الانطباع النفسي في نقد الشعر (3-5)

الناقدة والشاعرة ثناء حاج صالح/ ألمانيا

إن تشكّل انطباع نفسي إيجابي قوي عند الناقد، إثر قراءته الأولية للنص الشعري، يعني أنه قد أعجب بالنص . وشعوره بالإعجاب يعني أنه قد حدد موقفه من النص وانتهى الأمر . فالتأثير المباشر السريع لحالة الإعجاب هو الاستحواذ على الشعور وامتلاكه وتعبئته بطاقة محركة توجهه باتجاه واحد فقط ، هو اتجاه الرضا عن النص . وهكذا وبدءا من هذه اللحظات يصبح الناقد متحيزا للنص ومناصرا له . إذ يبدو أن  التحيّز النفسي أمرٌ لا مفر منه تحت تأثير الإعجاب .
ولأننا لا نتقبل منطقيا أن يكون الشعور ونقيضه قائمين معا في النفس وفي اللحظة نفسها، فسوف نفهم أن الشعور الواعي بعد تشكيل الانطباع الإيجابي القوي بلحظات قليلة، سيكون انتقائيا في تجنب كل ما يناقض الإعجاب.

وهذه الانتقائية تعني أن يتلمس وعي الناقد ويتتبع كل المثيرات الإيجابية في النص، في حين يمر على السلبيات دون أن يتمكن من ملاحظتها. وهذا يحدث فطريا كاستجابة انعكاسية لاإرادية، بحيث أن عقل الناقد لا يعاني صراعا في انتقائيته لأنه لا يدرك بعد بأنه متحيز ومندفع بتحيزه لملاحظة الجميل دون القبيح . والسبب في عدم وعيه لانتقائيته أن استجابته الإيجابية التامة (الإعجاب أو الانجذاب ) سيعقبها مباشرة من الناحية الفيزييولوجية العصبية مرحلةُ (استعصاء نفسي/ عصبي على الاستثارة) بأية مثيرات جديدة للنفور  مختلفة في نوعها عن المثيرات الجمالية التي سببت الاستجابة الإيجابية التامة .
وهذا الأمر ينطبق على الحالة المعاكسة أيضا فيما لو كانت الاستجابة تمثل انطباعا سلبيا (نفورا). إذ يليها مباشرةً مرحلة استعصاء نفسي/ عصبي على الاستثارة المعاكسة التي تمنع التأثر بمثيرات الإعجاب .
و يدرك الناقد إعجابه ويعيه ولا يدرك تحيزه وانتقائيته . ويؤدي إدراك الإعجاب كتجربة انفعالية سارة إلى ارتباط القارئ بالنص الشعري (الموضوع ). وكما هو الحال في طبيعة النفس البشرية عموما، فإن معاينة الجمال تثير الرغبة بتملكه، فهكذا يتملك القارئ أوالناقد النص كخبرة انفعالية جمالية سارة تضاف إلى خبراته السابقة . وبتأثير غريزة التملك أيضا يصبح المالك غير مستعد للتخلي عن ملكيته. فلهذا ستجده فيما بعد مرحلة الانطباع وأثناء المحاكمة العقلية سيعاني من صعوبة تغيير موقفه تجاه النص عندما ستظهر لوعيه بشكل جلي سلبيات النص وثغراته .لأن الانقلاب على النص واتخاذ موقف مغاير منه بعد اقتنائه يعني التخلي عما هو ملكية خاصة عزيزة ، والكشف عن عيوبه وسلبياته يسبب شعورا شبيها بشعور الشخص الذي يخرّب ممتلكاته بيده ، أو يفضح عيوب بعض أحبائه أو أقربائه ومن يلوذون به .
لذلك فإن المتوقع من الناقد الذي يرفض الانصياع لأوامر العقل في المحاكمة العقلية التي اتضح فيها سلبيات معينة في النص . أن يندفع وهو مشحون بطاقة الإعجاب من انطباعه الأول، في مناصرة النص والمحاربة بسلاحه لإعلاء قيمته الفنية التي يعتقد بأنه يستحقها بجدارة على الرغم من وجود السلبيات .
ولنشبّه هذه الحالة في عالم الميكانيك والفيزياء بحالة جسم متحرك (سيارة مثلا) اندفعت بتأثير قوة معينة وهي مزودة بسرعة معينة . فهي ستستمر في الحركة والاندفاع حتى تصرف كامل طاقتها المحركة التي تم تزويدها بها عند انطلاقها .وأثناء ذلك الاندفاع فإنها ستتغلب بطاقتها المحركة على قوى الاحتكاك البسيطة التي تعيق حركتها..لكنها مع استمرار صرفها لتلك القوة ستتباطأ بانتظام حتى تصل إلى اللحظة التي تستنفذ فيها قوتها المحركة كاملة. وفي هذه اللحظة فإن قوى الاحتكاك البسيطة هي التي ستغلبها وتجعلها تقف ساكنة في مكانها .
وهذا ما سيحدث بشكل مطابق في عقل الناقد عندما يكون قد فرّغ بعض ما امتلأ به من طاقة الإعجاب في تحليل بعض ما أعجبه من جماليات النص . حتى إذا وصل إلى منطقة تتناقض وذوقه وميوله فسوف يشعر بنوع من المفاجأة فيحجم ويقف ساكنا صامتا أمامها .وهنا وبتأثير العقل سيبدأ الصراع عنده في كيفية التخلي عن موقفه السابق واتخاذ موقف معاكس لضرورة الموضوعية في النقد ،و لن يكون هذا شعورا سهلا عليه كما ذكرنا ، بل وكأنه يتعرض لصدمة نفسية صغيرة إذ يكتشف بأنه مضطر لتحمل عبء تغيير اتجاهه الشعوري بشكل معاكس تماما . فهناك نوع من الشعور بالذنب سيراوده ، إذ يشعر وكأنه يقوم بخيانة شخص عزيز هو (النص الشعري) الذي يستحق منه التكريم لا الإساءة .ويتمثل الناقد شعوره بالخيانة أكثر إذا كانت تربطه بالشاعر صاحب النص علاقة طيبة .فهكذا يتضخم شعوره تجاه نفسه بأنه قد تلبسه كائن عدواني قاسي القلب هو من يملي عليه إيذاء النص الحبيب بدل التستر عليه مراعاة لشيمة الوفاء التي تقتضي الدفاع عنه لا إيذاءه بعد تلك الألفة التي ربطته به …
فنلاحظ الناقد هنا يشخصن الموضوع (النص الشعري ) ويمنحه شخصية صاحبه الشاعر الذي كتبه . لذا و في هذا الوقت العصيب قد يستمر الشعور بتأنيب الضمير حتى يدفع الناقد للتراجع عن عملية النقد الذي اتخذ قراره بتأثير انطباع الإعجاب .أو على الأقل فإنه سيحلّ الصراع بأن يجعل على نقده رقيبا من ضميره يمنعه من الغوص في تحليل الثغرات ويأمره بالمرور عليها مرورا سريعا ما أمكن . وكي يكفر الناقد عن ذنبه باتخاذ قرار الكشف عن الثغرات وما سببه من الإساءة للنص الحبيب .. سيحاول تعويض النص عن هذه الإساءة بزيادة جرعة المديح في منطقة جمالية أخرى لعله يجبر ما كسره من خاطر النص أو خاطر صاحبه .
وعلى الرغم من هذا الاحتياط بالمرور السريع على الثغرات والتعويض بزيادة جرعة المديح المخدرة في المواقع الجمالية فسوف يترسب في شعور الناقد الذي يستمر بالكشف عن الثغرات في كل نقد أنه قد أصبح مزعجا للشعراء أصحاب النصوص الشعرية .وهذا بحد ذاته سيعمل في نفس الناقد دوما على الكبح من جموح الحس النقدي وسيحد من حدة مبضع الجراح كما سيحد من مساحة الجراحة في النص . ولذلك ..وتجنبا لمزيد من إثارة عداوة الشعراء فإن القاعدة الذهبية التي يعتمدها معظم النقاد لضمان تحقيق الحد الأعلى من حرية النقد الموضوعي هي أن يكون صاحب النص الشعري في ذمة الله .أو أن يكون متحزبا في حزب معاكس لحزب الناقد وبذلك يسمح الناقد لنفسه بتحليل ثغرات نصه دون الشعور بخيانته والإساءة إليه كونهما يسيران أصلا في اتجاهين متعاكسين ولن يسبب الكشف عن ثغرات نصه شعورا يشبه خيانته .
وعندما لا يخشى الناقد من العواقب الاجتماعية لنقده الموضوعي بافتراض زوال أسبابها ، تبقى لديه مشكلة إخلاصه لانطباعه الأول في النقد . فالإخلاص للانطباع الأول فضلا عن أنه يمنع الناقد من التفرس في الثغرات بمقدار تفرسه في الجماليات ، فإنه يتحدى الناقد في أن يتمكن من الانقلاب على نفسه بنقد السلبيات بعد نقد الإيجابيات . وهذا من غرائب النفس البشرية أنها بطبيعتها الفطرية تفضل الانسياق في الاتجاه السابق على التوقف واختيار اتجاه تال جديد معاكس له . كما أن الإنسان عموما يجد صعوبة في أن يكون حياديا كي يتناول الثغرات كما يتناول الإيجابيات . وتأتي هذه الصعوبة من ردود الفعل النفسية المنجذبة للجماليات والنافرة عن السلبيات .فتفرس الجماليات يسبب انشراحا ومتعة نفسية كفيلة بدفع الناقد إلى تحليلها ، بينما تفرس القبح أو الثغرات هو بحد ذاته مزعج ويسبب انقباضا نفسيا يجعل المرء يشيح بوجهه عنه . فكيف إذا كانت الموضوعية تفرض على الناقد هذا الانقلاب من الانشراح إلى الانقباض إراديا؟
يتبع بإذن الله …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى