إلَّا الصومَ فإنه لي

صبري الموجي|رئيس التحرير التنفيذي لجريدة عالم الثقافة

من لطيف العبارات وبديع المعاني المُرتبطة بشهر رمضان المبارك، عبارةُ (إلا الصومَ فإنه لي وأنا أجزي به)، والمعني الواضح من الاستثناء بإلَّا كما هو متبادرٌ للذهن، وبحسب منطوق الحديث القدسي القائل: (كلُ عملِ ابن آدم له الحسنةُ بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، أن الله يكافئ العبد علي عمله الصالح جزاء وفاقا، فيُسبغُ عليه الفضل، ويبارك له في العطاء، فيكون جزاء الحسنة بعشرة أمثالها إلي سبعمائة ضعف، باستثناء الصوم فإن الجزاء غيرُ معلوم ولا مُحدد؛ ومرجعُ ذلك أن الصوم عبادةٌ عمادها الصبر، والصابرُ يُوفي جزاءه من ربه بغير حساب، مصداقا لقول الحق سبحانه: ( إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب).

كما أن هناك لطيفة أخري وراء تلك العبارة وهي، أن كلَّ العبادات العملية: (صوم وحج وزكاة وصلاة) باستثناء الصوم، قد تنصرفُ لله وحده، وقد تنصرفُ أيضا لمعبودٍ غيره قهرا وقسرا، ونأخذُ مثالا علي ذلك، الحجُ مثلا، فرغم أنه نسكٌ يتعبد به العبدُ ربه باعتباره ركنا من أركان الإسلام الخمسة، إلا أن التاريخ  يذكرُ أن بعض المتجبرين حاولوا صرفه لغير لله ، كما فعل أبرهةُ الحبشي، إذ أساءه أن يحجَ الناسُ للكعبة وبيت الله الحرام بمكة المكرمة، فبني كنيسة ضخمة في صنعاء، وجيَّش جيشا جرارا وتوجه به نحو الكعبةِ لهدمها؛ ليحجَ الناس لكنيسته هو، إلا أن حملته قد فشلت، وخاب مسعاه، بعدما أرسل اللهُ طيرا أبابيل أهلكت أبرهة وجيشه، وصاروا عبرة يذكُرها التاريخ كنهايةٍ لكل ظالمٍ مُتجبر، ولكنَّ المعني يظلُ قائما، أنه يمكن لحاكمٍ ظالم أن يُجبر رعيته علي الطواف ببيت يبنيه، وكذلك يمكنُ لمُتجبر أيضا أن يُرغم الناسَ علي السجود والركوع له وهما ركنان من أركان الصلاة، ونفس الأمر مع الزكاة، فقد يُجبر ظالمٌ أثيمٌ رعيته علي إخراج زكاة أموالهم له لتنفيذ مصالحه هو وتدبير شئونه الخاصة، أما مع الصوم فإن الأمر مُختلف، فلم نسمع أن حاكما مهما كان طغيانه أجبرَ أحدًا علي الصيام له، وهذا هو المعني المقصود من قول رب العزة ( إلا الصومَ فإنه لي ) : أي أن الصوم هو العبادةُ الوحيدةُ التي لا تنصرفُ إلا لله، أما بقية العبادات فقد تنصرف لله وقد تنصرف لغيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى