العوالم الشعرية والثقافية في مجموعة ” كسر في الوزن ” لـ ” حبيب الصائغ “

زكرياء الزاير |  شاعر وباحث – المغرب

 

العنونة ومطب المعنى

تبدو الكتابة الشعرية لدى الشاعر الإماراتي “حبيب الصايغ” مختلفة الأبعاد، كتابة لا تفصح عن نفسها بيسر. إذ يسير نحو إخفاء المعنى وراء الانفلات اللغوي الذي يبدو ظاهرا من خلال استعمال عناوين بارزة وعناوين فرعية؛ عناوين تبدو بمثابة تصنيف أو تبويب مرتب ومحكم. هذه العنونة من شأنها أن تخفي في طياتها الكثير من العمق، كونها تضفي على المتن إلغازا؛ بحيث تمنح الآليات الدلالية المستعملة في شعره مساحات كبيرة لإنتاج المعنى. وهكذا يبدو عنوان المجموعة الشعرية “كسر في الوزن” بمثابة تشكيل متناغم بنيويا ودلاليا لمحيط الكون الثقافي لدى شاعرنا. فأضحى ذلك مجالا لتوليد المعاني الافتراضية في تعالقها وتفاعلها مع بنية النص (كسر في الوزن/ كسر في الشكل /كسر في المعنى = تجديد في رؤية الشعر). وتلك هي لعبة الشاعر (هذا الشاعر/ الكاتب والقارئ الذي يتفاعل وينفعل) التي يبرع فيها ومن خلالها (لعبة المعنى).

فالمعنى لدى حبيب الصايغ لا يستطيع الملتقي الإمساك به بسهولة، بل عليه أن يعي جيدا الأبعاد المتداخلة فيه؛ أبعاد في مجملها نفسية وجمالية ودلالية. فتأويل نصوصه يحتاج إلى الكثير من التتبع والاستقراء للقبض على المعنى الظنين الذي تحفل به هذه النصوص العميقة، والتي تدفع القارئ إلى معرفة الحقيقة (حقيقة الغاية من الكتابة أولا وحقيقة الكتابة في ذاتها ثانيا) ومن ثمة تصبح قيمة النص، بتعبير عبد الله الغدامي في كتابه تشريح النص، في درجة تفاعله مع المتلقي وليس فيما ينتجه من معنى محدود.وذلك راجع بالضرورة إلى البحث المتواصل عن المراجع المختلفة.

 يقول الشاعر:

“النمور التي شاركتني المعاطف والبرد

والخطوات السريعهْ

النمور التي أرضعتني حليب النحيب

النمور التي آثرت أن تغني

مخافة أن يذهب الليل

النمور التي سكنت بيتنا قبلنا

النمور التي تتهاوى

وتدعو ابن آوى

نبيا قديما وتاه

النمور التي أيبست عشب جيراننا

النمور التي أورثتنا الحتوف الرشيقة

النمور التي أرهقتنا من النبش في ظلنا

تقول لنا الآن شيئا جديدا،

وتتركنا في مهب الظنون”(حبيب الصايغ شعر/ كسر في الوزن، ط1، أبو ظبي/ الإمارات 2011، ص 20.)

يتبدى لنا من خلال هذه المقاطع أنّ هناك محاولة بحث متواصل عن المعنى الذي يبدو كأنه يخفي ملامحه بشكل جيد. مما يدفع القارئ إلى تلقي النص تلقيا خاصا، بحيث يبحث عن اشتغالاته المتعددة التي تحقق له تفاعلا مع محيطه وسياقاته التي تتناسج مع نصوص أخرىفتشكل ما يسميه بارت الما سلف: ما سلف قراءته وكتابته ومشاهدته، أي النص المجتمعي والثقافي. فهذا الربط بين الحمولة الدلالية للقصيدة وبين ذاتية الشاعر يجعل للنص تجليات مفتوحة على التأويل. التأويل الذي يجعنا نحاول الإمساك برسائل عديدة من خلال خاصية التصوير التي تتكرر في الديوان بشكل لافت عن طريق الاستدعاءات المتواصلة، يقول:

“عندما يتناثر حول مياه الصداقة

يبدو كئيبا ورثا

ويجمع أجزاءه

ويبعثرها من جديد

واقفا يتلفت:

كيف تقاسمني الساحرون

وكنت لهم، مرة، حية

ومرارا حصاة

ويحاور حرباءه:

أين الأصل؟

كيف التقينا معا عند سطر الغياب؟(الديوان، ص 32)

يبدو أن المعنى هنا به شيء من التخفي أيضا حين يتقاطع بشكل جزئي مع قصة موسى وعصاه التي تتحول إلى حيَّة تسعى، وهي في الأصل معجزته التي أربك بها السحرة. هذا الاستدعاء من شأنه أن يترك أثرا لدى المتلقي عن طريقحمولته الرمزية. من هنا يكون الشاعر مدركا لظروف إنتاجه لنصه، هذا الذي يتراوح بين ثلاثية النص والكاتب ثم القارئ. فالتواصل الذي يحققه النص الشعري لدى شاعرنا يتم بفعل طاقات تخييلية تتوالد وتتجانس داخل المتن عبر عمليات فنية وإيقاعية مولِدة بذلك دلالات لا نهائية متحولة ومفتوحة باستمرار. يقول الشاعر:

“نما الحب من طرف واحد،

فأمال الهواء قليلا،

وغيّر طقس الحمائم في ليل أسرابها

لا تغني الطيور بأسبابنا

لا تغني بأسبابها

ربما حاولت أن تحدد موقعها في الكلام

البعيد”(الديوان، ص 143)

شعرنة ما لا يشعرن

وهنا أيضا تبدو لنا غائية الكتابة لدى شاعرنا التي يقرنها بالشرط الجمالي، فيبدو الأثر هنا كما لو انّه أثر حواس يجعلنا نقبل المحتوى الشعري على أنّه حقيقي وظاهر لنا لا لبس فيه بتعبير صلاح فضل في كتابه نظرية البنائية في النقد. هذه الحقيقة التي يصنعها الشاعر هي في الأصل حقيقة اللغة لديه ونظرته إليها وتعامله الواعي مع مكوناتها الجمالية والرؤيوية التي تكشف عمق ثقافة الشاعر وقراءاته. فيسير الشاعر هنا نحو اختيارات لغوية صعبة، وصعوبتها تكمن، كما سبق الذكر في المغامرة، مغامرة البحث داخل مناطق مهملة قد لا تبدو ذات حمولة شعرية من الوهلة الأولى، لكن الشاعر هنا يجعلها ذات حمولة عن طريق الاشتغال الخاص الذي يقوم به داخل اللغة ببحثه عن السهل الممتنع، عن التجريد، وعن تقريب الدلالة للقارئ بشكل لا يفقدها شعريتها حين يستعمل مصطلحات من قبيل (الهواء/ الصمت/ الرقم). فمن خلال التطلع إلى هذه المصطلحات تبدو لنا شائعة وسهلة ولا تحيل إلى معنى شعري، لكن حين تحضر في المتن، عن طريق مجموعة من الاختيارات تتفجر شعرا. وحبيب الصايغ يحسن ذلك عن طريق التصوير. إذ أنّ البناء التصويري الذي يختاره شاعرنا في هذا العمل، أو الأعمال الأخرى، يكون منسوجا وفق محتوى فكري ومشكلا (البناء) وفق تصور مسبق. يقول الشاعر:

“الهواء

محض شيء

وله الشكل أول ما يتشكل في حقله وهو

نيء

وحين يضج هواجسَ أو أمنيات

تسافر أطيافه في بلاد من الزغب المستحيل

وتزهر حتى يرى شبيها

في اخضرار يرى شبيها

وأوردة الفتيات النحيلات

واللابسات من الغيم

ما يتماهى وعري الكلام النحيل (…)“(الديوان، ص 34)

ويضيف:

“الصمت

لا علاقة للصمت بالكون أو بالتحقيق

وهو هنا الآن فعل من النفي لكنه خالق،

وإن قيل فهو تشظي الأقاليم في أوج

العرس

كيف نحدده في مكان،

ووجهته الضحك المتداول منذ ابتداء

الكلام؟

وليس له صلة بالكلام (…)” (الديوان، ص 32)

ويزيد:

“الرقم

علة تدعيه دواعيه،

لكنه كأساطيره بالحروق عليل

ومزيج من الصعب والصعب،

طين الحقيقة قبل اشتباك الجذور عن نطفة

فكيف يشيأ وهو جموح يسيل؟ (…)“(الديوان، ص 37)

يقول:

“أمر على أحرف اسمك بالقلم الذهبي

فقد يزهر السقف

قد يذهب الخوف حتى يراه المناضل ماء

أمرّ على النون سر اكتمال العناصر

فيكتبني حرفك النون في نسمة أو نشيد

على أفق من حرير (…)” (الديوان، ص 83)

يقول:

“.. ومنذ ثلاثين عاما ويومين

قاومت ساعة روحي

إلى آخر الضوء قاومتها وأخذت بأسبابها

صاعدا نحو حرية الطير حين يموت،

فينأى بأجنحة غير مرئية،

ويجرجر ذيل الخديعة في جسمه وهو

يسقط (…)“(الديوان، ص 71)

يقول:

“في الطريق الطويل إلى بابل حدثتني مهاة

عن النسق العائليّ

لا أميل إلى وجع تتبدد أسبابه كلما يتبدد

قلت: العواصف منذورة لهباء السنين.

وأبحرت في خاطري

حيث أولاد حتفي منشغلون (…)” (نفسه ص 67)

خلاصة

إنّ النص الشعري لدى حبيب الصايغ بحث ومغامرة محسوبة ينجح فيها دائما، لا لشيء إلا لأنه مغامِر يعرف جيدا شعاب القصيدة ومسالك الشعر. يعيظروف نشأة نصوصه، ويعيتموقعه من الحداثة الشعرية فيمثل لذلك بإدراكه الجيد لغائية الكتابة الشعرية، كما يعي البعد الثقافي الذي تحمله هذه الكتابة في تشكيل رؤية جديدة للشعر العربي، فيصنع جماليات جديدة على مستوى الكتابة بشكل عام. محتفلا بكل تشكيلات الحضارة العربية انطلاقا من التراث ووصولا إلى المجتمع العربي اليوم وما استحدث فيه من الأفكار والتصورات. فتكون بذلك نصوصه وثيقة شاهدة على عمق تحولات بنيات مجتمعنا في الفكر واللغة والثقافة وغيرها من مجالات الحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى