عبد الوهاب عيساوي يتربّع على عرش البوكر 2020.. لحظة الخروج من دائرة الشفوية

رشيد شعلال| بروفيسور اللغة والأدب العربي| جامعة عنابة (باجي مختار) الجزائر

 ما قبل النص:

حين يشعر المرء في أية لحظة بضرورة احتلال موقع ما من الوجود، فذلك حقهُّ في الحياة الذي ينبغي له أن يستثمر فيه؛ باعتباره حقّا طبيعيا للإنسان!! … وإذْ يحلم هذا الكائن الإنسان بتحقيق حضور نوعي في سلّم الحضارة الإنسانية، فليس ذلك بعزيز متى ما تهيّأت له الأسباب الموضوعية القاضية بذلك، ومن حيث كانت الأحلام حقّا مشروعا. وفضلُ ذلك أنّ الحُلمَ نشاطٌ عقلي يخوض الحالمُ في إطاره مشاريعَ حياتيةٍ على نحوٍ من المحاكاة( لأنّه لا يؤلِّفُ من العدم) قوامها الانسجام، وجوهرُها أنّها الأجود ممّا هو كائن، وأنها النزوع  الطبيعي للإنسان نحو التغيير …

          هي ذي حقيقة المشاريع الكبرى في الحياة؛ بما فيها النظريات والمنجزات العلمية والثقافية لم تكن في واقع الحال إلا أحلامًا وفرضياتٍ، توفرت لها أسباب النجاح من مواظبة وصبرٍ وإصرار… فتمكَّن منها طالِبُها فلانتْ له، واتّصفَتْ به على أنّه مدرِكها فنال بها الأجرين: أجر الدّنيا والدّين.

***

جوهر القول:

          في هذا الْمَعْلَمِ الدّالّ وُلٍدَتْ أعمالٌ أدبية أربعة في الجزائر الحبيبة، خطفت الأضواء وهي لا تزال في المهد، لم تأخذ حظّها بعدُ من الانتشار والتسويق! فإذا علمتَ أنّ صانعَها متخصّص في الإلكترونيك/ شعبة الصيانة، وأنه من مواليد 1985 بحاسي بحبح ولاية الجلفة يقال له ( عبد الوهاب عيساوي)، تأكّد لديك أنّ المشاريع الكبرى لمْ تكُ شيّأ، وأنها، في أصلها، أحلام وفرضيات مُحاكية لواقِعٍ افضلَ، وأنها قابلة للتحقيق عندما تُوَفَّرُ لها أسبابُ النجاح!! …

***

بعض هذه الأحلام ( الدّيوان الإسْبرطي) هي رواية للكاتب الجزائري” عبد الوهاب عيساوي” نال بها جائزة البوكر العالمية للرواية العربية لسنة 2020. وقبلها جائزة رئاسة الجمهورية( علي معاشي) عن روايته( سينما جاكوب) في 2013 . وفي 2015 نال جائزة آسيا جبار برواية موضوعها( سييرا دي مويرتي)!! وله مجموعة قصصية هي ( حقول الصفصاف) حظيت بالإشادة والتنويه في جائزة الشارقة للإبداع في 2013. وفي 2017 نال جائزة ( كاتارا) بروايته الموسومة بـ( سمر أعمال المنسيين).

هذه الأعمال الأدبية جميعا تتكئ على رصيدٍ قرائي مثّل مرجعية ثقافية تاريخية، تعامل معها الروائي أدبيًّا في إطار جنس السرد، معنى ذلك أنه هيّأ لها سياقا مخصوصا تفاعَلَ فيه الحدثُ التاريخيُّ بوصفه مقروءًا مع الصياغة الروائية بوصفِها إبداعا، مع ثالثٍ يمثّلُ الرّصيد الفكري للكاتب بوصفه القوة الضاغطة التي يأخذ العمل الادبي بعض ملامحها الفكرية الأيديولوجية. وبذلك سجّل هذا الثالوث نوعاً من البعْث والحيوية العاملتين على إثارة نوعٍ من القلقِ المعرفي، والتناغم الجمالي مع النّصّ. وهنا جوهر أدبية النّصّ التي تصْدَعُ لدى المتلقي على نحوٍ من الجدّة غير المألوفة على الرغم من تقاطع الكاتب مع غيره في الاستثمار في التاريخ استثمارَ قارئٍ يُفَعِّل الحدث التاريخي في صورة موازية يلتحِمُ فيها الواقع المُحاكِي، بالموقفِ الناقد، بالصياغة الفنية، باللغة وسيلةً طيِّعة تجسّد هذه الشبكة من العلاقات بالتأليف بين مكوناتها الخطابية على نحوٍ مخصوص … وتلك إحدى محطات متعة النّصّ وأدبيّتُه! …

إنّ العمل الأدبي وهو يتشكّل شيئا فشيئا حتى يبلغ تمامه من الضّروري أن يتأسّس على مشروعٍ مُفادُه الفكرةُ الإطارُ التي تتحرك في مدارها المكونات الخطابية، وصياغة الحدث السردي القائم على تفعيل المكونات السردية للاضطلاع بأداء وظائف نصية( يعني مخصوصة بهذا النص لا بغيره؛ وهنا الديوان الإسبرطي)… ففي( الديوان الإسبرطي) يُسنِدُ الكاتب مَهمّةَ إنتاج الأحداث لأشخاص خمسة باعتبار صفاتها( أي اختصاصها) وهم:

  • المراسل الصحفي(ديبون) المرافق للحملة على الجزائر، وهو على الرّغم من مهمته الإعلامية، يقدّم نفسه نموذجا للمثقّف التنويري، حينئذٍ، الذي يخفي في ملامحه صورة المبشّر، وهو بالتماسه لهذه النزعة الروحية يبرّر الاحتلال الفرنسي على أنّه يمثّل الخلاص للجزائريين.

 

  • الجندي (كافيار) الواقِعُ أسيرًا في الحملة على الجزائر، وهو الذي يتمتع بخبرة عسكرية في جيش نابليون… وهو في النص الرّوائي يوظّف ماضيه العسكري في الحرب على الجزائر، مما يعني أنّ دوره في بنية الرواية عسكري صرف يناصب الجزائريين والعثمانيين العداء على حد سواء…

ثلاث شخصيات جزائرية تمثّل حضورا نوعيا ومحوريّا في العمل الروائي، تسهم كلّ شخصية بخصوصيتها الموقفية، ومذهبها في التعامل مع الوجود العثماني والفرنسي؛ ممّا يمكن تقييمه في ما يلي:

  • (ابن ميّار) الذي اتخذ من السياسة شكْلاً للتعامل مع العثمانيين والفرنسيين، ومن الطبيعي أن يكون مسلكه انتهازيا وهو الشخصية المقربة من الدّاي والتي تحظى بنفوذ كبير لديه، وابن ميّار هذا من أولئك الذين يرون في شمال إفريقيا تابعا للشرق ولذلك فإنّ الجزائريين بالنسبة لديه أتباع.

 

  • (حمّة السّلاّوي) الشاب الثّائر نشأ مشاكسا للعثمانيين متهكّما على الجيش الانكشاري؛ حتى انه كان يصنع عرائس قراقوز محاكية للأنكشاريين… وهو بصورة عامّة ذاك الذي يُؤْثِرُ استعمال القوة في إثبات الوجود لمواجهة العثمانيين والفرنسيين… ولذلك التحق بمقاومة الأمير عبد القادر التي وجد فيها ضالّته.

 

  • (دوجة) الموزّعة بين المذهبين ( التغيير السياسي و استخدام القوّة)، وهي من حيث علاقتُها بالمكان ( المحروسة: الجزائر/ الوطن) لا يسعها إلا أن تنصهر فيه وتتفاعل مع المكان حتى تكاد تصير إياه، وقد تجلّى ذلك في علاقة الحب القائمة بين السلاوي ودوجة، التي كان يريدها المزوار زوجة له، الأمر الذي دفع السلاوي إلى قتله لأنّه في نظره صورة للخائن وذي السمعة السيئة ولا بدّ لتخليص دوجة والبلاد والعباد من سوء صنيعه…

          تَخَيَّرَ الكاتبُ المكانَ المحروسة ( الجزائر العاصمة). والزمان الفترة ما بين 1815، و 1833 . وهي فترة خصبة بسبب الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت سائدة، والتي أنتجت مواقف سياسية تتقاطع حينا وحينً تختلف اختلافا بيّنا، وهو ما يعني نشوءَ نوع من الوعي لدى الجزائريين آنذاك يقضي بضرورة الانتفاع بحقّ المواطنة باعتبارهم أصحابَ الدّيار. والمعنيين باختيارِ نموذجِ إدارةِ شؤونِهم على النحو الذي يضمن لهم الحدود الدنيا لحياة كريمة وذلك ما جسده حمة السلاوي الذي كان يرى في الأمير عبد القادر نموذج الشاب المخلّص من جبروت الاستعمار واستئثار العثمانيين…

هذا هو الإطار الإديولوجي/ الفكري الذي يستثمر فيه الروائي عبد الوهاب عيساوي؛ بما يتّسع له من حيوية لا جرَمَ في أنّها تسعى إلى استيعاب التصوراتِ الإيديولوجيةِ المتجذرةِ في المحروسة( الجزائر العاصمة: ومن خلالها الوطن برمته) عبر تاريخها، والتي نتصوّر أنها تعكس الخِصْب الذي يتجاوب مع الطبيعة الإنسانية القائمة في جوهرها على الائتلاف في اختلاف…

لقد كان من معايير التميز والنجاح للروية أنْ تجسّدَتْ أحداثها وفنيات تَجَلِّيها بلغة راقية، وبأسلوب رشيق فصيح كان محل ثناء لجنة التقويم. لقد كانت لغة الرواية عاملا مهمّا في إبعاد هيمنة التاريخي على الجمالي الفني.

ما بعدَ النّصّ:

عنونتُ هذه الومضة القرائية بقولي : الخروج من دائرة الشفوية، وأشفعتها بثلاث نقاط وعلامتي تعجّب تلْوِيحًا منِّي لأهمية العمل وقوّته الفكرية والأدبية؛ بدليل حيازته لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية. وأعني بذلك أنّ الطاقاتِ المبدعةَ إذا خرجت من سَطْوةِ الشفوية إلى مجال التدوين والكتابة يمكن لها- بحكم المخزون الثقافي المتنوع، وخصوصية التعامل معهَ أن تسجّل حضورا تاريخيا محترمًا إلى أبعد حدّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى