلك الترعة وبئر جاورتها، بعد أن ألقي فيهما شباكه مُستغلا موسم الجفاف، وبسؤالي عنه جاءني الخبر اليقين، بأنه يصطادُ في الترعة، فكانت فرحتي فرحتين، أولاهما بالفسحة ومُتعة الصيد، والثانية وهي الأهم والأكبر، بوليمة السمك التي جاءتني من حيث لا أدري ولا أحتسب، خاصة أنني من عشاقه الذين لا يرضون عنه بديلا.
وعاد صديقي برزق يومه من السمك، الذي لاقي في صيده الأمرَّين : بردا وطينا، وأسرع بتنظيف السمك وشيّه، وتسخين الخبز وعمل السلاطات، ثم قَدِم بصينية الطعام وهو يُردد قولَ مسكين الدارمي:
طعامي طعامُ الضيفِ والرحْلُ رحلُه.. ولم يُلهني عنه غزالٌ مُقنع.
ويُردد أيضا قول المُقنع الكندي:
وإني لعبدُ الضيفِ ما دام نازلا.. وما شيمةٌ لي غيرهُا تُشبه العبدا.
أخذ صديقي يُردد هذه الأبيات جهلا بما يخبؤه له القدر، فقد استضاف من هو مع السمك لا يعرفُ أما ولا أبا، إذ انكفأتُ علي وعاء السمك لا ألوي علي أحد، أنزعُ الرأس عن الجسم والشوك عن اللحم، وفي لمح البصر أذر السمكة مُجرد سلسلة من الشوك، دون أن ألتفتَ إلي الخبز والسلاطات، التي أتعب في تجهيزها نفسه، وأثناء ذلك بدرتْ مني إليه التفاتةٌ، فإذا به يتخذُ لنفسه من الحجرة مكانا قَصيا، وجلس شاخصَ البصر فاغرا فاهه، ثم بادرني باقتراح، في ظاهره الرحمةُ، وأعلم أن في باطنه العذاب، فقال بصوتٍ حبسه الحُزن : كُلْ خبزا مع السمك حتي تشبع، (فعملتْ نفسي من بنها)، وهو مثلٌ عامي يُقال لمن يتغابي، أو يعمل ( ودنا من طين، وودنا من عجين)، مُتجاهلا طلبه، فلما ضاق ذرعا، وأيقن أن تعبَ يومه وحلَمه بأن يستمتعَ بوجبة سمك شهية قد ضاع مع هذا الوافد الذي لم يكنْ له علي بال، قال مرةً أخري بقلبٍ مُنفطر، وصوتٍ مُتهدج : قلتْ لك كُلْ بخبزٍ حتي تشبع، فرددتُ أنني لا أستمتعُ بالسمك إلا إذا أكلتُه وحده، فقال بغيظٍ : إذا فاستمتع به في داركم، ودعنا نأكلْه كيفما نشاء، ولكنْ بعد فوات الأوان، إذ أضحت صفحة الوعاء بيضاء، وجلس إيهاب يندبُ حظه، ويبكي حاله.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. لي ملاحظتان..
    الأولى: أنّك تستخدم الياء المقصورة في موضع الألف المقصورة، مثل قولك ” بني لحاج..“ والصواب أن تقول: بنى الحاج.. بالألف المقصورة آخر الفعل وليس الياء.
    الثانية: أنّك فسرت المثل الدارج ” عملتْ نفسي من بنها.. “ على هواك، بأنه يعني التغابي، وهو ليس كذلك، فمعنى المثل هو التجاهل عن قصد أو ”الطناش“؛ ففي قولك التغابي اتهامٌ ضمني لأهل بنها بالغباء وهو ما لم توفق فيه، خاصةً أنّ المقال موجهٌ لأهل بنها وقراها ومراكزها بالأساس.
    والتعليق الأخير على الموضوع أنه يفتقد الهدف خاصة أنّ به عناصر تكرر ذكرها من قبل، فلربما لا تستهوي هذه المعادلة اللفظية ،التي ذكرتها، غير أبناء قريتك، أو عدد قليل منهم، فمعظم أحداثها ملموسة إلى الآن فلن تُشكل عامل جذب للقارئ.
    ولو أنّك حدثتهم عن ماضٍ يجهلونه، شارحًا فيه ثقافة قريتك قديمًا لكان أوثق به أن يجذب القارئ.
    وما يثري الموضوع حقًا هو اللغة القوية والعبارات الجزلة والتشبيهات الفتية الوثيقة الصلة بالمعنى العام للمقال.. تقبّل رأيي ودمتَ سالمًا.
    متابع لكتاباتك بشغف.

    1. شكرا لتعليقك الراقي، وتوجيهك الرشيد، الذي أسعدني غاية السعادة، وأعدك بأنني سأراعيه تمام المراعاة، لكونها بناء .. دمت راقيا رائعا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى